دارت فصولها في وضح النهار: مفصولو الغابات.. قضية تجاوزت القرار الرئاسي!!
تقول المستندات التي تحصلت (المجهر) على نسخة منها، في العام 2002م صدر قرار عن مجلس الوزراء قضى بإلغاء وظائف عدد من العاملين بالمشاريع القومية والهيئة القومية للغابات ووكالة الزراعة بوزارة الزراعة، والهيئة القومية للغابات التي بلغ عدد العاملين المفصولين منها (1062) والذين تسلم عدد منهم خطابات الفصل، فاستقبلوا الأمر بقلوب راضية ممتثلين لإرادة رب العالمين، وطفقوا يبحثون عن حقوقهم التي فكروا في استثمارها ليوفروا عبرها متطلبات أسرهم، ويوصلوا حبل رزقهم الذي انقطع في مقار أعمالهم، لكنهم اكتشفوا بعد ما طرقوا على باب التأمينات الإجتماعية حقائق تشيب لها الولدان، فهنالك عاملون تم فصلهم وفقاً للمستندات مازالوا يمارسون مهامهم الوظيفية إلى اليوم، فيما أبعد آخرون عبثاً ليصيروا ضحية لمشكلة تمددت في ثلاثة محاور رئيسة، تسببت في تشريد أسرهم والتزوير في خطابات رسمية بجانب إهدار المال العام.!.
قراءات في قرارات..
قرار مجلس الوزراء المقصود والذي يحمل الرقم (653) للعام 2002م جاء فيه أنه بعد الإطلاع على المادة (43) (ب) من دستور جمهورية السودان، وبعد الإطلاع على توصية وزير العمل والإصلاح الإداري، وفي إطار الإصلاح الإداري والإقتصادي والهيكلة الشاملة بمرافق الدولة، وعملاً بأحكام المادة (50) من قانون الخدمة العامة لسنة 1994م، جاء في متن القرار أنه تقرر إلغاء (4158) وظيفة بوزارة الزراعة والغابات والوحدات التابعة لها، ويُحال شاغلوها إلى التقاعد بالمعاش لإلغاء الوظيفة، وشملت القائمة إلغاء (591) وظيفة برئاسة وزارة الزراعة والغابات، (1123) بمشروع الجزيرة الزراعي، (536) بمؤسسة حلفا الزراعية، (60) وظيفة من مؤسسة السوكي الزراعية و(786) وظيفة بمؤسسة الرهد الزراعية، بجانب الـ (1062) وظيفة بالهيئة القومية للغابات، وأشار القرار في حيّز أطلق عليه التنفيذ، أنه على وزارتي الزراعة والغابات والعمل والإصلاح الإداري والجهات المعنية الأخرى، اتخاذ إجراءات تنفيذ هذا القرار، وجاء القرار ممهوراً بتوقيع رئيس الجمهورية “عمر حسن أحمد البشير”.
وبالفعل بدأت إجراءات التنفيذ تتنزل على أرض الواقع، حيث خاطب المدير التنفيذي للمكتب الوزاري بوزارة الزراعة والغابات مدير عام الهيئة القومية للغابات، مشيراً إلى الإجراءات الخاصة بهيكل وكالة الزراعة والمؤسسات والهيئات التابعة لها.
تجاوز بالمستندات..
