أمين حسن عمر … سعي لاهث بين (صفا) الفكر و (مروة) السياسة!!
والجذر الاشتقاقي لاسم حجة، يحيلك، من ناحية ما، إلى العنف والأذى بمعنييه المادي والنفسي، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الشهير “ابن رشد” نفسه، ولأن (الحجج) و(الملاججات) تعتبر نُذراً لحرب (كلامية) وشيكة (سجال)، فربما تقود إلى عنف حقيقي في بعض الأحيان.
وفي هذا الصدد تتوسل مصطلحات علم النفس معاني مثل الدفاع، والكسر، والإبطال، والنقض والطعن والمنازعة، لتعبر بهم عن ذلك العنف الناجم عن المشادات الكلامية وهي مصطلحات ليست بعيدة عن مدار العنف.
ويقول ” ابن رشد” في تلخيص الخطابة، مستعرضاً أنواع الحجج التي تنتج بها صناعة الخطاب لتحقق غايتها في الإقناع، نقلاً عن “أرسطو” أنه قال: (وليس واجباً أن نرى أنه قبيح بالإنسان أن يعجز عن أن يضر بيديه، ولا نرى أنه قبيح أن يعجز عن أن يضر بلسانه).
لكن الخطابة المدججة بحجج الإقناع أضحت الآن – وبعيداً عن فلسفة أرسطو وابن رشد صناعة قد لا تُمكن المرء من تخطي وضعية العجز عن الأذى باللسان إلى وضعية القدرة على ذلك، خاصة وأن الإعلام المرئي يتيح قدراً كبيراً من الرجم اللغوي المهول.
(1)
وحين نلتقط صورة مكبرة للدكتور “أمين حسن عمر” القيادي بحزب المؤتمر الوطني والوزير، لابد أن نوجه (فلاشاتنا) إلى سيرته المبكرة قبل الولوغ إلى ما بعدها من تفاصيل، و”أمين” شهد الحياة لأول مرة سنة 1951م بمدينة الأبيض وسط السودان، وهي مدينة الصمغ والرمال، وهما مادتان رئيستان في صناعة الزجاج إذ تقول الموسوعة العلمية إن صنع الزجاج يتم بخلط كمية كبيرة من الرمل مع كميات قليلة من الصمغ والجير والصودا وبعض المكونات الأخرى من الألمونيوم وأكسيد الزرنيخ الأبيض، ثم يُصار إلى الزجاج بتسخين كل هذا الخليط أو جزء منه في فرن حتى يصبح كتلة من السائل الكثيف اللزج.
ولعل مولد “أمين” في مدينة الرمل والصمغ جعله لاحقاً يبدو كقارورة مختلفة وسط رهطه من الإسلاميين، إذ إن تمسكه بخطه الفكري والسياسي على هذا النحو (اللاصق) يجعل أسطورة الصمغ أكثر تبدياً وتمظهراً في سماته الشخصية، فهو ذو عزيمة لا تلين وعريكة لا تهون و ذو خصام مبين.
وفي سيرة “أمين” الباكرة نقرأ أنه تلقى تعليمه في (أتبرا) وهي مدينة ملقبة بلقب (صقيل) وذي بأس شديد، إنها مدينة الحديد والنار ومدينة النضال التي تتكسر فيها النصال على النصال، ومن حديد ونار ونضال (أتبرا) أخذ “أمين” قوة شكيمته وبعض ما يطفو من عنف وحدة في خطابه وتصريحاته حتى تظنه سينقض على خصومه وهو يحاورهم (نصلاً بنصل) وليس حجة بحجة وبرهاناً بدليل.
(2)
شهدت مدرسة العلوم السياسية بجامعة الخرطوم بين أعوام 1971م – 1975م، إطلالة ذاك الشاب النحيل في بنطلون عادي وقميص (نص كم) وشعر كثيف رغم شيوع موضة (الشارلستون)، وفي ذلك يقول “أمين” نفسه: (والإخوان المسلمون كانوا مشهورين بلبس القمصان ذات الأكمام الطويلة التي لا يهتمون بثنيها، كما كان ممنوعاً عندهم لبس قمصان ملونة، لذا كان من السهل التعرف عليهم بسبب شهرة الإخوان المسلمين بهذا الزي، ولكي نتميز عنهم كنا نرتدي قمصاناً بأكمام قصيرة، ومن يرتدِ قميصاً بأكمام طويلة يقُم بثنيها).
