تطارده تهمة (الخيانة العظمى): (قوش) والغداء الأخير بمنزل (الإمام )… هل رمى بنفسه إلى التهلكة ..أم ..؟
في تطور متسارع للأحداث أعلنت الحكومة ــ أخيراً ــ أن ما أطلقت عليها الأسبوع قبل المنصرم مسمى العملية التخريبية لم تكن إلا محاولة انقلابية على النظام القائم كاملة الأركان والإعداد بما في ذلك تجهيزهم للبيان الأول وإعلانها كـ(ثورة تصحيحية بديلة)ــ طبقاً لمدير عام جهاز الأمن والمخابرات الوطني الفريق أول “محمد عطا المولى”، الذي قال، لدى مخاطبته أمس (الثلاثاء) الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التنسيقي الأمني لولايات شرق السودان الذي انعقد بمدينة بورتسودان، قال إنه اشترك في المحاولة الانقلابية عدد من ضباط القوات المسلحة والأمن ومن السياسيين ما يكفي لتنفيذ العملية وإكمال مراحلها، لافتاً إلى أن المجموعة المتهمة أعدت عدتها لتنفيذ (الخيانة) وحررت بيانها كثورة بديلة ولكن هيهات،وعلق: (نعدكم وعداً حقاً وصادقاً بأنهم سيعاملون بالعدل وبكل حسم لأن الخيانة هي الخيانة مثل طعم العلقم المر أياً كان مصدرها وأن العدالة هي العدالة لا تتجزأ ولا تستكبر أحداً).
حقيقة أم مؤامرة ..؟
أبرز الضباط المتهمين من القوات المسلحة وجهاز الأمن الذين أشار إليهم المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني كان الفريق (صلاح عبد الله قوش) رفيق دربه والقائد السابق لجهاز الأمن والمخابرات الوطني ـــ بحسب ما أعلنه وزير الإعلام “أحمد بلال عثمان” في المؤتمر الصحفي الذي عقده (الخميس) 22 نوفمبر الماضى، واكتفى حينها بتسمية ما كان بأنه محاولة تخريبية لا تشكل أي تهديد على استقرار البلاد وليس لها امتداد داخل الجيش أو الأمن أو الدفاع الشعبي.
كثير من المراقبين و(المشفقين) بدوا غير مصدقين بما طرحه وزير الإعلام بأن العملية كان يقصد به إحداث فوضى والنيل من بعض القيادات في البلاد وضرب استقرارها، وذهب بعضهم إلى تفسير الأمر بأنه سيناريو لمؤامرة حيكت ضد (قوش) ومن معه كإجراء احترازي وقائي تدفعه مخاوف من تصاعد حالة التململ التي شهدها المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) ومن خلفه الحركة الإسلامية على السواء، وارتفاع الأصوات و(المذكرات) بضرورة التغيير في الوجوه والفعل السياسي وكيفية إدارة الدولة خاصة في ملفات الاقتصاد والسياسة، لا سيما وأن إفادات وزير الإعلام لم تكن واضحة وقوية على نحو يعطي مبرراً لاعتقال أبرز قيادات الدولة الذي نُسبت إليه حالة الحداثة التي انتظمت جهاز الأمن والمخابرات الوطني.
وقال بعضهم إنه لا يمكن لرجل قضى عمره في جمع المعلومات والربط والتحليل وإصدار الموجهات لجهاز يمثل عمقاً إستراتيجياً للدولة أن يعمد إلى القيام بمحاولة انقلابية يتم اكتشافها ولملمة أطرافها بتلك السهولة والسرعة، ولعل معظم تلك الآراء والقراءات خرجت من ثوب وزير الإعلام الفضفاض غير الدقيق عن المحاولة التخريبية التي انقلبت بين ليلة وضحاها إلى (انقلابية كاملة الأركان والإعداد بما في ذلك تجهيزهم للبيان الأول وإعلانها كـثورة تصحيحية بديلة).
المحلل السياسي البروفيسور “الطيب زين العابدين” استبعد وجود مؤامرة في اعتقال المتهمين، ورأى أنه ليس من مصلحة الحكومة أن تشير إلى أن هناك محاولة انقلابية، ونبه إلى أن المجموعة المعتقلة هي من الضباط الإسلاميين الذين ساندوا الإنقاذ وقاتلوا لها، وقال لـ (المجهر) إن من بين المعتقلين “ود إبراهيم” محرر هجليج و”عادل الطيب”، ولا أعتقد أنه يمكن أن تفكر الحكومة في الزج بهم في شيء لا علاقة لهم به، وأضاف:(المحاولة الانقلابية حقيقة).
