حديث السبت – يوسف عبد المنان
د.”فيصل” من آخر معارك مراكز القوى إلى الفرائض الثلاث
جاء في أخبار الأسبوع الماضي أن الموقوف بحراسات قسم الأجانب بالخرطوم “إبراهيم الماظ” قد تم نقله للسجن مرة أخرى.. وانتقل هذه المرة إلى سجن (الهدى) بأم درمان بعد أن مكث سنوات في سجن (كوبر) في انتظار إعلان السجان صعوده إلى منصة قطع الأعناق ومغادرة الدنيا.. ولكن فرجاً تنزل من السماء وعفواً أصدره الرئيس عن المحكومين في جرائم حرابة ضد الدولة.. أنقذ روح “إبراهيم الماظ” الذي تم إلقاء القبض عليه في الميدان العسكري ممسكاً بالبندقية مقاتلاً في صفوف حركة العدل والمساواة التي كانت تعد ذراعاً عسكرية لحزب سياسي هو المؤتمر الشعبي، حتى أثبتت الأيام عدم صحة ذلك.. فعاد المؤتمر الشعبي للقصور حاكماً وشريكاً فاعلاً في السلطة، وبقيت حركة العدل والمساواة ما بين دولتين مجاورتين.. جنوب السودان وليبيا.. وفقدت قادتها ورموزها، وضعفت عسكرياً، ووهنت سياسياً برحيل مؤسسها د.”خليل إبراهيم”.. ويعد “إبراهيم الماظ” حفيد البطل الذي زرع في تربة الجندية السودانية أسباب مقاومة المستعمر الأجنبي “عبد الفضيل الماظ” من قادة طلاب الإسلاميين قبل الانشقاق الذي ضرب صفهم ومزق وحدتهم.. وعرف عن “إبراهيم الماظ” الذي ينحدر من قبيلة الدينكا الصراحة والشجاعة.. والمواهب الخطابية ممّا أهله لقيادة قطاع الطلاب أكثر القطاعات حيوية في تنظيم الإسلاميين، وغداة الانقسام الذي ضرب جسد المؤتمر الوطني اختار “إبراهيم” الوقوف مع (شيخه) والقتال سياسياً إلى جانبه، لكنه مثل عشرات ومئات الإسلاميين لم يصبر على وعورة وأشواك طريق “الترابي” الذي خطه فحملته الحماسة والضغائن إلى صفوف حركة العدل والمساواة مثله و”عبد العزيز نور عشر” رفيقه في العسر.. والسجن والعفو.. ومئات الأسماء التي ذهبت إلى السجون والمعتقلات: “يوسف لبس” و”إبراهيم عبد الحفيظ”.. وحملت أخرى السلاح “أحمد آدم بخيت”، “أبو بكر حامد” و”بحر أبو قردة”.. ولكن أكثر ثلاثة أسماء ضمها سجن كوبر وشملها العفو.. فذهب الرفيقان إلى فضاء الحرية حرّيَن.. وبقي ثالثهم يكابد مرارة السجون رغم العفو، وهما “التوم حامد” الذي قبض عليه مثل عصفور في معركة العتمور بجبال النوبة.. و”السر جبريل تية” الذي قبض عليه مع “إبراهيم الماظ” بغرب دارفور بالقرب من جبل مون وقد نال حريته.. و”السر” كان موظفاً كبيراً بفندق (هيلتون) الخرطوم، ووالده كان محافظاً لمديرية جنوب كردفان حينما كانت المديرية معنى وهيكلاً والمحافظ سلطة، ولم يعرف لـ”السر” انتماء للإسلاميين ولا حتى قرب منهم، لكنه ذهب لمعركة العدل والمساواة عندما أصبح ذلك خياراً لمن لا خيار له.. وخشية الذهاب للسجن حبيساً انطلق إلى حركة العدل ليتعلم (فك وتركيب السلاح).. وتاريخ “السر جبريل تية” يقول إنه ما كان يمارس حتى اصطياد العصافير من (جنائن) “عمر الخليفة” في كادوقلي أو يصطاد الحبار في الحجيرات أو الغزلان في (الوِدي) بكسر الواو، وقد تغنى “عبد القادر سالم” برائعة التراث البقاري (اللوري حلّ بي دلاني في الوِدي) نزل “السر تيه” و”الماظ” سجينين في كوبر.. وجرت محاكمتهما بالإعدام شنقاً حتى الموت قبل أن يعفو عنهما الرئيس مثل المئات من أبناء السودان الذين حملتهم الضغائن لحمل السلاح.. ولما خرج “الماظ” من السجن لم يذهب لأسرته الكبيرة في الحاج يوسف أو يجوب طرقات الخرطوم