* لا يوجد مغن ظلم نفسه كثيراً.. أو ظلمته حكومة الإنقاذ مثلما الظلم الذي وقع على مطرب الحقيبة الباهر “محمد الحسن القيقم” الذي انتقل من أحد أفضل المجيدين لأغنيات الحقيبة، التي تتميز بالعاطفة القوية والشجن العالي والعبارات الجزلى، إلى مردد لأناشيد مدجنة ضعيفة السبك تمت كتابتها على عجل لتمجيد ثورة الإنقاذ، فكتب “قيقم” بيديه أول أسطر الضياع الفني.. وكانت شهرته كمغنِ الإنقاذ الأول وبالاً عليه.. فقد هجره حتى الذين كانوا يستمعون إليه في أغنيات الحقيبة ويستمتعون به.. لقد قضى “قيقم” كل ما اكتسبه خلال عقود بالخطوة (غير المحسوبة) التي ارتضاها طائعاً مختاراً فأصبح الآن مجرد ذكرى مغني حقيبة “عتيق” سابق.. ومردد غير ناجح لمشروع حكومة الإنقاذ التي أتت بآخرين غيره يجيدون التحرك في مساحات أوسع وقدرة مخاطبة أجيال أخرى من تلك التي كان يغلق عليها “قيقم” نفسه عندما كان مغني الإنقاذ الأول.. لم تشفع له عند الإنقاذ كل السنوات التي قضاها مبشرا بمشروعها.. ولا بارتهانه أدواته الإبداعية لها.. فلم يحصل على (عسل الإنقاذ) ولا عادت له ذاكرته الإبداعية المفقودة..
* ظلم الفنان الشاب “أحمد الصادق” موهبته كثيراً وهو يتعمد إهدار طاقاته الإبداعية كثيراً وهو يتركها تتسرب من بيد يديه.. ظلمها وهو يرقب أفول نجمه وغياب شمسه طويلا، ولا يستطيع أن ينتفض ليعود صوتاً شبابياً غنائياً قوياً.. آتى من بعده شقيقه “حسين” من الصفوف الخلفية ليتقدم عليه خطوات بعيدة.. ويتراجع “أحمد” صاحب الموهبة الأكبر والجماهير الأكثر حماسة له.. “أحمد” نموذج صارخ لكيفية تراجع القيمة الفنية للمبدع الشاب بعدم الاهتمام بها.. “ابن الصادق” هو كثير الشبه بمدينة الخرطوم التي كانت في حقبة ستينيات وسبعينيات القرن الماضي بقعة الضوء الوحيدة في أفريقيا وملتقى فني ثقافي مبهر تنصهر فيها كل الثقافات الكونية من أرمن وشركس ويهود وانجليز ومصريين وأتراك، وأصبحت الآن تشتكي من الإهمال والتراجع.. كذا الحال “لأحمد” الذي كان فتياً بموهبته وعافيته الفنية، كلاهما كان بعافيته وصخبه القوي وأضحى الآن أطلال ذكرى حينة..
* ظلمت عقد الجلاد تاريخها الفني والإبداعي والإنساني كثيراً ولعدة مرات بعد أن تخلت ربما عن عمد أو لظروف وقتية عن تميز انحيازها للجماهير وحدائها للفئات المسحوقة مرة. وبعد أن تخلت أيضا عن كثيرين ساهموا في صياغة هذا المشروع وجعله يتمشى بين الناس أملا ووعدا.. أمثال مغنيي الفرقة الأوائل أصحاب الوعي الكبير بالرسالة الفنية وعرابها “عثمان النو” واتت بمغنين ربما غير قادرين حاليا في إيصال المضامين المبدئية في رسالة العقد الاجتماعية والإنسانية..
جنت عقد الجلاد جراء هذا الظلم على جمهورها وعلى رسالتها وعلى المغنين الذين ارسوا دعائم المشروع الوطني والإنساني أن صارت تتخبط كثيراً وتفشل حتى في إقامة حفل وحيد بعد ماراثون طويل من الاحتقانات والصراعات وهي التي كانت تقيم حفلا راتبا شهرياً.. ويبقى السؤال الحارق: هل تستطيع عقد الجلاد تطييب جراحاتها وبعثرة ما تبقى منها كفرقة غنائية ملتزمة ذات أهداف مبدئية تنحاز للناس والجماهير مرة أخرى؟ نتعشم ذلك..