وأكد “الطيب زين العابدين” أن كل مشارك في أي محاولة انقلابية يعلم أنه يعرض نفسه لعقوبة الإعدام، مشيراً إلى أن المحاولة الانقلابية تتألف من شقين أحدهما عسكري فني وآخر سياسي، وقال إن العملية العسكرية الفنية إذا ما كان الإعداد لها دقيقاً وجيداً يمكنها أن تسيطر على السلطة، واستطرد: (لكن إذا لم تجد الدعم الداخلي فستفشل).
إفادات المحلل السياسي “الطيب زين العابدين” تناغمت مع تأكيدات العميد أمن (معاش) “حسن بيومي” بأن الأمر إذا ما تم تمريره محلياً فإنه لن يمر على الصعيد الإقليمي والدولي وأنه لن يكون مقبولاً، وأكد أن كلام العسكريين يختلف عن كلام المدنيين ـــ في إشارة للتصريحات الأخيرة للمدير الحالي لجهاز الأمن والمخابرات الوطني الفريق أول “محمد عطا المولى” وإفادات وزير الإعلام “أحمد بلال عثمان”، وقال لـ (المجهر): (طالما أنك ستحاكم أشخاصاً بتهمة الانقلاب على السلطة فذلك يستوجب وجود أدلة وبينات قوية تقدم للمجتمعين معاً حتى يتسنى لك تنفيذ أحكامك على المتهمين .(
ورأى “بيومي” أن هناك خللاً ما (لم يحدده) أدى لفشل محاولة “قوش” ومن معه، وقال: (ربما فشل “قوش” ومن معه لأن هناك خللاً ما)، واستطرد: (ربما كان من بينهم مزروعون قادوا لإفشال الأمر، ونوه إلى أن انقلاب “هاشم العطا” 1971 على الرئيس (الأسبق) “جعفر محمد نميري” فشل لأنه لم يكن لديه شعبية، فالحزب الشيوعي لم يكن مقبولاً من الشعب السوداني .
أمريكا وتأثيراتها ..
ولكن علماء الاستراتيجيات ينظرون إلى النصف الآخر من الكوب بما فيه من تكامل من أركان يمكن أن تسوق إلى محاولة الانقلاب على النظام القائم بعيداً عن المسميات والأفعال، فالتأييد الدولي والإقليمي بالنظر لعلاقة (الرجل) مع الولايات الأمريكية المتحدة وجهاز مخابراتها الـ (سي آي إيه) ليست بخافية على أحد، حتى أن أمريكا نفسها أقرت بها، وكشفت مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية السابقة “جنداي فرايزر”، لدى مخاطبتها مؤتمراً سودانياً خاصاً بالمنظمات انعقد بواشنطون منتصف مارس 2010، كشفت عن وجود تعاون على مستوى عالٍ ما بين المخابرات السودانية ورصيفتها الأمريكية (السي آي إيه)، وقالت: (عندما قمنا بضرب أفغانستان)، وقال الرئيس بوش: (إما أن تكونوا معنا أو مع الإرهاب اختار السودان التعاون الكامل معنا، وقدموا لنا ملفات قيمة تتعلق بالإرهاب والجماعات الإسلامية). وتابعت “فرايزر”:(صلاح “قوش” رئيس جهاز المخابرات السودانية السابق كان رجل أمريكا في السودان). ونفت “فرايزر” حصول السودان على مكاسب عبر تعاونه في مكافحة الإرهاب، وأضافت: (وكالة المخابرات الأمريكية لم تتدخل لتخفيف العقوبات عن السودان، لكن الحكومة السودانية مارست علينا ضغوطاً عبر محاولة حجز الحاويات وفرض رسوم جمركية عليها، وغيرها من السبل، لكننا لم نرضخ لتلك الضغوط).
مقدرة واشنطون في التأثير على مجريات الأحداث إقليمياً ودولية ربما ليست محور جدال وسط المراقبين والمهتمين لما لها من نفوذ وقدرة واضحتين على المستويات كافة، ويتضح ذلك في علاقة السودان بدول الإقليم والقارة الأفريقية وتعقيدات ملف القضايا العالقة مع جنوب السودان بما فيها الحدود والنفط ودعم الحركات المتمردة، وأيضاًً مسارات المحكمة الجنائية الدولية وإصرارها مدفوعة بأيدي (واشنطون) على استصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير” منتصف يوليو 2008 بتهمة ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور.
تساؤلات حول جوبا ..