متأملاً الأمواج البشرية التي تبحث عن شيء ما.. بل ذهب إلى سجن آخر في انتظار ترحيله من السودان إلى وطن جدوده الذي لم يساهم في فصله من الوطن الكبير.. قرار السلطات هنا أن يخرج “إبراهيم الماظ” عن السودان لأي وطن آخر يختاره باعتبار وجوده غير شرعي.. ولا يعدّ لاجئاً مثل آلاف اللاجئين من إريتريا وإثيوبيا وتشاد.. فالجنوبيون سواء أكانوا مسيحيين أو مسلمين.. أو روحانيين.. اعتبرهم الرئيس “عمر البشير” مواطنين سودانيين.. عدّهم الرئيس “عمر البشير” مواطنين سودانيين أرغمتهم الحروب على مغادرة الجنوب شمالاً.. ونال أي جنوبي حق العمل والسكن والتجارة.. إلا “إبراهيم الماظ”، كان قرار ما بعد الخروج من السجن مغادرة الأراضي السودانية ووضعته إدارة الأجانب بوزارة الداخلية رهن الحبس حتى تقرير مصيره!! وكانت العلاقات بين الخرطوم وجوبا تشهد حالة شد وجذب وصراع معلن وقطيعة.. وحرب في المنطقتين ويتبادلان الأذى.
لقد تنكرت دولة جنوب السودان لـ”إبراهيم الماظ” وكان حرياً بها المطالبة بتسليمه إليها لاستخراج وثيقة سفر اضطرارية ليعود للجنوب الذي ينتمي إليه بالتاريخ والعرق والقبيلة والسحنة.. ولا يملك في بور منزلاً ولا في ملكال قطعة أرض، وعاش حياته في الشمال.. وداخل أوعيته التنظيم الإسلامي.. وبسبب انتماء “الماظ” للتيار الإسلامي لم تبد حكومة جوبا حماساً لقضيته، وجوبا التي عينت د.”عبد الله دينق نيال” وزيراً ثم تراجعت عنه إذعاناً لضغوط الخارج والداخل.. لم ينل مواطنون آخرون “عبد الله كافيلو” ولا حتى “فاروق جاتكوث” حقوقاً مستحقة.. فكيف تبدي حماساً لعودة “إبراهيم الماظ” الرجل المبدئي في انتمائه.. ولم تتعد مواقف دولة الجنوب ذر الرماد في العيون.. والحديث من السفير “ميان دوت” عن “الماظ” على استحياء.
و”إبراهيم السنوسي” الذي نال منصب مساعد الرئيس بالقصر شغلته الشواغل عن أن يتذكر رجلاً منسياً في غياهب السجون اسمه “إبراهيم الماظ”.. ومنظمات حقوق الإنسان الوطنية والأجنبية أغمضت عينيها عن الرجل الذي بدا وحيداً في هذه الدنيا يواجه مصيراً غير معروف المآلات في رحلته من معتقلات قسم الأجانب التي تقع بالقرب من بناية بنك فيصل الإسلامي (الرئاسة)، ولـ”إبراهيم الماظ” في بناية بنك فيصل ذكريات وأحداث واجتماعات تنظيمية.. ومناشط فكرية.. قبل أن يهجر بناية بنك فيصل روادها.. وتصبح مجرد مقار لشركات عابرة للحدود.. والمؤتمر الشعبي الذي بدا حريصاً على النأي بنفسه عن كل ما يثبت صحة الزعم القديم بأنه ذراع سياسية لحركة عسكرية في الميدان، لم يقدم الدعم المنتظر لـ”إبراهيم الماظ” حتى يخرج من مأزقه الحالي.. ويبدو الرجل عنيداً جداً في رفض المغادرة لأرض الجنوب ومحاولة المقاومة وحده.. ولن يبدد سجن (الهدى) وحشة “الماظ”.. ولا أمل في ضوء يلوح في آخر النفق للإفراج عن الرجل السجين، إلا في حالة واحدة أن يتذكر قادة البلاد أن وشائج الفكرة والانتماء إلى الحركة الإسلامية أعمق من مرارة الصراع، والإسلاميون إذا كانت أشواقهم وأمانيهم في سنوات التسعينيات في وحدة مع أخوة الإسلام تلغي الحدود الجغرافية وتلفظ قيود العبور عبر بطاقات السفر.. وتأشيرات الدخول.. وبذل الجواز الأخضر السوداني القديم لابن القيروان وحفيد “خير الدين” التونسي د. “محمد هاشم الحامدي”.. وقبله أستاذه ومعلمه “راشد الغنوشي” وذهب جواز السفر السوداني لـ”صبري البنا” الفلسطيني