أين (الرقيب) و(الضمير)؟! تعاطي وصرف العقاقير عشوائيَّاً .. الداء في الدواء..!
أن يرتكب مواطن في حق نفسه (جريمة) – بجهل أو بعلم – فتلك مصيبة.. لكن المصيبة الأكبر أن تساعده جهة (رسمية) في ذلك بأن لا تمنعه عن طريق (الرقابة)..!
لا تندهشوا سادتي – مواطنين ومسؤولين – فما نعنيه هو (الصرف العشوائي للأدوية من الصيدليات – خاصة المضادات الحيوية – دون وصفة طبية)..!
هل تصدقون أن مواطناً (ظالماً لنفسه) دخل إلى صيدلية وطلب أن يشتري (استربتومايين)، وهو – لمن لا يعلم – ضمن البروتوكول المعالج للسل الرئوي.. في حين أنه مصاب بـ (نزلة)..!!
وإذا افترضنا أن هذا المواطن ظنَّ أنه حرٌّ في أن (يدلق) ما يشاء من عقاقير طبية في جوفه.. أليس هناك (عاقل) يمنعه.. بدءاً من الصيادلة وانتهاء بالجهات المفترض فيها أنها تراقب الصيدليات..!
لا جدال في أن الصرف العشوائي للأدولية مضر.. لكن المصيبة أنه يُمارس (على عينك يا رقابة)!! و(السلعة) الأكثر مبيعاً هي المضادات الحيوية التي أدى استخدامها عشوائياً إلى إظهار عينات – بعد خضوعها للتزريع – مقاومة للجيل الثالث من المضادات.. وهو من أقوى أنواع المضادات – كما قال لـ (المجهر) أطباء!!
فمتى يتم ضبط سوق الأدوية.. وكيف؟!
{ (الفلاجيل) في (الدكاكين)..!!
(المجهر) نزلت أولاً إلى (الشارع) وسألت بعض المواطنين إن كانوا من الذين يصرفون أدوية من صيدليات دون استشارة الطبيب.. فقالت بدءاً المواطنة «محاسن الصادق» معترفة: (هناك أدوية عديدة نستخدمها دون استشارة الطبيب، والسبب أن الأمراض تكون بسيطة مثل (النزلة) والحميات العارضة في فصل الصيف، فهي لا تحتاج أن نذهب لمقابلة الطبيب، ونكتفي بالأدوية المعروفة، وهي المضادات الحيوية العادية الموجودة في الصيدليات.. ونحن نتبع هذه الواصفات منذ زمنٍ طويل، وهي أفضل من العلاج البلدي).
سألنا «محاسن» إن كننت تعلم – وتتجاهل – أن هناك خطورة في صرف الأدوية بدون وصفة طبية فقالت: (نحن في حيرة من أمرنا ولا ندري ماذا نفعل.. إذا رجعنا إلى العلاج «البلدي» القديم نُنعت بالجهل، وكذلك إذا اشترينا هذه الأدوية البسيطة.. ولا علم لي حول وجود أضرار لتعاطي المضادات الحيوية عشوائياً، ونحن أيضاً نتعاطى حبوب (الفلاجيل) وهي موجودة في (الدكاكين)!! وإذا كانت لها أضرار يفترض في وزارة الصحة أن تحظر تداولها بشكل عشوائي، فنحن نختار طريق العلاج السهل والمتوافر.. بدلاً من الانتظار في الصفوف لساعاتٍ طويلة عند عيادة الطبيب من أجل أمراضٍ خفيفة يمكن أن تعالج بالمضادات الحيوية)..!
{ كالمستغيث من الرمضاء بالنار!!
وإذا كانت «محاسن» تُرجع استخدام الأدوية عشوائياً إلى (الكسل) من الانتظار طويلاً في صفوف (الدكاترة).. فإن المواطن «عبد الله محمد» لديه وجهة نظر إخرى.. إذ يقول: (السبب في استخدام المضادات الحيوية وغيرها بشكل عشوائي هو غلاء (الكشف)، إذ أن أقل مقابلة للطبيب تكلف نحو (50) جنيهاً، وحال ذهبنا إلى المستشفيات الحكومية ننتظر في الصفوف لساعات طويلة، ونهدر كثيراً من الوقت، لذا يكون تناول العلاج من الصيدلية مباشرة هو الحل السحري لجميع هذه المشاكل).
