تقارير

ازدهار ثقافي واحتضار رياضي ورضاء سياسي … بورتسودان حلاوة مدينة مالحة!

تتكئ بورتسودان على تاريخ موغل في القديم.. ووجود في الساحة الوطنية متفق عليه، خرج من أحيائها الثرية وعباب بحرها المالح “محمد عبد الجواد” الاتحادي ذو المرجعية الفكرية البعثية، وخرج من طوكر رجلٌ رفض مصافحة “عبد الناصر” حينما كان “عبد الناصر” نجماً في سماء العرب ورمزاً للمقاومة والرفض وساحراً يتوق لرؤيته الملايين.. رفض “موسى حسين ضرار” مصافحة أيدي أراقت دماء الإسلاميين في مصر.. وبعيداً عن “ضرار” خرج من صدف البحر “أبو آمنة حامد” و”شوقي حسب الله ملاسي” و”كمال عبد اللطيف” وزير المعادن و”الطاهر حسيب” (أحرف كورنجي) لعب في صفوف الهلال، وآخر عناقيد المدينة “محمد طاهر إيلا” الوالي الذي حاز على رضاء جماهيري لم يحظَ به والٍ في الغرب أو الوسط.. كان المساء (خميس) والمدينة تكتحل بالجمال.. الشوارع أنيقة والناس على وجوههم ابتسامات الأمل والرضاء وليس ابتسامات الخوف والخنوع.. ومطار بورتسودان الذي لم تبلله حتى اليوم أمطار الشتاء قد ازدان بصور للرئيس “البشير” و”علي عثمان محمد طه” ود. “الحاج آدم” ود. “نافع علي نافع” ليوزع “إيلا” على النجوم الأربعة وفي (القبل) الأربعة صوراً وإلى جانبهم رجل الشرق الذي أعاد (حياكة) ملابس المدينة الخارجية والداخلية من جديد وأضفى على شوارعها شيئاً من الجمال كأن بورتسودان العطشى المظلمة قد عادها الصبا ونفضت عن ذؤابتيها غبار النسيان، وبورتسودان تستمد من الراحل الشريف “زين العابدين الهندي” بعض الرحيق الطاعم وحلاوة النغم الطروب:
وناس “أوشيك” يخنقوا في الربابة ويغنوا
أوهاج سل شوتالو وبركلو يسنو
تمباك الدمك جوه الكدوس حاشنو
جبنات يا بنات هربوا قامن وجنو
دبايوا أوجات كيها يأدروب أبوك كيفنو؟
روح تندلاي ولا الصهب فاتنو
{ النصر بعد الهزيمة:
حلاوة الانتصار حينما يخرج من تحت رماد الهزائم والانكسار وبورتسودان بعد فاجعة شهداء البجا و(تلويث) شوارع المدينة بدماء شعب نظيف رغم الغبار.. طاهر القلب.. رغم ملوحة الأرض.. خرجت بورتسودان حزينة مكسورة الخاطر مجروحة القلب حاسرة الرأس لكنها استقبلت الدكتور “محمد طاهر إيلا” بقلب متوجس وقلب متفائل وقلب خائف وقلب متربص..  كان “إيلا” موظفاً في المدينة ناشطاً في هيئة الموانئ البحرية قريباً من الناس بعيداً عن الحزب الاتحادي الديمقراطي ومؤتمر البجا.. خياره الجبهة الإسلامية سياسياً.. لكنه قريب من بورتسودان المدينة.. في غضون سنوات أصبح (إيلا هديد) وإيلا جديد.. دكتوراً وبطل تنمية، وعند آخرين دكتاتوراً في ثياب قديس!! سألت وزير المالية ونائب الوالي القادم لساحات الوزارة من قلب السوق والتجارة.. كيف نهضت بورتسودان بعد جوع.. وفقر.. وعوز واحتجاجات وصلت حد المواجهة بالسلاح والتمرد؟.. فقال “صلاح سر الختم”.. استثمرت حكومة الولاية ـ ولم يقل السيد الوزير استثمر الوالي ــ في القانون والدستور.. أخذنا حقوقنا من المركز ووظفنا المال الشحيح بعدالة وفق جدولة أولويات ما بين المحليات وعاصمة الولاية.. شجعنا إنسان الشرق ليثق في نفسه وقدراته.. اقتربت الحكومة من رجال المال والأعمال ونزع الوالي “إيلا” عن منصبه مظهر السلطة التي يحرسها العسكر الشداد الغلاظ.. مشى بين الناس في الأسواق.. لم (نضيق) واسعاً.. رفضنا أساليب النظام العام الذي يقبض على الناس بالشبهات.. (طبق) الوالي سياسة شرعية لا تجسس ولا انتهاك لخصوصيات الناس.