الانفراج المفاجئ في شكل العلاقة بين (الخرطوم) و(جوبا ) يمكن أن يكون محل تساؤل، في ظل إصرار حكومة جنوب السودان الذي يمكن ملاحظته في الزيارة التي أعقبت الإعلان عن القبض على المتهمين في التخريبية ووصفت بالإيجابية لكبير مفاوضي جنوب السودان، الأمين العام للحركة الشعبية “باقان أموم” وإعلانه صراحة، في مؤتمر صحفي بمقر سفارتهم بالخرطوم (الأحد) الماضى، أنهم جادون في إنفاذ اتفاق التعاون الموقع بين الدولتين جملة واحدة بما في ذلك وقف دعم وإيواء الحركات المتمردة بما فيها الحركة الشعبية قطاع الشمال، وتأكيده في هدوء أنه يمكن تحقيق سلام واستقرار بين الدولتين في وجود حزب المؤتمر الوطني بذات الشخوص والمسميات، ما يشير إلى أن جوبا قد اقتنعت أخيراً، بعد أن فشلت كل محاولاتها في تغيير النظام القائم، أنه شر لابد منه.
مدير جهاز الأمن السابق كانت تربطه علاقات وطيدة مع متنفذين في الحركة الشعبية بجنوب السودان، يمكن قراءاتها من واقع أنه كان ممسكاً بملفات القضايا العالقة كافة بين الدولتين قبل إقالته، تلاحقه حزمة من الاتهامات بأنه كان مرناً في التعاطي حولها للحد الذي أوجد مناطق متنازعاً عليها بين الدولتين بما فيها منطقة 14 ميل كإحدى المناطق المحسومة ، وإبقائه لبقية ملفات التفاوض من حدود، بترول لما بعد انفصال جنوب السودان، مما أضاع على الخرطوم فرصة حل الملفات كافة قبل الوصول لانتخابات تقرير جنوب السودان لمصيره وانفصاله بعدها في التاسع من يوليو 2010 .
غداء الإمام الأخير وغضبة الحزب الحاكم ..
أما علاقته بالقوى السياسية المعارضة التي كان من أبرز خصومها ، تشير الوقائع والأحداث إلى أنها تباينت في استغراب ودهشة معاً، ما بين الرفض القاطع ــ أيام الإنقاذ الأولى ــ والقبول المطلق ــ آخر عهد “قوش” بجهاز الأمن ومستشارية الأمن العليا التي أبعد منها بقرار من رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير” منتصف أغسطس 2009 بإعفاء مستشاره للشؤون الأمنية “صلاح عبدالله قوش” من منصبه، على خلفية صراع نشب بينه ومساعد الرئيس، نائب رئيس المؤتمر الوطني لشئون الحزب د. “نافع علي نافع” حول حوار أطلقه (قوش) مع قوى المعارضة تحت مظلة مسشاريته ، إلا أن الأخير عارض الحوار باعتباره شأناً سياسياً يخص الحزب ولا علاقة لمستشارية الأمن به، لكن صلاح “عبد الله” قال إن مستشاريته ابتدرت الحوار بتوجيه من الرئيس ورعاية من نائبه وأنه مصر عليه لإخراج البلاد من حالة الاحتقان التي عليها، بيد أن هذا الزعم لم يشفع له وهو يستقبل نبأ إقالته من مستشارية الأمن العليا .
أمين أمانة المنظمات حينها بالحزب د. “قطبي المهدي” أكد أن ملاحظات عديدة أحاطت بنشاط صلاح “قوش” ودفعت إلى تقييم تصرفاته، وقال إن الرجل كان يرتب نفسه لرئاسة جمهورية السودان، وأضاف: (التحليلات توصلت إلى أن “قوش” وبعد أن سرت تصريحات بأن الرئيس لا ينوي الترشح مرة أخرى .. كان ضمن آخرين يرسم لأن يكون في هذا الموقع) واستطرد قطبي: (موضوع المستشارية يمثل جزءاً بسيطاً).
