الخفاش "مبارك الفاضل" .. مناورات (ضعيفة) بأجنحة قوية!!
ربما في بعض تضاعيفها وتفاصيلها المتاخمة للخيال، وغير البعيدة عن الواقع، تبدو (حكايته) كأساطير الأولين وقصص الراهنين، كما تبدو في اشتباكاتها وتشابكاتها كذاك النسيج الذي يشتغله الناس ألواناً زاهية حول (الخفاش)، حد أن مؤسسة سينمائية ضخمة و(مُجوِّدة) كـ (هوليوود) سلطت من الأضواء على هذا الحيوان بؤر ضوء غامرة، فجعلت منه سفّاك دماء لا يقل بأساً عن (دراكيولا)، أو تلك الساحر العجوز العاكفة في مغارة جبلية بعيدة تنتظر قدوم بشري لتغرس أنيابها في (قفا) عنقه، فتصرعه في التو والحال، خامداً (دون دم)، هذا رغم أن الذي يعتمد في غذائه على امتصاص الدماء من الخفافيش واحد من بين (ألف) نوع.
و”مبارك الفاضل المهدي”، الذي قالت تسريبات صحفية إنه الآن في (جوبا) يتّخذها منصة انطلاق لجولاته (المكاكوكية) بين العواصم العربية والغربية، فتارة إلى القاهرة وأخرى لندن وواشنطن، ورابعة إلى أقصى الشمال الأوروبي.. يحمل بين أجنحته حلماً بتجميع شتات (المعارضة) في ما يشبه تجمعاً وطنياً جديداً، يُسوقه لمناهضة الحكومة القائمة.
{ مناورات حدوة حصان
وفي تلك الجولات يتخذ ” مبارك” من الخفاش مثلاً أعلى في الانزلاق على الهواء والطيران، فيفرد مثله تماماً جناحيه إلى أطراف أصابعه الأمامية، وحتى ساقيه الخلفيتين، ويدعمهما بعظام إصبعية، فيطير بهما كما خفاش (حدوة الحصان) بسرعة تتراوح بين (36 إلى 55) كيلو متر في الساعة، وبقدرة كبيرة على المناورة تقل أثناء تحليقه في فضاءات خالية من العوائق الطبيعية.
إلى جانب ذلك يمتلك خفاش (حدوة الحصان) جهازاً كـ (الرادار) يحدد به الأهداف عن طريق (رجع) الصدى، ما يُسهِل له شق طريق في الظلام، والطيران ليلاً، كما يتمتع بحاسة شم قوية، ورغم أن الوطن الأصل للخفاش هو المناطق الحارة لكنه يستطيع التأقلم مع كل الأقاليم المناخية الأخرى، حتى الباردة جداً في شمال أوروبا، أليس هنالك وجه شبه بين السيد “مبارك الفاضل المهدي”، وذاك الخفاش، إذاً فلنرَ:
{ سيرة الخفاش
أطلق سليل “المهدي” السيد “عبد الله الفاضل المهدي” على مولوده الذي جاء إلى الحياة في العاصمة الخرطوم عام 1950م، اسم “مبارك”، ونشأ الصغير في كنف أسرته العريقة ذات التقاليد التربوية الصارمة، إلى أن شبَّ عن الطوق وأُرسل إلى المدرسة، فشعر بشيء من التحرر سرعان ما زادت جرعته عندما غادر إلى (بيروت) لدراسة المرحلتين الثانوية والجامعية (الجامعة الأميركية ببيروت)، بعدها يمّم شطر جامعة (شيلر) الأميركية، وطاف ردهاتها بين (ألمانيا) و(بريطانيا)، حتى حصل على شهادة في إدارة الأعمال الدولية والاقتصاد.
وفي تلك السيرة المبكرة، كان “مبارك” ينازع السياسة مِزعاً هنا ومِزعاً هناك، لكن يبدو أنه كان في الأثناء يقرأ سيرة (الخفاش) بتمعن ودقة شديدين، بينما يقترب هو بسيرته منها، ويتوحد فيها، ويحل بها كصوفي يُمسك تلابيب طريقة شيخه ويسير على هدى دربه، فيحلق ويناور ويضرب يمينه بشماله، ومصاعده بمهابطه وأحزانه بأفراحه، وكأنه يغني أغنية (التضاد)، فحين يبدو وكأنه قُضي عليه، يلبث برهة ثم يعود وهو يترنم بقصيدة النصر، وهذا ما فعله خلال مسيرته السياسة الشائكة والمعقدة.