مضى “صلاح سر الختم” يتحدث والابتسامة تضيء وجه شاب يثق في قدراته ونفسه.. أيهما أفضل أن يبسط للناس حريات بلا خلاعة أو انتهاك لحقوق الآخرين أم نجعل البعض يحمل السلاح ويقتل الأبرياء دون وجه حق؟
{ أفراح بلا أتراح!
في (عرين القوات المسلحة) قوات البحرية شهد نائب رئيس الجمهورية د. “الحاج آدم يوسف” عروضاً جذبت سكان المدينة طوعاً دون حشود سلطوية أو لجان تعبئة في الأحياء السكنية، بثت طائرات التدريب المتقدم الطمأنينة في القلوب وصغار الطيارين (يتلاعبون) بها كالريشة وسط عاصفة رياح.. في مهارة فائقة تنسل الطائرة بين أعمدة خرصانية في الميناء وتحلق بصوتها المرعب في سماء المدينة وقوات الأمن البحري تبحر في الساحل ولا يكف مقدم البرنامج من الثناء على هديا قدمتها المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية للأمن البحري لمحاربة التهريب.. ثم تخرج الضفادع البشرية من الماء في مظهر تقشعر له الأبدان طرباً.
والأستاذ “كمال عبد اللطيف” وزير المعادن يختفي عن “محمود” رجل المراسم.. ويثير غياب الوزير “كمال عبد اللطيف” شيئاً من القلق.. لكن النائب د. “الحاج آدم يوسف” يقول لزعيم جماعة أنصار السنة المحمدية الوزير (الهد) “كمال” يعاود أسرته.. وحينما يعود بعد ساعات تبدت عليه علامات الرضاء، ووليد دارفور وزير الدولة بالإعلام (كالأطرش في الزفة)، والحديث عن المحاولة الانقلابية والتخريبية يفسد على بهجة الاحتفال وحلاوة (خميس) بورتسودان.
{ زعيم المعارضة يتحدث لـ(المجهر)
غادرت وأخي وصديقي ورفيق دربي لسنوات ورحلات وقصص وحكايات الأستاذ “الصادق الرزيقي” رئيس تحرير (الانتباهة) إلى قلب المدينة نبحث عن رأي آخر وصورة غائبة ومشهد مغاير لبورتسودان الرسمية.. ومظاهر الفرح والنشوة.. وكان فتى المدينة وأحد وجوه الشرق المشرقة رجل الأعمال “ناصر الطيب” قد أخذنا إلى قلب المدينة وديم عرب وسلالاب بحثاً عن “هاشم كنه” المحامي المثقف وعن “نفيسة الشرقاوية” وعن “هاشم بامكار” زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي وعن زعيم المعارضة “حامد محمد علي” القيادي البارز في المؤتمر الوطني حتى عهد قريب، ولكن عصفت به الخلافات والشقاقات خارج أسوار الحزب، ولكنه دخل إلى قلوب الناس بمدنيته في دار حزب التواصل المتواضعة حد الفقر المدقع، ولكنها غنية بجماهير تأتي (راجلة) لا تنتظرها الفارهات في الشارع ولا تفوح من ثيابها إلا رائحة (عرق الكادحين إلى ربك كدحا) وعلى طريقة الأسئلة الصارمة قلت للزعيم “حامد” خرجت من المؤتمر الوطني أم أخرجوك؟.. قال بحزم: خرجتُ حينما أصبحتُ رجلاً صورياً في الحزب وعضواً لا يأبه له أحد في المكتب القيادي، وحينما شعرت بأن وجودي في حزب المؤتمر الوطني لا يعبر عن مصالح جماهيري في الخارج، وإن التزامي بوطني وشعبي أهم من مصالح الدنيا الفانية!