بتاريخ 19 مارس 2009م ووفقاً لقرار مجلس الوزراء رقم (68) أن إصداره جاء في إطار التزام الدولة لحفظ الحقوق ورد المظالم، وتم بموجبه تشكيل لجنة لحصر المحالين إلى التقاعد بإلغاء الوظيفة بموجب القرار رقم (653) لسنة 2002م وتم تحديد اختصاصاتها في بندين أساسيين، هما إجراء حصر شامل للذين تم تسليمهم قرارات إدارية بإحالتهم للتقاعد بإلغاء الوظيفة، ولم يرد ذكرهم بالقرار رقم (653) لسنة 2002م، وتقديم مقترحات عملية لمعالجة أوضاع المعنيين، وحدّد القرار تفاصيل ممارسة اللجنة لمهامها لتنجز تلك الأهداف، وبالفعل تم تنزيل ذلك على أرض الواقع، وخرجت اللجنة بتقرير ألقت فيه الضوء على ما كان يجري خلف دهاليز الزمان بقولها إنه وضح لها أن وزارة الزراعة والغابات لدى تنفيذها لأحكام القرار تجاوزت حيثياته، بإضافة أسماء جديدة لم تكن قد وردت في القرار رقم (653) بحجة أن بعض العاملين المعنيين بالقرار قد انتهت خدمتهم قبل صدوره، وحاولت الوزارة الاستفادة من تلك الشواغر بإضافة أسماء جديدة، كما أن اللجنة تأكدت أن المعالجة التي قامت بها الوزارة كانت خطأً بيّناً، لأن مجلس الوزراء هو الجهة الوحيدة التي تقرر إلغاء وظيفة أي من العاملين بالدولة. ونبهت اللجنة إلى أنه كان من المفترض الرجوع له للحصول على موافقته مسبقاً، وتبيّن للجنة أيضاً أنه في إطار معالجة بعض حالات إلغاء الوظيفة، صدر القرار رقم (177) لسنة 2007م القاضي بتقنين أوضاع أحد عشر عاملاً بمؤسسة الرهد الزراعية بإلغاء وظائفهم إلحاقاً للقرار رقم (653) لسنة 2002م، وإلى جانب ذلك كله، فقد وضح للجنة أن عدداً كبيراً من الذين شملتهم معالجة الخطأ تضرروا كثيراً من هذا الإجراء بسبب توقف مرتباتهم، وعدم منحهم معاشات لفترة إمتدت من العام 2003م حتى تاريخه، ولفتت اللجنة في تقريرها إلى أنها استمعت إلى الرأي الفني والقانوني من قبل جهات الاختصاص، وتمثلت تلك الجهات في وزارة العمل والخدمة العامة وتنمية الموارد البشرية، وزارة الزراعة والغابات ممثلة في المدير العام للشؤون الإدارية والمالية، الصندوق القومي للتأمين الاجتماعي والصندوق القومي للمعاشات، ديوان شؤون الخدمة ممثل في مديره العام. كما إستعانت اللجنة بالرأي القانوني الذي قدمه لها مدير الإدارة القانونية بالأمانة العامة لمجلس الوزراء، وقامت وزارة الزراعة والغابات بتكليف من اللجنة بمراجعة دقيقة وشاملة لكافة الحالات التي لم ترد بالقرار رقم (653) لسنة 2002م، والذين تلقوا خطابات إدارية بإلغاء الوظيفة ولم يشملهم القرار، وخلص التقرير إلى حقيقتين مهمتين، كشفتا أن هناك تسعاً وخمسين شخصاً تم إلغاء وظائفهم، وتمت تسوية معاشاتهم عن طريق الخطأ، وأن هناك مائتين ثلاثة وأربعين شخصاً تم إلغاء وظائفهم ولم تجر لهم أية معالجات، وألحقت بالفئتين كشفاً ضم أسماءهم.
حصحص الحق..