إذاً حينها وفي “أتبرا الثانوية” لم يكن “أمين حسن عمر” أخاً مسلماً، فماذا كان يا ترى؟ يُقال إنه كان شيوعياً قبل أن يتخذ من الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين مُعبِراً عن أفكاره وطموحه السياسي، لكنه شخصياً لم يقر بشكل كافٍ بشيوعيته آنذاك، لكن ما يبدو عليه من ملامح (شوعنة) في طريقة حديثه وجدله جعلت كثيرين يجزمون بذلك، وبحسب “أمين”، في أحد الحوارات الصحفية التي أجريت معه: (فإن المناخ العام في ذلك الوقت كان يسارياً، وقد كنا ناشطين بأتبرا الثانوية في الفترة ما بين 67-1971م، كانت مدرسة كبيرة، ودفعتنا كانت آخر دفعة تمدرست بنظام الأربع سنوات، وكانت كتب التاريخ والجغرافيا متوفرة بالمدرسة باللغة الإنجليزية، ورغم أن التدريس كان يتم باللغة العربية، حيث كانت دفعتنا هي الدفعة الثانية بعد تطبيق نظام التعريب (التايكس بركس)، فنحن كنا دائماً في مرحلة انتقالية، وأذكر أنه عند التحاقنا بمدرسة عطبرة كان التنظيم الأكثر نشاطاً حينها هو تنظيم الإخوان المسلمين، إلاّ أن الحزب الشيوعي قام باستقبال الطلبة (الخارجيين) الذين يأتون من دنقلا وشندي وبربر والدامر، والمناخ العام هناك كان اشتراكياً لأن نقابة العاملين بالسكة الحديد كانت نشطة رغم أنها لم تكن شيوعية مائة بالمائة، وكان المزاج السياسي أقرب للاتحاديين منهم للشيوعيين، وفي ذلك الوقت حزب الشعب الديمقراطي كان مزاجه السياسي والثقافي ناصرياً، فالمزاج العام كان خليطاً ما بين الناصرية والاشتراكية والشيوعية)، وأضاف: (وبالمناخ السياسي السائد كنا نحب الرئيس “جمال عبد الناصر” ونتلهف لسماع خطبه ونستمع لإذاعة صوت العرب، وبالنسبة لنا كنا نرى الاشتراكية شعاراً واحداً، وعندما حضرنا للمدرسة سمعنا للمرة الأولى بالماركسية و”لينين”).
واستطرد “أمين”: (كانت (أتبرا الثانوية) تجمع عدداً كبيراً من الطلاب والمعلمين وهذا يجعلها أقرب للمستودع الفكري أو مستودع الصفوة للمدينة، وكان هناك كادر باسم (الكادر الموسع) ويشمل قيادة الحزب الشيوعي والمفرغين ورموزاً من المدينة منتمية للحزب الشيوعي منهم أطباء ومهندسون، كما كان هناك تمثيل للمدرسة، فالمسؤول الأول والمسؤول الثاني في المدرسة، السكرتير العام، والسكرتير الإداري هؤلاء ممثلون في الكادر الموسع).
ويبدو أن “أمين” أراد أن يقول إنه كان ضمن الكادر الموسع ذي المزاج السياسي والفكري الهجين ما بين الناصرية والاشتراكية والشيوعية والنقابات العمالية، والاتحادات الطالبية، ومن لدن الكادر الموسع انضم للإخوان المسلمين متأخراً نسبياً وهو في السنة الثالثة في جامعة الخرطوم، حيث علق في حوار صحفي سابق على انضمامه للإخوان قائلاً: (بدأ التأثر بهم في جامعة الخرطوم، لأنني ظللتُ على الاتجاه ذاته حتى السنة الثالثة بالجامعة، بعدها تحولتُ للاتجاه الإسلامي وكان هذا التحول حدثاً مدهشاً لمن يعرفونني من اليساريين وحتى للآخرين).