ويعترف «عبد الله» بأن هناك مخاطر في التعاطي العشوائي لكنه يستطرد: (لا توجد جهة لتوعية المواطن البسيط بأضرار هذه الأدوية واستخداماتها عشوائياً.. وحتى الصيادلة يصرفونها دون أن يسألوا المريض عن الأعراض التي يشتكي منها، والسبب هو كثرة الصيدليات.. الشيء الذي جعل الرقابة عليها أمراً شاقاً، وبعض هؤلاء الصيادلة هم إما تلاميذ تحت التدريب أو خريجون جدد، ويجب على الجهات المختصة توعيتهم ومراقبتهم.. وأنا من هذا المنبر (المجهر) أوجه رسالة واضحة وقوية إلى وزارة الصحة، أن تُولي هذه القضية اهتماماً أكبر، وأن تعمل على نشر الثقافة الصحية وسط المواطنين، لأنه إذا كان هناك وعي صحي، فسوف تختفي العديد من هذه المشاكل).
{ مثال للوعي!!
وبالتأكيد ليس كل المواطنين يتعاملون بهذا الاستسهال تجاه الأدوية.. فقد أكدت الطالبة بجامعة الرباط «سارة عبد الباقي» أنها لا تستخدم أي دواء دون وصفة طبية.. وأضافت: (ولا أنصح أحداً باستخدام الدواء – خاصة المضادات الحيوية – قبل استشارة الطبيب، وقد يستهين البعض بذلك لكنهم لا يعلمون الأضرار مستقبلاً، لذلك أوجه دعوة عامة لكل المواطنين عبر (المجهر) بأن يتحملوا مشقة الذهاب إلى الطبيب، وإن كانت الإصابة مجرد (نزلة)، وأنصح الجميع بالمتابعة مع الطبيب وإن لم تكن هنالك أعراض مرضية، وذلك من باب الكشف العام على الصحة والاطمئنان عليها، ومناقشة الطبيب في العديد من القضايا الصحية، وبذلك يحمي الإنسان نفسه من الوقوع في فخ الجهل).
{ احتجاج وشكوى!!
كانت تلك الإفادت التي اخترناها من أحاديث المواطنين الذين استطلعتهم (المجهر).. لنعرّج بعدهم إلى الأطباء.. ويقول في هذا الشأن د. «محمد أحمد حسن»: (رأيت بأم عيني مريضاً مصاباً بـ (نزلة) يستخدم دواء (أستربتومايين)، وهو ضمن البرتوكول المعالج للسل الرئوي، ويوجد في شكل حقن فقط.. وقد أصابتني هذه الحالة بصدمة كبيرة)!!
ويعتزم د. «محمد» أن يتقدم بشكوى إلى وزارة الصحة، ويقول: كلما نجري عملية (تزريع) لـ (عينة)، تطلع مقاومة للمضادات الحيوية من الجيل الثالث، وهي من أقوى المضادات الحيوية، ولا يتم اللجوء إليها إلا عند التأكد، لحساسيتها، ولا يوجد جيل من المضادات الحيوية بعدها.. ومثال عليها (المورينيوم).. وكل هذه الأجيال من المضادات الحيوية مهددة بالفشل والانقراض بسبب قوة البكتريا المتزايدة).
ويؤكد محدثنا على أهمية الرقابة والتوعية، ويقول: (أرغب في الانضمام إلى حملة إنقاذ المضادات الحيوية التي أطلقها بعض الزملاء الصيادلة في (الفيسبوك).
{ دمار الرئة!!
ولتبيان مضار التعاطي العشوائي للأدولية بصورة أوسع – خاصة المضادات الحيوية – التقت (المجهر) بالصيدلانية «شيرين» التي تحدثت بشيء من التشاؤم قائلة: (المضادات الحيوية للأسف ليست ذات مفعول في السودان!! والسبب في ذلك أن الاستخدام أكثر من سلبي، والعديد من الوفيات بالمستشفيات تحدث بسبب ضمور الرئة التي يصير لونها أسود بالكامل.. والحكاية أن المريض كان بداية يعاني من (أنفلونزا)عادية (قديمة)، لكن جاءت أجيال جديدة من (البكتريا)، أشد فعالية، سكنت هذه الرئة المريضة، وأصبحت تنهش فيها دون أن تسبب ألماً للمريض، ومع تناول المضادات الحيوية تختفي أعراض المرض.. لكنه يظل موجودا)..!