رفعت اللجنة توصياتها بعد أن نظرت حسب اختصاصاتها في الحالات التي لم يشملها القرار، ونظرت في كافة الخيارات المتاحة للمعالجة، وطرحت عدداً من المقترحات، ووضعت مزايا كل منها وسلبياتها، شملت المقترح الأول الذي وصفته بالمرجح، والذي يقضي بتسوية معاشات المعنيين لإلغاء الوظيفة من تاريخ الموافقة على التوصيات التي رفعتها على أن يراعى في ذلك عدد من الموجهات، بحيث تكون الفترة من تاريخ صدور قرار الإحالة إلى تاريخ صدور هذا القرار، أو تاريخ بلوغ سن التقاعد الإجباري، أو تاريخ الوفاة خدمة فعلية لأغراض تحسين فوائد ما بعد الخدمة، وأن تتم تسوية المعاش على الأجر الحالي للدرجة التي تقاعد بها عند الإحالة، وأن يبدأ المعاش المستحق بعد التحسين من تاريخ صدور القرار، وأن يكون للذي يحسن معاشه الحق في استكمال الاستبدال، وأن تلتزم الدولة بسداد كامل الالتزامات للمعاشات أو التأمينات. ومضت اللجنة تشير إلى مزايا المقترح على أنه يؤدي لإنفاذ سياسة الدولة الرامية إلى الإصلاح الهيكلي والاقتصادي، وعدم إعادة أولئك العاملين حتى لا يحدث ترهل في الهياكل الوظيفية، كما أنه يحقق حسب إفادة اللجنة مبادئ العدالة في معالجة المشكلة ورد حقوق أولئك العاملين الذين تضرروا من معالجة خاطئة بوزارة الزراعة والغابات، وأشارت اللجنة إلى أن للمقترح سلبية واحدة تمثلت في عدم إرضائه رغبة المحالين بالإعادة إلى الخدمة. ومضت اللجنة لتعرض مقترحها الثاني وأسمته بالمعالجة وفقاً للفئات العمرية، وشرحت ذلك بأنه يعني تسوية معاشات المعنيين لإلغاء الوظيفة من تاريخ الموافقة على التوصيات التي رفعتها اللجنة. وفي خيارها الثالث ساقت ما أسمته تقنين الوضع بإلغاء الوظائف، بحيث تتم وفقاً لما ورد بالقرار رقم (177) لسنة 2007م بشأن العاملين بمؤسسة الرهد الزراعية، وأن يتم إلحاق العاملين بالقرار رقم (653) لسنة 2002م. وفي الخيار الرابع الذي أطلقت عليه اللجنة الإعادة للخدمة، ومضت لتفصل فيه بقولها يعاد المعنيون إلى الخدمة ويراعى في ذلك أن يعاد العامل الذي لم يبلغ سن التقاعد في نفس درجته الوظيفية التي أحيل منها، وأن تكون الفترة من تاريخ انتهاء الخدمة إلى تاريخ الإعادة إجازة بدون مرتب لأغراض تحسين فوائد ما بعد الخدمة. وإنتقلت اللجنة لتعرض خيارها السادس المتمثل في إعادة المعنيين للخدمة، بحيث تكون الفترة من تاريخ صدور قرار الإحالة إلى تاريخ صدور القرار، أو تاريخ بلوغ سن التقاعد الإجباري، أو تاريخ الوفاة خدمة فعلية لأغراض تحسين فوائد ما بعد الخدمة، وأن يلتزم المعنيون بسداد أقساط المعاش المستحقة التي تصل إلى ثمانية بالمائة خلال فترة التوقف، وأن تلتزم الدولة بسداد متبقي الأقساط البالغة سبعة عشر في المائة، بجانب التزامها بسداد كامل الإلتزامات للمعاشات أو التأمينات للذين يتوفاهم الله.
إعترافات مثبتة..
بتاريخ الرابع من نوفمبر من العام 2009م، خاطب وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء وقتها وزير المالية والإقتصاد الوطني ووزير الزراعة والغابات الدكتوران “عوض أحمد الجاز” و”عبد الحليم إسماعيل المتعافي” على التوالي، خاطبهم بمكتوب رسمي اعترف فيه صراحة بتجاوز وزارة الزراعة والغابات، وفصّل في ذلك ليختصر التجاوز في إضافة أسماء أشخاص لا علاقة لهم بمضمون القرار الصادر عن مجلس الوزراء مبتدأ.
