بانقي -يوسف عبد المنان
كيف استقبل الرئيس “أركانج” الوزير “الدرديري” في بانقي
تداعت إلى مخيلتي صور الموت على نقيض الهوية العرقية والهوية الدينية.. وأفلام الرعب التي بثها الإعلام عن حرب المسلمين والمسيحيين في دولة أفريقيا الوسطى، حينما تلقيت دعوة من مكتب السفير “الدرديري محمد أحمد” وزير الخارجية لرفقته لزيارتي دولتي أفريقيا الوسطى وتشاد كمبعوث من رئيس الجمهورية لهاتين القطرين اللذين تجمع بينهما والسودان وشائج القربى والصلات.. والجغرافيا، وقد فرقت بينها حقبة الاستعمار الذي كانت حظوظ السودان لسوئها ولحسنها أن بات في أحضان بريطانيا.. ووضعت فرنسا يدها على أغلب غرب أفريقيا وأصبحت تشاد وأفريقيا من أسلابها.. لم أتردد في قبول الدعوة التي جاءت عبر الصحافي السفير “أبو بكر الصديق” والسفر للبلدان التي تشهد صراعات ونزاعات يبدو أكثر إغراءً للصحافة والصحافيين من البلدان التي يسودها الاستقرار.. وليس نزولاً لقاعدة غربية في تعريف الخبر، الأخبار السيئة هي الأخبار.. ولكن الكتابة التشريحية لواقع الأزمات تختلف عن الكتابة التقريرية لمشاهد ابتسامات الرؤساء حينما يتصافحون وكل منهم يخفي في نفسه مشاعر متناقضة لما يبديه في العلن نحو الآخر.. غادرت الطائرة الانتنوف الرئاسية العتيقة مطار الخرطوم والسماء صافية ورياح الشتاء تهب على استحياء على المدينة التي لم تجف مياه أمطارها بعد.. وبعد ساعتين أخذت الطائرة في الهبوط التدريجي والمفاجأة ظهور معسكر كلمة ووادي نيالا.. وجبل أم كردوس، وأطلت نيالا بوجهها الصبوح.. لتتزود الطائرة بالوقود، وتفاجأ المهندس “آدم الفكي” بوصول وفد وزير الخارجية ليهرع للاحتفاء به على طريقة أهل دارفور في إكرام العابرين لديارهم.. اتجهت الطائرة من نيالا باتجاه الجنوب الغربي.. ومن الارتفاع الشاهق نحو (18) ألف متر فوق سطح البحر عبرت الطائرة دياراً تسمى عد الفرسان ورهيد البردي وأم دافوق آخر منطقة سودانية قبل دخول شمال أفريقيا الوسطى الغني بموارده.. والمضطرب بتعدد حركات التمرد التي تقاتل حكومة البروفيسور “قوستن أركانج كاديرا” أستاذ علم الحساب الذي أعجزته المعادلات لإسكات صوت الرصاص في البلد الغني الفقير.