{ لُجج أخرى
ولج “مبارك الفاضل” معترك السياسة مُبكراً، لكن نجمه لم يسطع في سمائها بقدر كافٍ، خاصة وأن خطوته الأولى على درج السياسة وضعته بين غياهب السجن، قبل أن ترسله التالية إلى المنفى بتهمة اشتراكه مع ابن عمه (وغريمه) لاحقاً الإمام “الصادق المهدي” في تدبير محاولة انقلابية ضد نظام الرئيس الأسبق المرحوم “جعفر نميري” عام 1976م.
وهناك في منفاه، ظل “الفاضل” يعمل في الضوء والظلمة لعقد ونيف، مُحارباً ضد نظام مايو، إلى أن حجز مقعده في البرلمان في أعقاب انهياره في 1986م، ليدشن مرحلة جديدة أكثر تعقيداً وإثارة، وأسمك لُجّة، ليس في حياته السياسية فحسب، بل وفي خارطة حزبه ووطنه كله.
{ إسلامي في (طاقية) أنصاري
في الفترة التي يصطلح عليها المؤرخون السياسيون بالديمقراطية الثالثة، بين أعوام 1986 – 1989م، وقبل أن يخرج الجيش مُجدداً من ثكناته إلى سدة الحكم، برز نجم “مبارك” وأثبت قدرة فائقة على المناورة والتكتيك، حتى إنه جمع في بعض الأحيان بين وزارتين في وقت واحد، فعمل وزيراً للصناعة ثم الاقتصاد والتجارة الخارجية، كما تسنم حقيبة الداخلية، واحتقب الطاقة والتعدين مع الاقتصاد في آن، كما شارك بفاعلية كبيرة في رسم السياسات الدفاعية والأمنية للبلاد آنذاك، وبقدر لا يقل أهمية في إبرام سياسات وتحالفات محلية وإقليمية ودولية، ومنها أنه قاد مفاوضات في العام عام 1988م تستهدف توسيع قاعدة حكومة “الصادق المهدي”، ومهد بذلك لدخول حزب (الجبهة الإسلامية) إلى الحكومة، حتى ظن به البعض أنه إسلامي يختبئ في (طاقية) أنصاري.
{ تحريض واستخبار
وعندما انقلب العميد آنذاك “عمر حسن البشير” على الحكومة القائمة وجاء بثورة (الإنقاذ) الوطني عام 1989م، كان “مبارك” (يتكرّس) كرسي وزارة الداخلية، فأُطيح عنه، وغادر إلى الخارج مُعارضاً شرساً للنظام الجديد، وبعد عامين فقط من (خروجه) عقد اتفاقاً تحول لاحقاً إلى تحالف مع (الحركة الشعبية لتحرير السودان) بزعامة المتمرد ذائع الصيت والقوي، الراحل “جون قرنق”، ويعتبر راصدون ومراقبون هذه المرحلة هي الأهم في حياة السياسي “مبارك الفاضل المهدي”، حيث تولى الأمانة العامة للتجمع الوطني الديمقراطي المُعارض، وأسهم من خلال منصبه الرفيع هذا في وضع مسودات سلام مع دول الجوار، واتفاقيات بين الأحزاب والحركات السودانية، ونظم في عام 1991م، مع الرئيس الأميركي الأسبق “جيمي كارتر” ندوة دولية التأمت في ولاية (جورجيا) الأميركية، تناولت الوضع السياسي في السودان، حتى أن علاقته بالأميركيين جعلت مراقبين وراصدين يتهمونه بالعمالة للمخابرات الأميركية، خاصة في أعقاب الضربة التي سوت بمصنع (الشفاء) للأدوية أرض المنطقة الصناعية بالخرطوم بحري، حيث اتهمه مناوئوه بأنه حرَّض على ذلك بتقديمه (في أغسطس 1998م) لإدارة الرئيس “كلينتون” معلومات استخباراتية خاطئة، ثم ظهوره عقب (الضربة) التي دمرت المصنع على (قناة الجزيرة) ليس تأييداً لـ (الفعل) فحسب، بل للتحريض بضربة تالية لمدينة (جياد الصناعية)، باعتبارها موئلاً لتصنيع الأسلحة المحظورة دولياً.
ويقول الكاتب والصحفي الأستاذ “فتحي الضو” في كتابه الموسوم بـ(سقوط الأقنعة): (بادر “مبارك الفاضل المهدي” بدعوة العميد “عصام ميرغني” إلى أديس أبابا لمناقشة الفكرة، ثم انضم “جون قرنق” إلى “مبارك” والعميد “ميرغني”، واقترح “قرنق” أن يطلق على الجناح العسكري للتجمع اسم (القيادة الشرعية) للقوات المسلحة، طالما أن الفريق “فتحي أحمد علي” هو قائد الجيش السوداني الذي انقلبت عليه الإنقاذ، هكذا ولدت ما تسمى (القيادة الشرعية)، التي ضمت أيضاً العميد “الهادي بشرى” بضغوط من “مبارك الفاضل” نفسه، لكن هذا الضابط عاد لاحقاً إلى السودان ومعه كل أسرار التنظيم، كما عاد “مبارك” نفسه لاحقاً ليصبح مساعداً لرئيس الجمهورية).
{ تكتيكات حدوة الحصان
وبعد كل هذا العداء المُحكم والصارخ لحكومة الإنقاذ، لم يتوقع أكثر المحللين السياسيين حنكة وقدرة على استشراف القادم، أن السيد (خفاش حدوة الحصان)، سيستخدم قدرته الكبيرة على المناورة وابتداع التكتيكات السياسية ضد حزبه (الأم)، لكنه ظل يحلق بسرعة (55) كيلو متراً في الساعة، بين الأدغال الحكومية الكثيفة وتضاريس المعارضة الناتئة، ويحرك قرنا استشعار (راداره)، ليقود في العام 2000م انشقاقاً ضد حزبه، ويؤسس آخر تحت اسم (حزب الأمة – الإصلاح والتجديد)، ثم يعقد شراكة مع حزب (المؤتمر الوطني) الحاكم، و(يرتفع) بعدها إلى مساعد لرئيس الجمهورية بين عامي (2002 و2004م)، قبل أن (ينخفض) مُجدداً، بحجة خروجه عن سياسات الحكومة، إلى محض رئيس حزب (منشق)، تلته إحالته للاعتقال في العام 2007م بزعم تدبيره محاولة انقلابية ضد الحكومة، وما لبث أن أفرج عنه لعدم كفاية الأدلة.
{ الفصل الأخير
أما التطور الأكثر دراماتيكية في حياة خفاش السياسة السودانية، فهو عودته إلى حزب (الأمة الأصل) بعد أن حل حزبه، ولكن يبدو أن (حدوة الحصان) قد علت زلِقاً هذه المرة، وجناحا (الخفاش) أخفقا في تحقيق السرعة المثلى، ففقدا القدرة على التحليق بكفاءة ومهارة، وضل (رادارهما) إحداثيات الرصد، فضعفت حاسة (شمه) ووهنت، إذ بينما كان يتحدث إلى ندوة سياسية بمدينة (مانشستر)، بإنجلترا، كان مكتب الإمام بحزب (الأمة القومي) يُعِد بيان الإطاحة به، وكأني بالإمام “الصادق” ساعتها، وهو يُملي نص (الإطاحة) على (كتبته)، يُعلق ساخراً مستخدماً الأمثال الشعبية على طريقته الخاصة، فيقول للرهط الذي حوله: (زولكم دا، زي ديك المسلمية بنحمر بصلتو وهو يعوعي).
وهذا ما ورد في حيثيات الفصل، إذ قال البيان، إن “مبارك” الملقب بـ (البلدوزر)، لم يعد عضواً بالحزب، واتهمه بالسعي لضربه في خاصرته، بحسب عبارة مسؤول الإعلام بالمكتب السياسي الذي قال حينها في تصريحات صحفية، إن لجنة كونها حزبه خلصت إلى أن مؤامرة ما يحكيها “مبارك” ليقصم بها ظهر الحزب، ورغم هذه الضربة القوية، إلاّ أن كثيرين لا زالوا يجزمون بأن أجنحة الخفاش لم تزل قوية، وأنه لا زال قادراً على المناورة، وأنه ربما يخطط لضربة قوية قد تُطيح بابن عمه الإمام مرة وإلى الأبد، فماذا يا ترى يُخبئ خفاش الظلام بين جناحيه للسياسة السودانية ولـ (حزب الأمة)؟.