حزب الأمة القومي أحد أهم أركان القوى السياسية المعارضة، كان رئيسه الصادق المهدي رافضاً الدخول كطرف في حوار مستشارية الأمن بزعم أنها جهة أمنية، لكنه بدا مرتاحاً للتطمينات التي أشار إلى “صلاح قوش” حملها إليه، ونقلت وسائل الإعلام مطلع مايو 2011 أن “الصادق المهدي” سجل زيارة نادرة لصلاح “قوش” بمنزله بحي الخرطوم (2)، وقال زعيم حزب الأمة في تصريحات محدودة، إن سبب محاسبة “قوش” بالإقالة نتيجة لتبنيه رأياً صحيحاً تمثل في دعوته لضرورة الاتفاق على إستراتيجية بديلة لإخراج الوطن من المخاطر التي تحيط به خارج إطار سياسات المؤتمر الوطني، وأضاف “الصادق المهدي”، (أنا التقيت ب”قوش” وأحسست من حديثه أنه منفتح للحوار وبلا سقف من أجل معالجة قضايا الوطن خلافاً لكثير من قيادات المؤتمر الوطني بل ومتناقض معهم في أحيان كثيرة)،لافتاً إلى أن قيادة المؤتمر الوطني أدركت أنه يتحدث بلغة مختلفة عن لغتها خاصة وأنه أصبح يتحدث عن حل بأفق استراتيجي خارج النص الذي يعتمده المؤتمر الوطني، وقال: (لقد ضاق حزب المؤتمر ذرعاً بحوار “قوش” وعمل على إقصائه).
“الصادق المهدي” ربما بعلمه منه أو دون ذلك وضع “صلاح قوش” المعتقل على ذمة المحاولة الانقلابية في خانة المعارض وربما المدان وهو يجدد تأكيداته، في لقاء تفاكري مع مجموعة من الصحفيين السودانيين بمقر إقامته بالقاهرة أمس الأول (الاثنين )، أن ما وصفته الحكومة بأنه محاولة تخريبية هو عملية انقلابية حقيقية لم تكتمل، مضيفاً أن هذه العملية هي نتاج تفاعلات متعدِّدة داخل النظام.
وقال “المهدي”: (إن “قوش” عند زيارته لي في منزلي وتناوله طعام الغداء معي في ذات اليوم الذي تم إعفاؤه فيه من مستشاريه الأمن، قال لي (النظام بلا رأس تعال قودنا))، لافتاً إلى أن الرجل حدثت له تحولات كبيرة وصار موقناً بضرورة إحداث تغيير جذري في بنية النظام. وتابع أنه (قد جرت حوارات معه أثناء توليه مستشارية الأمن، وعندما طالبنا بضرورة تشكيل حكومة قومية ورسم خارطة طريق للخروج بالبلاد من أزماتها، تطابقت وجهات نظرنا في كثير من القضايا).
ولكن المحلل السياسي البروفيسور “الطيب زين العابدين” استبعد أن تجد المحاولة الانقلابية دعماً محلياً أو دولياً، ورأى أن الأوضاع الداخلية والخارجية لم تكن مهيأة للقبول بمحاولة الانقلاب على السلطة، وأشار إلى أن مواثيق المجتمع الدولي تمنع الاعتراف بالانقلابات العسكرية، وقال إن أمريكا يمكن أن تتعامل مع الانقلاب لكنه لن تعترف به، واستطرد: (يمكن أن يقبل المجتمع المحلي بالأمر حال تسليم الانقلابيين السلطة للشعب عبر إقامة انتخابات عامة)، مشيراً إلى أن كل القوى السياسية باتت ترفض الانقلابات العسكرية التي أشار إلى أن كل تجارب حكمها لم تحقق التغيير المنشود، وقال: (سمعنا تطمينات ووعودات ولم نر شيئاً) .
الحلقة الأخيرة..
إفادات مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني الفريق أول “محمد عطا المولى”، لدى مخاطبته أمس (الثلاثاء) الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التنسيقي الأمنى لولايات شرق السودان الذي انعقد بمدينة بورتسودان، تجر من خلفها حزمة من التساؤلات والتأكيدات في آنٍ واحد، فالشخصية ذات البعد الأمنى أعلنت أنها محاولة انقلابية كاملة الأركان بقصد الإطاحة بالنظام القائم، وتشير تصريحاته بوضوح إلى أن عملية التحقيق مع المتهمين قد قطعت شوطاً بعيداً، ما يعني أن محاكمة المتورطين مسألة وقت لا أكثر بتهمة الخيانة العظمى، على حد قول مدير جهاز الأمن، ولكن السؤال.. هل رمى “قوش” ومن معه بأنفسهم إلى التهلكة ..أم أن خللاً ما أصاب مركبة محاولتهم؟، وسؤال آخر..هل ستقدم الحكومة على محاكمة المتورطين بالحسم والعدل كما أعلن النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ “علي عثمان محمد طه” من قبل، أم أن للمتورطين رصيداً ضخماً من القول والفعل معاً في المدافعة عن (مشروع ثورة الإنقاذ الحضاري) مضحين بأموالهم وأنفسهم في سبيله، لا يعطي مساحة لأن يكون لـ(غداء) إمام الأنصار مع المدير السابق لجهاز الأمن والمخابرات الوطني “صلاح عبد الله قوش” (الغداء الأخير)؟.