{ مطار تخيم عليه الأمم
عند هبوط الطائرة كانت الشمس قد توارت بسبب السحاب الذي يغطي سماء المدينة.. وينذر بهطول الأمطار في كل لحظة.. المطار الذي شيده الفرنسيون.. من علامات أزمات أي بلد وجود طائرات الأمم المتحدة.. صغيرها وكبيرها.. والأمم المتحدة في أفريقيا هي الحاكم الحقيقي.. لا تستطيع حكومة البروفيسور “أركانج” التنقل بين المحافظات إلا حدود العاصمة بانقي.. وهي واحدة من أجمل العواصم الأفريقية تغطيها الأشجار الكثيفة والجبال الصغيرة، وتتكئ على نهر صغير يفصل بينها والكنغو الديمقراطية.. استقبل وزير خارجية أفريقيا الوسطى الوفد السوداني بحفاوة بالغة.. وفي غرفة كبار الزوار جلس يتحدث بحسرة للدكتور “الدرديري” عن حال بلاده.. ولم تستطع الحكومة تقديم حتى عبوات مياه غازية لضيوفها.. في الطريق من المطار إلى داخل المدينة.. كان مضيفنا في سيارة النيسان العميد الركن “ياسر” الملحق العسكري ببانقي.. أطلت أسواق مزدحمة بالمواطنين.. حاولت تصوير السوق بالهاتف، ولكن مرافقنا من العسكريين الأفرووسطين أمسك بيدي ومنعني من ذلك خوفاً من اعتداء قد نتعرض له بسبب التصوير.. وأفريقيا الوسطى التي عاشت سنوات طويلة من الاضطراب.. تفتقر لوجود جيش وطني.. الفرنسيون بعد خروجهم شكلياً.. ونيل البلاد استقلالها منقوصاً فرضت حماية على حكومات بانقي المتعاقبة.. ونصب الجيش الفرنسي نفسه حامياً للدولة من أعداء محتملين قد يأتون بغتة من الخارج.. ولا تذكر أفريقيا الوسطى إلا ويذكر الجنرال الباطش بشعبه “بوكاسا” والرئيس السابق “باتستيه” الذي طرده شعبه، وهو يقيم الآن في العاصمة اليوغندية كمبالا بعد أن دبت إليه علامات العجز والشيخوخة.. والرئيس الحالي البروفيسور “أكانج” كان رئيساً للوزراء في حكومة “باتستيه”.. ولا ينتمي لحزب أو جماعة من وسط البلاد الغني بالماس والحجارة الكريمة وقليل من الذهب.. فاز في الانتخابات الأخيرة برضاء الفرنسيين وتشجيعهم له.. بحسبان أن له تجربة في الحكم قد تعينه على حكم البلاد التي بدأت الصراعات تأخذ بخناقها.. وبعد أن كانت الصراعات (جهوية) بين أبناء الأقاليم: شمال.. غني بالموارد.. محروم من المشاركة في السلطة، ووسط وغرب وجنوب فقراء مستأثرين بحكم البلاد.. انحرف الصراع وانزلق إلى أتون صراع عرقي بين القوميات المتصارعة.. ثم زاد مرارة بأن أصبح بين المسلمين والمسيحيين.. لعبت الكنيسة الكاثوليكية دوراً في إذكاء نيران الصراع.. حيث قتل المئات من أبناء الشعب الفقير على أساس الهوية الدينية.. ارتكبت مذابح بحق المسلمين في وسط العاصمة بانقي.. ولم يقصر المسلمون بدورهم في قتل ما هو غير مسلم إذا اقترب من الأحياء التي يقطنونها.. وفشلت فرنسا في وقف انزلاق الدولة نحو الهاوية.. بسرعة متناهية.. وقرر مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع التدخل في أفريقيا الوسطى وفرض حماية من قبل قوات الأمم المتحدة ذات القبعات الزرقاء.
{ السيادة المنقوصة ومبادرة السودان
بعد وصولنا أخذت زخات المطر تبلل الأرض الصخرية.. وقد استغرقت الرحلة من نيالا حتى بانقي ساعتين وعشر دقائق.. في الأسواق التي طفنا عليها لا شيء ينقص المدينة، الخبز لا تجد من يشتريه.. والوقود يباع في عبوات بلاستيكية في الشوارع ومجنزرات الأمم المتحدة تقف في كل مكان.. وشركة الهاتف الشهيرة (أورنج) تقدم خدمات جيدة للسكان، ولكن الحرب والخوف تشغلان المواطنين عن (الواتساب) والفيس بوك.. شركات الطيران العالمية توقفت باستثناء الخطوط الجوية الكينية.. والخطوط الفرنسية وبعض الشركات الصغيرة التي تنقل المواطنين بين المحافظات.. كل سفارات الدول العربية أغلقت أبوابها وسرحت موظفيها إلا السفارة السودانية ، وقائم بالأعمال لبناني حيث يسيطر اللبنانيون على الأسواق والمتاجر الكبيرة.. وأكبر السفارات في بانقي بطبيعة الحال الفرنسية والروسية والصينية .