(3)
و”أمين” في أشجان توحده يبدو قريباً من الإسلاميين، وليس نائياً عن الاشتراكيين، خاصة إذا ما أخذنا خلفيته الصوفية إذ ينحدر من أسرة تتبع الطريقة السمانية، والصوفية تدعو للزهد وللشراكة في أقصى صورها (الفقرا اتقاسموا النبقة)، لذلك عندما انضم “أمين” للإخوان كان متوتراً وعصبياً إذ قال: (لم يكن ذلك سهلاً علىّ، لأن هناك روابط اجتماعية ووشائج وجلسات سمر مشتركة ومغامرات وصفقات، وإخواننا من الطرف الآخر اعتقدوا أنني مريض نفسياً أو أمرّ بحالة نفسية، وآخرون زعموا أن الإخوان المسلمين اشتروني)، فهل يا ترى أراد “أمين” أن يقول إن من وصفهم بإخوانه في الطرف الآخر توسلوا في توصيف انقلابه الفكري والسياسي عليهم بمصطلحات علم النفس التي تعرضنا إليها آنفاً؟.
و”أمين” رغم كل ذلك يكتب شعراً أعذبه منه برأيي الشخصي ما ورد ضمن ديوانه “أشجان المتوحد” فيغادر به ماضيه الاشتراكي وحاضره (السلفي الليبرالي) إلى السمانية ولو إلى حين. لكنه ما يلبث أن يعود إلى مسرح السياسية أكثر حدة فيسخر من تصريح رئيس حزب الأمة القومي “الصادق المهدي”، بإنفاذ المعارضة لاعتصام مفتوح فيعلق قائلاً: (الميادين مفتوحة للنزهة)، وراهن على عدم تجاوب الشارع معهم، مضيفاً: (إذا تم ذلك فلن يكون له أثر)، وفي حوار مع السوداني وصف “أمين” المؤتمر الدستوري الذي تنادي به القوى السياسية المعارضة بأنه مجرد (مخزن فاضي)، وأكد عدم وجود شيء يمكن تسميته بالحل القومي الشامل.
وما بين الأبيض وأتبرا و جامعة الخرطوم، وكولومبيا (ميسوري)، ووظيفة ضابط علاقات عامة، وصحفي، ورئيس تحرير، ووزير، وشاعر، ومفكر، تنقل “أمين” وهو يحاول وضع (عقدة المفكر على منشار السياسي) فيصيب أحياناً ويخفق، لكن كل ذلك يشير بوضوح إلى فاعلية (الرجل) ونشاطه وقدرته المذهلة على العمل والالتزام بالتنظيم، وإلاّ كيف استطاع أن يكتب ويؤلف بين الفكر والفقه والشعر كتباً مثل (أصول السياسات، صراع العلمانية والإسلام في الشرق الأوسط، أصول التفكير الإسلامي، أصول الثقافة السودانية، وديواني شعر هما أشجان المتوحد ومحمديات)؟.
(4)
و”الترابي” الذي يعتبر عراب الحركة الإسلامية في السودان وسادنها الأعظم وصف تلميذه وزير الدولة برئاسة الجمهورية حالياً ” د. أمين” في حوار سابق مع (المجهر) بأنه قد يكتب كتباً لكنه لا يصلح للسياسة، وكان أول لقاء جمع “أمين” بشيخه، بحسب الأول في منزل (العراب) بالخرطوم عام 1974م، وقال د.”أمين”: (في ذلك الوقت لم أكن أعتبر نفسي أخاً مسلماً، لكنني خرجتُ بانطباع قوي بأن “الترابي” شخص مثقف، وكان يتحدث بثقة وحرية تامة في التعبير).
(5)
لكن خصومه يصفونه بالحدة في التعبير وأحياناً بالنزق في مواجهتهم، وأنه أي “أمين” في تقاطعاته بين الرمل والنار والصمغ والحديد والاشتراكية والصوفية والفكر والسياسية ظل نسيجاً وحده يكابد عزلة من نوع خاص، عزلة ربما أراد أن يفرغها في ديوانه (أشجان المتوحد) الذي يشير إليها ابتداءً بعنوانه وإلى تفاصيله الموغلة في الزهد والشجن والنأي عن تضاعيف الحياة اليومية وتفاصيلها الدقيقة المحايثة لرثاثة اليومي والعادي.
وما بين تلك الحدة والعنف في مجابهة الخصوم، وذاك الماضي وهذا الحاضر الماثل للرشق والعيون، يعتقد كثيرون أن “أمين” لم يستطع بعد وضع (عُقدة) المفكر على (منشار) السياسي، ليبدو أكثر انسجاماً وهو يسعى بين (صفا) الفكر الحاد والثاقب و(مروة) السياسة المتقلبة والمُداهنة، فهل يا تُرى يستطيع إكمال أشواطه السبعة أم يقع مغشياً عليه قبل إكمالها إلى خط النهاية؟.