اليساري، وإلى “عبد الله بركات” الاسم الحركي للإرهابي “كارلوس”.. وتلك أيام الثورية التي انتهت بحزمة إجراءات قيدت دخول الأجانب.. كان حرياً بالسودانيين اليوم وضع “إبراهيم الماظ” في بيته آمناً في وطنه حراً يطوف على المدن والأحياء في أركويت.. وأمبدة مثل قادة الجنوب الآخرين من “رياك مشار” المسيحي الكاثوليكي إلى “بيتر قديت” الذي يعبد ويعتقد في الكجور و”ريانق”.. لماذا لُفظ “الماظ” من قبل المؤتمرين الوطني والشعبي.. ولم يجد تعاطفاً من عامة أهل السودان؟؟ وتخلت عنه جوبا وتركته سجيناً عند صديقتها الخرطوم.. كثيرة هي المفاوضات حول النفط المشترك.. وقوات حفظ السلام.. ومعابر التجارة الحدودية وتبادل السلع والحريات الأربع التي ينبغي أن تصبح خمساً مؤقتاً.. والخامسة هي حرية “الماظ” في العودة إلى جوبا.. أو البقاء في الخرطوم لأن تنقل الرجل الخمسيني بين السجون والمعتقلات يعد وصمة عار في جبين الجميع وتخاذلاً عن ما لا ينبغي التخاذل عنه.. والعواصم الكبيرة لا تضيق شوارعها ولا منابرها.. بأهل الفكرة واللاجئين السياسيين.. والقاهرة التي كانت ملاذاً للرؤساء المخلوعين من بلاط سلطانهم، كانت أيضاً داراً للمطرودين مثل بيروت في الستينيات والسبعينيات قبل الحرب الأهلية وهي تستقبل “يوسف الخال” الروائي والأديب ذا الأصول السورية.. وبيروت لم يكتب لها الزخم الفكري والثقافي إلا بوجود “محمد سعيد أدونيس” و”محمد الماغوط”.. و”فؤاد رفقة” و”نجيب الريس” و”شوقي أبو شقرا”.. و”نزار قباني” و”عمر أبو ريشة”.. والخرطوم في يوم ما كانت تستقبل الأدباء والمفكرين.. ويأتيها “البردوني”.. و”عبد العزيز المقالح” مدير جامعة صنعاء.. ويأتي إليها الملفوظون من حكومات العسكر ويقيم في ديومها بالخرطوم وبورتسودان “أسياس أفورقي”.. والراحل “ملس زناوي” و”جكوني وداي”.. وحتى عائلة المناضل الفذ “كوامي نكروما” أقامت في الخرطوم.. فكيف تضيق أرض المليون ميل بحفيد “عبد الفضيل الماظ” الذي يردد في خلوته الآن بسجن (الهدى):
صحيح إنه الزمن غلاب
لكن نحن عشناه ومشينا في عذاب
دروبنا تتوه ونحن نتوه ونفتح للأمل أبواب
{ د.”فيصل”.. المعارك الصغيرة والكبيرة
غادر “محمد حاتم سليمان” نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني بولاية الخرطوم في صمت شديد.. وبعيداً عن الصخب والضوضاء الذي لازم مسيرته السياسية منذ هبوطه من القصر الرئاسي كمستشار للرئيس بولاية الخرطوم، في واحدة من مفاجآت تقلبات منصب مستشار الرئيس الصحافي والإعلامي وغداة تغيير الولاة الجزئي، دفع الحزب بـ”محمد حاتم سليمان” إلى ولاية غرب كردفان والياً، لكنه رفض ذلك ونظر لنفسه في المرآة ووجد صورته أكبر من ولاية تحاصرها الأزمات.. ويعيش المسؤولون هناك على الكفاف وشح المال وكثرة المشكلات.. وهي أولى حالات العصيان لقرارات الحزب الذي تولى شأنه د. “فيصل حسن إبراهيم” لتوه.. ولجأ “محمد حاتم” إلى من هو أعلى من د. “فيصل” ليبقي عليه في الخرطوم (رغم أنف قرار الحزب)، ولم يبتلع د.”فيصل” المعروف عنه الصرامة والاعتداد بالنفس والقدرة على مواجهة المشكلات بالحسم تلك الواقعة ليأتي تبديل والي الخرطوم نفسه الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” ويذهب من بعده “محمد حاتم سليمان” إلى سبيله.. وبذلك كسر د.”