(المجهر) بعدما استمعت لإفادات عدد من المفصولين عقب حصولها على المستندات الكاملة للقضية، كان لزاماً عليها أن تجلس إلى الطرف الآخر ممثلاً في الهيئة العامة للغابات، والتي أعطت الأستاذة “مريم محمد الحسن” من الهيئة النقابية للعمال الإذن بالحديث للصحيفة، والتي أكدت فصل عدد من العاملين وفقاً للقرار المذكور الصادر في العام 2002م، ومضت لتضيف أن الهيئة والنقابة ليست لهما يد في إصدار القرار كونه صادراً عن مجلس الوزراء، لكنها أكدت أنهم قاموا بتكملة الإجراءات التي مكنتهم من صرف مستحقات عدد من العاملين كاملة، فيما لم تتمكن فئة أخرى من ذلك بسبب أخطاء في بعض الأسماء لفترة زمنية، بعدها استطاعت الهيئة توفير كافة المستحقات المالية العاجلة والتي تم صرفها للعاملين، ونفت تماماً إضافة أسماء لم يتضمنها الكشف الصادر، ووجود لبس في أسماء عدد من المفصولين نهائياً، لكنها أوضحت أن عدداً من الأشخاص الذين تضمينهم الكشف الأول في العام 2002م توفوا خلال الفترة المبتدئة من ذلك التاريخ إلى تنفيذه في العام 2003م، وقالت تعليقاً على ما أوردناه سابقاً بخصوص اعتراف مجلس الوزراء بوقوع خطأ كان يتحتم عليه إيجاد وظائف أخرى لحل الإشكالية، ومضت لتضيف من واقع متابعتها للقضية أن المحكمة ألزمت مجلس الوزراء لاحقاً اعتبار المفصولين معاشيين تم تقاعدهم في نفس تاريخ الفصل، وقامت وزارة المالية بسداد مستحقاتهم التي بلغت ما يقارب المليار. وهكذا أسدل الستار على المشكلة، أستاذة “مريم” قالت ذلك وصمتت برهة من الزمن بدت كمن يراجع ملفات عديدة موجودة بذاكرتها عادت بعدها لتقول: إن المشكلة حالياً تتمثل في أن الهيئة القومية للغابات ولائية والتأمينات ولائية، وذلك يتطلب ضرورة إنجاز إجراءات عديدة، ليتمكن المفصولون من أخذ مستحقاتهم المعلقة بالتأمينات الإجتماعية.
الظلم ظلمات..
تقرير لجنة حصر المحالين للتقاعد بإلغاء الوظيفة بموجب القرار رقم (653) لسنة 2002م، خلص إلى نقاط أساسية لتضع النقاط على الحروف، بإشارتها إلى أن القرار تضمن إساءة استعمال السلطة مع مخالفة قوانين الخدمة العامة وفقاً للمادة (18) من لائحة الخدمة المدنية القومية لسنة 2007م، التي حددت حالات فقدان المرتب ومنها إنتهاء خدمة العامل بإلغاء الوظيفة، ولما كانت خدمة الطاعنين قد انتهت بصدور القرار 130/2010م، نتيجة تلك المستندات وما بين دفتيها ألقت بآثار سالبة كبيرة على أرض الواقع، وامتد الأثر ليطال أسر الضحايا، وتلك هي الفئة التي تلقت الظلم، وكان يتحتم عليها معايشته رغم أنها لا تمتلك يداً في ذلك، فبعضها تشرد فيما فقد عدد من الأزواج انتماءهم الأسري بعدما قست عليهم الظروف الاقتصادية الضاغطة، حيث لجأ كثيرون للطلاق، وعجز بعضهم عن تسديد متطلبات أبنائهم المادية التي تمكنهم من الاستمرار في مسارهم الأكاديمي، فيما لقي آخرون حتفهم نتيجة الغبن المتراكم في النفوس عقب إعلانهم عدم المقدرة على صرف روشتات علاجهم، التي تعينهم على التعايش مع الأمراض المزمنة التي تحتاج علاجاً دائماً بلا انقطاع كمرض (السكري والضغط)، وأصبح عدد كبير من الآباء تائهين بلا عمل ولا مأوى.