يرفض “حامد” وصف خروجه من المؤتمر بأنه غضب مؤقت وخلاف مع “إيلا”.. ولكنه يقول الآن الجماهير معنا والسلطة في كف المؤتمر الوطني.. في الانتخابات الماضية أثبتنا التزوير ولم ننل حقوقنا. انسحبت لصالح “أبو فاطمة” المرشح المستقل رغم أن (40%) من المسجلين هم قواعدي، ويقول “حامد محمد علي” إن حزبه لا يمثل البني عامر ولا شرق السودان وحده وإنهم بصدد التواصل مع مدن مثل نيالا ومدني وكادقلي ويعتمدون على أنفسهم في تمويل نشاطهم الحزبي.. جنيه من كل عضو شهرياً يكفيناً حتى نرسي أدباً جديداً.. ولو كان الفقر سبباً يحول بين الأحزاب لتبلغ السلطة لما حصل “فليب عباس غبوش” على مقعد واحد في انتخابات 1986م.
{ ثقافة تزدهر ورياضة تحتضر:
في إستاد بورتسودان الذي اكتسى بنجيل صناعي حديث.. كان ألف تلميذ وتلميذة من البحر الأحمر يواجهون كاميرات التلفزة.. يتغنون بلهجات محلية ولسان عربي مبين واللهجات المحلية تسمى (رطانة) لمن يحتقرون ثقافة الآخرين وتعبير رطانة فيه تعالٍ وازدراء لثقافة الآخر.. لكن كل المطربين الذين تراقصت لأنغامهم ساحات الإستاد طرباً تغنوا بالبجاوية! وكان لقبيلة المسيرية وجود ثقافي أضفى على المهرجان مذاق وطعم تلاقح ثقافات الغرب والوسط والشرق في غياب الطمبور الشايقي الشمالي ورقصات النوبة الذين لهم وجود في المدينة.. ولكن مولانا “سيد حامد” المستشار القانوني لهيئة الموانئ البحرية تبرع بالحديث عن ضمور الحركة الرياضية في بورتسودان، وتذكرت هنا قصة هلال بورتسودان الذي يكافح من أجل العودة للدوري الممتاز بعد سقوط حي العرب العام الماضي وعجزه عن النهوض هذا العام وحي العرب هو فريق الهدندوة يمثل طبقة الكادحين، بينما يمثل هلال بورتسودان الأثرياء من (البلويت) أي القادمين من شمال السودان.. فكيف تزدهر بورتسودان ثقافياً بالمهرجانات الغنائية والاحتفالات والتسوق والسياحة وتموت وتحتضر رياضياً؟.. وقبل أن نلوح للمدينة بالوداع تحدث الوالي د. “محمد طاهر إيلا” لـ(المجهر) وقال إن ولايته بدأت تكسب وتربح من مهرجان السياحة وهي تراهن على المستقبل القريب لتعتمد على نفسها وتهب المركز شيئاً من الدعم.. وبدا السيد “إيلا” واثقاً من نجاح الملتقى الاستثماري في ولايته في النصف الأول من الشهر القادم، ولكنه ينظر إلى قضية المياه القادمة من نهر النيل كأولوية قصوى.. والمياه في بورتسودان تشكل هاجساً كبيراً جداً.. رغم الثراء والجمال والألق فالمدينة عطشى، ولكن ثيابها حتى الآن نظيفة جداً!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية