تابعت عبر صحيفتنا (المجهر) تغطيات لأحداث محلية وإقليمية.. قلت أجعل مقالي هذا الأسبوع معلقاً على ما قرأت.. رحم الله الفقيد “سوار الذهب” رحمة واسعة، والرجل استحق كل ما كُتب عنه أو قيل وبرحيله فقد العالم العربي والإسلامي رجل قلَّ أن يجود به الزمان، إنسانية وخلق وإيمان قيادة وسماحة في كل شيء، فهو رسول الخير والجمال المطلق.. أرسل يطلبني قبيل سفره للعلاج.. فذهبت إليه فأخبرني أنه شرع في تأسيس كيان أهلي طوعي يعين بالترويح لثقافة الحفاظ على قيم الوقت.. وأخبرني أن هذا الأمر شغله كثيراً، وأرجع أن أهل السودان يهدرون الوقت، وذلك يُعد من أسباب تردي البلاد وعدم نهوضها اقتصادية واجتماعياً وتراجعها في العديد من نواحي الحياة.. ولأن الرجل مفكر وواسع الإدراك عزم على حشد عدد من رموز الفكر والثقافة والإبداع ليبشروا لميلاد ذلك الكيان ويشيعوا ثقافة (الوقت من ذهب) وطلب مني أن أعمل على إشاعة ثقافة أن نحرص على عدم تبديد الوقت باعتباري شاعراً يمكن أن أوظف الشعر لإنفاذ هذه الرسالة.. والرجل – يرحمه الله – كان يدرك ويعي دور الفعل الثقافي في قيادة الأمم وكثيراً ما كان يحدثنا عن جدوى العمل الثقافي ونفاذه وقيمته.. والحق يقال إن الراحل كان معلم أجيال وطالما عملت معه في لجان عديدة.. تعلمنا منه الدقة في مواعيده إذ كان يحضر للاجتماعات تلك قبل ربع ساعة من الوقت المحدد للاجتماع.. وإن ترأس الاجتماع كان يديره بحنكة وخبرة، وتعلمنا منه سعة الصدر والهدوء وحسن القول وعدم تبخيس رأي الآخر مهما كان مخالفاً لرأيه.. وكان سلوكه ترجمة لما جاء في القرآن الكريم والسُنة، أما عن زهده فحدث ولا حرج عاش بعيداً عن عرض الدنيا ولو أرادها لكان من أثرياء الدنيا ودونكم صداقاته بالرؤساء والملوك وأهل المال.. أما عن أياديه البيضاء فحدث ولا حرج فقد كان طوال حياته يسعى في عمل الخير فأنجز عشرات المئات من المساجد والخلاوى بالسودان وبالعديد من الدول الإسلامية، وظل قائداً للعمل بمنطقة الدعوة بعدة دورات بإجماع أعضاء مجلس هذه المنظمة العظيمة.
أقول فلنمضي بالعمل في ذلك الكيان الذي رحل عنه إنفاذاً لوصية الراحل ولنبدأ أولاً بإزالة المقولة السائدة السالبة (فلان ده مواعيدوه مواعيد سودانية) ولنرسخ مقولة (فلان ده خواجه في مواعيده) بنظرة فاحصة نجد أننا فعلاً أمة تهدر الوقت والأمثلة لا حصر لها في حياتنا حتى صارت عبارات عديدة متداولة في معاملاتها (ياخي الدنيا طارت.. والشفقة تطير.. وحبل المهلة.. والوقت بدري.. ومستعجل مالك!!) وكم من وقت يهدره شبابنا العاطل في وسائط الاتصال؟! واللهو واللعب الذي لا فائدة منه!! وكم من أحاديث لا فائدة منها نطلقها حتى قبة البرلمان.. وكم من معاملات وإجراءات مكتبية ننجزها ببطء شديد!! فمثلاً الصينيون أنظروا إليهم وهم يبنون العمارات الشاهقة في وقت وجيز مقارنة بالبناء السوداني.. والغريب في الأمر حينما يهاجر السوداني للعمل بالخارج تتفجر طاقته وتظهر قدراته الإبداعية أكثر من رصفائه من الدول الأخرى.. ويحلو لنا أن نوقف عمل المؤسسة لنذهب للعزاء.. وعادي جداً أن تصدر عبارة (تعال بكرة الخزنة قفلت).
إذن الراحل فكر في إحلال نمط جديد من السلوك الحضاري ينتهجه أهل السودان ليحل محل سلوك سالب تواتر ورسخ حتى أصبح سمة من سمات السلوك (مواعيد سودانية) وأهل علم الاجتماع يحللون ظاهرة السلوك السالب بأنه عادة درج المجتمع على اتباعها عبر سنوات عديدة من الممارسة حتى رسخت في ضمير المجتمع فأصبحت سلوكاً سالباً يضر المجتمع ضرراً بليغاً ولن يقلع المجتمع عن السلوك السالب إلا بإحلال وميلاد سلوك إيجابي جديد يتطور ويمضي مبيناً فوائده ليطرد السلوك السالب القديم، فمثلاً (لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد) كلنا يدرك جدوى وسلامة ونفع هذا التوجيه لكننا مع سبق الإصرار والترصد نؤجل عمل اليوم ليس للغد بل إلى أمد بعيد، وهكذا نبخس من قيم الزمن الذي أن أحسنا استخدامه لعمرنا الأرض ونهضنا من كبوتنا.. إذن نحن حقيقة نحتاج جميعاً إلى نشر ثقافة الحرص على الوقت في جميع مرافق حياتنا العامة ابتداءً من المنزل وشتى ضروب نشاطنا الإنساني.. نتحدث عن تدني التعليم وتدني الصحة والاقتصاد.. الخ.. نجد أن إهدار الوقت سبباً جوهرياً من أسباب التراجع والأمثلة كثيرة التي يمكن أن نفسر بها فهل حققنا ومضينا بوصية الراحل المقيم المشير “سوار الذهب”؟.