في فندق لبناني كبير ترتاده أعداد كبيرة انتظر الوفد لمدة ساعة ريثما نتوجه إلى مقر الرئاسة للقاء البروفيسور “أركانج”.. طلب بعض السفراء “محمد صغيرون” والمستشار “أسامة” والسفير “أبو بكر الصديق” أكواباً من الشاي وقبل احتسائها.. أبلغنا عمدة بانقي وهو شخصية لطيفة معجب جداً بالسودان والسودانيين أن الرئيس في الانتظار..
الشارع الذي أخذت تمر عليه سيارات الوفد يسمى بشارع “جمال عبد الناصر” يبلغ طوله (4) كيلو مترات فقط.. ورغم ذلك احتفظ (الأفرووسطيين) بحقه التاريخي.. وأطل قصر بوكاسا وبيته الواسع العتيق.. ودلفنا إلى القصر الرئاسي الذي يقل فخامة عن مبنى محلية أم درمان.. ويشبه مكتب الرئيس البروفيسور “أركانج” مكتب معتمد محلية أم درمان “مجدي عبد العزيز”.. الحراسة التي تقوم بتفتيش الوفود التي تلتقي الرئيس من الجنود الروانديين وفتيات روانديات جميلات.. وقفنا صفاً باستثناء الوزير “الدرديري” الذي لم يفتش.. ولم يسمح لنا بحمل هواتفنا إلى داخل مكتب الرئيس الذي صافح الجميع.. ثم قدم السفير “الدرديري” كلمة نيابة عن الرئيس “عمر البشير” شرح المهمة التي بصدد إنجازها هنا في بانقي.. ثم طلب وزير خارجية أفريقيا الوسطى بأن يخرج الصحافيون والدبلوماسيون.. وتقتصر المباحثات على الوزير مبعوث “البشير” وثلاثة فقط.
“الدرديري” و”فوستن”
استمر اللقاء بين الوزير “الدرديري” والبروفيسور “فوست تواديرا أركانج” نحو ساعة ونصف الساعة، تباحثاً حول جهود السودان الداعمة لمبادرة الاتحاد الأفريقي لإحلال السلام في أفريقيا الوسطى التي بدأت بعد النجاح الذي حققته المبادرة الأفريقية الخاصة بجنوب السودان، والمباحثات التي أفضت لاتفاق بين فرقاء دولة جنوب السودان.. وكانت الفصائل الأفرووسطية قد اجتمعت في الخرطوم في سرية وبعيداً عن الأضواء كجهد للدبلوماسية العسكرية.. ووافقت الفصائل الخمسة على الدخول في مفاوضات مع حكومة البروفيسور “أركانج”.. وحقائق الواقع وطبيعة الصراع على الأرض تقول إن الفصائل تحتل (14) محافظة من جملة (16) محافظة.. ولا تتعدى سلطة البروفيسور “أركانج” العاصمة بانقي ومحافظتين فقط.. ويبدو رئيس بعثة الأمم المتحدة أكثر سيطرة على البلاد من أستاذ الرياضيات.. والفصائل التي تسيطر على المحافظات تفرض (ضرائب وإتاوات) على الأهالي العاملين في التنقيب عن الذهب والماس وما أكثرهم، وتشعر فرنسا بخيبة أملها في فشل جهودها السابقة لتحقيق السلام والاستقرار في أفريقيا الوسطى.. وترتاب فرنسا في التشاديين المسلمين وهم أقرب للمسلمين من غيرهم.. وفي لقاءات الوزير “الدرديري محمد أحمد” الأخيرة في واشنطون بأطراف مهمة في الإدارة الأمريكية والأمم المتحدة.. وجدت جهود السودان إشادة من الأمم المتحدة، وشعرت الدول الغربية بأهمية الدور السوداني مع وجود مشاغل وتحفظات فرنسية على المبادرة التي يدعمها السودان، مما سيجعل الوزير “الدرديري” (يطير) في الأيام القادمة إلى باريس بهدفين