{ رسالة إلى الصيادلة
سقنا إلى الصيدلانية «شيرين» اتهاماً بأن بعض زملائها شركاء في (التعاطي العشوائي) فقالت: يجب على الصيادلة جميعاً، أن يكفوا عن صرف المضادات الحيوية – وغيرها – قبل التأكد من ماهية المرض، وأن لا يصرف الدواءً للمريض قبل تسلمه للروشتة، والصيدلي بدوره لا بد أن يقوم بتوعية المريض بماهية المرض ومخاطر استخدام الأدوية عشوائياً، ولا يكتفي بالصمت.. كما يتطلب هذا الأمر وجود ثقافة صحية عالية لدى المواطن، لأن بعض الأدوية مثل (الفلاجيل) له أضراره المستقبلية على المريض، حيث نلاحظ ازدياد نسبة الفشل الكلوي في السودان، والسبب هو استخدام مثل هذه الأدوية دون وعي، وأنا شخصياً – كصيدلانية – لم يسبق لي أن قمت بالمشاركة في مثل هذا السلوك العشوائي طوال ممارستي لهذه المهنة، ودائماً أنصح المريض بضرورة الكشف الطبي أولاً قبل حصوله على أي علاج، وهي رسالة أوجهها عبر (المجهر) إلى جميع الصيادلة أن ينتهجوا هذا السلوك تماشياً مع أخلاق المهنة).
{ ماهية المضادات الحيوية
وللتبحر أكثر في ما يخص المضادات الحيوية، بوصفها أكثر العقاقير استخداماً عشوائياً، التقت (المجهر) عدداً من أكاديميي الصحة، فقالوا (إن المضادات عبارة عن مادة أو مركب يقتل أو يمنع نمو البكتريا، وتنتمي المضادات الحيوية إلى مجموعة أوسع من المضادات المضادة للمكروبات، وتستخدم لعلاج الالتهابات التي تسببها الكائنات الحية الدقيقة، بما في ذلك الفطريات والطفيليات، ومع التقدم في الكيمياء الطبية، فإن معظم المضادات الحيوية هي الآن شبه صناعية أو معدلة كيميائياً من مركبات أصلية موجودة في الطبيعة، مثل (بيتا لاكتام)، التي تشمل (البنسلين)، وبعض المضادات الحيوية ما تزال تنتج معزولة عن الكائنات الحية مثل (أمينوغليكوزيد). وأضافوا: (أما مقاومة المضادات الحيوية، فهي قدرة الكائن الحي الدقيق على تحمل مفعول المضاد الحيوي، وهو نوع خاص من أنواع مقاومة الأدوية، وتنشأ مقاومة المضادات الحيوية عن طريق الإطفاء الطبيعي بواسطة الطفرات العشوائية، غير أنه بالإمكان هندستها بتطبيق ضغط نشوئي على مجموعة الكائنات الحية الدقيقة عندما يتم تكون الجين الجديد، حيث تستطيع البكتريا تحويل المعلومات بطريقة أفقية بواسطة تبادل (البلازميد)، إذا كانت البكتريا تحمل عدة جينات مقاومة، فتتم تسميتها بكتريا متعددة المقاومة أو بلغة أخرى البكتريا المتفوقة).
{ صرخة في أذن المسؤولين
وضح من التحقيق أن منع التعاطي العشوائي للأدوية يتم في ثلاثة محاور.. الأول توعوي، تقوم به الدولة ووسائل الإعلام.. وها نحن في (المجهر) نرمي بسهمنا وننتظر الآخرين.. والثاني أن يمتنع الصيادلة عن صرف الأدوية بدون وصفة طبية.. ونأمل أن يلتزموا بذلك.. وهو ما يتطلب تفعيل المحور الثالث: (الرقابة).. وهذه صيحة في آذان المسؤولين لتفعيلها وتقويتها.. فهل من مستجيب.. أم أن آذاننا في (مالط)..؟!!