فيصل حسن إبراهيم” آخر عصاة لمراكز القوى في الحزب وأمسك بالقيادة السياسية للحزب لخوض المعارك الكبيرة التي تنتظره في مقبل الأيام والسنوات.. وبعد أن أفلح د. “فيصل” بتخطيط دقيق في الخروج من (مأزق) تجديد ترشيح الرئيس عبر أجهزة الحزب وقاد اجتماعات الحزب المفصلية الأخيرة.. المكتب القيادي والمجلس القيادي ثم الشورى القومية لاتخاذ قرار تعديل لائحة الحزب وإعادة ترشيح الرئيس دون معارضة معلنة للقرار من مراكز القوى، وباستثناء د. “أمين حسن عمر” الذي وقف صادقاً وثابتاً على قناعاته بضرورة التجديد وترشيح قيادة جديدة فإن كل قيادات الوطني والحركة الإسلامية ساندت د.”فيصل حسن إبراهيم” الذي قدم مشروعات تعديل اللائحة ومشروع الحيثيات السياسية لإعادة ترشيح “البشير” ووجد د.”فيصل” مساندة كبيرة من مولانا “أحمد محمد هارون” في الإخراج السياسي لقرار إعادة الترشيح بعد أن ذهبت ترشيحات لذهاب “هارون” من شمال كردفان برغبة د.”فيصل” إلا أن ذلك ما كان واقعاً فعلياً.. بعد انتصار د. “فيصل” في معركة ترشيح الرئيس وهي من المعارك الكبيرة، خاض غمار التغيير في الجهاز التنفيذي والسياسي برفق ووصل إلى آخر محطات مراكز القوى ممثلة في “محمد حاتم سليمان”.. وقبل ذلك نجح في احتواء خلافات ولاية الجزيرة بين الوالي “أيلا” وقيادات الوطني بإلغاء قرارات الفصل والتجميد التي طالت بعضهم، وبذلك أنهى الرجل الصامت معاركه الصغيرة لتبدأ المعارك الكبيرة ممثلة في الوصول لتسوية سياسية تنهي النزاع في المنطقتين.. وفي ذات الوقت إعادة بناء حزب المؤتمر الوطني من القاعدة وصولاً إلى القمة (المؤتمر العام) في شهر أبريل من العام القادم.
وتعدّ قضية بناء حزب المؤتمر الوطني في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة مسألة في غاية الصعوبة والعسر نظراً لتأثر حزب المؤتمر الوطني بالأوضاع الاقتصادية ونضوب موارده.. وفي ذات الوقت يمثل جذب قواعد الحزب في الأحياء السكنية والمناطق التنظيمية والقرى في الوقت الراهن مسألة في غاية العسر والمشقة لأن قواعد المؤتمر الوطني تشعر بخيبة أمل في السياسات الاقتصادية وتعاني من اللهث وراء الخبز الحاف، والوقود، وتعاني من ارتفاع الأسعار.. في مثل هذه الظروف مهما كانت درجة التزام الأعضاء وانضباطهم، فإن الحالة العامة تؤثر بشدة على إقبالهم المرتقب على المؤتمرات التي من الضرورة أن تلامس نسب الحضور التي سجلتها مؤتمرات البناء الماضية.
أما المعركة الكبيرة وهي تحقيق السلام في المنطقتين، فإن ذلك له ارتباط وثيق أيضاً بتحسين الأوضاع الاقتصادية وإشاعة روح الأمل في النفوس.. ولكن تعقيدات العملية التفاوضية وترتيبات الأولويات ما بين السياسي والعسكري والطبيعة المتشابهة لانشغالات الأطراف المتفاوضة تجعل الوصول لتسوية مسألة في غاية الصعوبة خلال الشهور المتبقية من العام الجاري.. ودخول دولة جنوب السودان في خط التسوية تترتب عليه تقاطعات مع مبادرة الآلية الأفريقية رفيعة المستوى التي حركت المياه بلقاء جنوب أفريقيا الأخير والذي لم تتكشف فيه بعد حصيلة اللقاءات السرية التي جرت هناك.. ولكن الحرب المعلنة لا يمكن حلها في أضابير الصمت وبين الغرف المغلقة لأن طبيعة الحرب هنا أي في المنطقتين ذات جذور سياسية عميقة لن تفك عقدها المساومات السرية.. فهل ينجح د.”فيصل في إيقاف الحرب وإحلال السلام في المنطقتين على الأقل قبل عقد المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني؟؟