دفع جهود العلاقات المشتركة التي تقف قضية المحكمة الجنائية عقبة كئود للحيلولة دون التطبيع المثالي ، وتخوف الفرنسيين من الدور الروسي في أفريقيا الوسطى، وإذا ما شعرت فرنسا بأن جهود السودان التي أثمرت حتى الآن عن توافق للحل النهائي لا تقف من ورائها دولة أخرى، فإن باريسها قد تمنح الخرطوم ضوءاً ساطعاً لتوقيع الفرقاء على اتفاق نهائي.. ومواقف الفرقاء في أفريقيا الوسطى تختلف كثيراً عن قضية جنوب السودان.. الموقف هنا.. المعارضة أو الفصائل لا تملك جيشاً ولا تطمح في تقاسم السلطة مع “أركانج” وبقدر سعيها للحصول على عفو يحول دون تقديمها للمحاكمة كمجرمي حرب لدى المجتمع الدولي، وفي المفاوضات التي جرت أعلن الرئيس “فوستن” استعداده وحكومته للمشاركة في مفاوضات مباشرة تنعقد في الخرطوم في منتصف شهر نوفمبر القادم، وقبل ذلك تنعقد اللجنة الوزارية المشتركة بين أفريقيا الوسطى والسودان بالخرطوم في الثاني من نوفمبر القادم.
السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يريد السودان من أفريقيا الوسطى؟؟ بالطبع ثمة مصالح ثانوية بين الدولتين وثمة قيم مرعية من قبل الدبلوماسية السودانية لأن إيقاف الحرب قيمة أخلاقية.. وتأمين الحدود البالغة (400) كلم بعد أن تقلصت من (850) كيلو قبل انفصال الجنوب للسودان مصلحة حقيقية هناك.. ودرء مخاطر نشوب الصراعات التي تنتقل عبر الحدود وتهدد الأمن في دارفور وفي جنوب السودان ثم إن الخرطوم التي فُرضت عليها (عزلة) منذ سنوات بسبب الحصار بدأت تعود إلى محيطها الإقليمي والدولي، وقد أثنى الرئيس الوسط أفريقي على دور الرئيس “البشير” في تحقيق السلام والأمن في القارة الأفريقية.
{ لقاء الساعة الواحدة
في منزل السفير السوداني، الذي تعرض للهجوم وقتل فيه الدبلوماسي قبل شهور.. أعدت البعثة السودانية وجبة غداء لوزير الخارجية حضرها “موسى ليبي” رئيس مجموعة الميسرين للمبادرة الأفريقية، ورئيس بعثة الأمم المتحدة في أفريقيا الوسطى.. آثر الدبلوماسيون الرفيعون الجلوس إلى وزير الخارجية والإصغاء لرؤية السودان وجهود دفع المبادرة، وأثنى ممثل الأمين العام للأمم المتحدة على جهود السودان، وتبادل القفشات وتعالت الضحكات بعد تناول الغداء.. وبدأت علامات الرضا والارتياح على الوجوه.. وقد توارت الشمس خلف التل الصغير الواقع غرب المدينة.. ومن غير العادة تركت السلطات المطار مفتوحاً للطائرة السودانية حتى مغادرتها لأنجمينا تقديراً لأهمية وجود السودانيين، وفي العادة يغلق المطار مدرجه وينصرف موظفوه قبل مغيب الشمس.. لا تقاليد مرعية في عدم إزعاج السكان ليلاً بأصوات الطائرات كما تفعل سويسرا، ولكن لأن الطائرات العابرة التي تهبط في المطار لا تتعدى الثلاث أو الأربع طائرات في اليوم وجميعها تخاف وتخشى الظلام في بانقي.. وربما الرصاص الشارد من بنادق المعارضة.. وبعد المغرب بقليل غادرت الطائرة المدينة الصغيرة في الطريق إلى أنجمينا.