"غازي صلاح الدين".. الاصلاحي المتردد!
قبيل انعقاد مؤتمر الحركة الإسلامية بأيام قلائل، دخل “غازي صلاح الدين” إلى القاعة الصغيرة وهو يمشي واثقاً إلى منصة أعدها له عدد من الشباب الإسلاميين المتحمسين، والذين يرون فيه رجل المرحلة المقبلة وخير من يخلف عراب الإسلاميين الدكتور “الترابي” من حيث التفكير والتنظير، وإجراء إصلاحات جوهرية داخل منظومة الحركة الاسلامية. جلس “غازي” إلى الكرسي، وهو يرتدي جلابية بيضاء تلفها ملفحة بلون يميل إلى الأصفر، وطفق ينظر إلى الحضور المتأهب من خلف نظاراته الطبية الأنيقة، كان الجميع وبلا استثناء ينتظر خطبة عصامية من “صلاح الدين”، يعطي فيها جرعة معنوية للشباب الذين ينتظرونه بفارق صبر كبير، غير أنه فاجأهم بعبارات باردة لا تتناسب والأجواء الحماسية التي تكتنف القاعة، ومع استمراره في الحديث بذات الكيفية الباردة وهو يورد عبارات عن ضرورة توحد الحركة الإسلامية وعودتها إلى مرجعيتها الفكرية، ودون أن يشير حتى إلى أية عبارات ذات مدلولات إصلاحية أو ثورية، حينها أيقن عدد من الشباب، ومنهم من وقع على مذكرة “الألف أخ” الشهيرة أن رجلهم له رأي آخر وأنه ليس “غازي صلاح الدين” الذي يعرفونه أو يتمنونه. وفعلاً، لم يظهر الإصلاحي المنتظر في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر الحركة الإسلامية ليقول إنني موجود، بل اكتفى بالوصول متأخراً إلى مقر المؤتمر، واكتفى بالجلوس في المقاعد الخلفية، وعندما اشتدت المنافسة على مقعد الأمين العام للحركة الإسلامية بعد أن تأكد للجميع أن النائب الأول لرئيس الجمهورية “علي عثمان محمد طه” لن يترشح مرة أخرى، أعلن “صلاح الدين” عن عدم رغبته في الترشيح للمنصب، وبالرغم من أنه برر عدم الترشيح بأن منصب الأمين العام أصبح ديكورياً ولن يفيد في أية مبادرات إصلاحية، إلا أن أحد الأسباب غير المعلنة هو تردده وعدم رغبته في خوض معركة مع جهات متنفذة لا تريده أن يأتي في المنصب ويصبح خميرة عكننة جديدة تؤسس (لمذكرة عشرة) أخرى حسبما يرى رئيس (منبر السلام العادل)، واحد أكبر مؤيديه “الطيب مصطفى”، بل أن الكاتب الإسلامي “عبد الوهاب الأفندي” يعتقد أن تردد “غازي صلاح الدين” أفقد الإصلاحيين فرصة ذهبية لتمرير أجندتهم داخل المؤتمر، وتابع ( لقد خسروا الرهان بسبب مواقفه المترددة).
والتردد في المحطات الكبرى والقرارات الجوهرية هي واحدة من الصفات التي منعت “بن العتباني” من عدم الجلوس في مقاعد كانت مخصصة ومفصلة على مقاسه كما يقول مقربون منه، ومع ذلك لم يكن “صلاح الدين العتبانى” أو أي من أقربائه يتوقع أن يصل ابنهم “غازي” إلى هذه المكانة السياسية المرموقة التي يحتلها الآن، ذلك لأنه عاش طفولة عادية مثله مثل سائر أبناء العائلة الممتدة، ولم يمارس العمل السياسي إلا عند دخوله جامعة الخرطوم، كما ذهبت إلى ذلك شقيقته “هويدا العتباني” التي تضيف بالقول: (لم يكن يتميز بشيء سوى أنه متفوق أكاديمياً وجاداً في حياته، وكان يكتب مواضيع مختلفة عن بقية زملائه في المدرسة الابتدائية، وماعدا ذلك، فإن حياته كانت عادية مثل سائر أبناء العائلة).
فالذكاء والجدية إذاً، هما من أوصلا “غازي صلاح الدين العتبانى” إلى منصبه الحالي كمستشار لرئيس الجمهورية، وبقية مناصبه مثل رئيس كتلة حزب (المؤتمر الوطني) في البرلمان، ومسؤول ملف دارفور وغيرها من المناصب التي تقلدها في حياته السياسية والمهنية. ولم يعرف عن “غازي” المنحدر من عائلة “العتبانى” الشهيرة، والمولود في العام 1952م بحي أبو روف بأم درمان، ممارسة العمل السياسي أو التنظيم خلال مراحله الدراسية التي بدأها بـ(المناقل)، حيث كان يعمل والده موظفاً في مشروع الجزيرة، وتنقل إلى الهلالية حيث درس المرحلة الوسطى، قبل أن تنتقل أسرته إلى (الخرطوم) ويلتحق بمدرسة الخرطوم القديمة الثانوية. وقال زميل له عاصره في الخرطوم القديمة: (إن “غازي” لم يكن معروفاً حتى لبقية زملائه في الفصل). وأضاف بعد أن طلب مني ألا أذكر اسمه صراحة بدعوى الوقوع في الحرج (إنني شخصياً لم أكن أتوقع أن يصل “غازي” إلى هذه المكانة السياسية المرموقة، كانت هنالك شخصيات معروفة في المدرسة تمارس النشاط السياسي وكنا نرشحها للقيادة، ولكننا لم نكن نرشح “غازي” لأنه وببساطة وبعد نهاية اليوم الدراسي يذهب إلى منزلهم بكل هدوء، وكنا نصنفه من (أولاد الراحات) بل إنه كان يخشى الحديث في السياسة).
عندما انتقل إلى (جامعة الخرطوم) بكلية الطب متفوقاً، كان مهتماً بالعمل الأكاديمي بدرجة كبيرة حتى أنه أحرز درجة كبيرة مكنته من العمل كأستاذ بالجامعة، غير أنه لم يمارس مهنة الطب كعادة أقرانه من الأطباء الإسلاميين. ويقول صديقه وأحد المقربين إليه أيام الجامعة الدكتور “عوض حاج علي” مدير جامعة النيلين السابق (أنه كان ودوداً شديد الذكاء)، وله أصدقاء مقربون من النوابغ أمثال “دفع الله التوم” و”بكري عثمان”، ويؤكد “حاج علي” أن العتباني لم يكن يمارس نشاطاً سياسياً ملحوظاً خلال أيام الجامعة، ولم يكن يظهر في الفعاليات السياسية الطلابية، مضيفاً (كانت ومازالت له كاريزما تجذب الناس إليه، وكان يتفانى في خدمة الناس بنفسه).
بدأت بصماته التنظيمية في الظهور عندما تولى رئاسة اتحاد الطلاب السودانيين بالمملكة المتحدة وايرلندا – التي كانت واجهة الإسلاميين عام 1983م، وقبلها رئاسة اتحاد الجمعيات الطبية الإسلامية، حيث قاد هذين التنظيمين بدقة متناهية، وظهرت مقدراته في إدارة الخلافات التي كانت تنشأ بشكل مستمر، لكن نجمه السياسي برز بشكل واضح عندما كان مسؤولاً عن حماية (دار الهاتف) مع مجموعة من تنظيم الجبهة الوطنية الذي أطلق عليهم صفة (المرتزقة) الذين قادوا عملاً عسكرياً جريئاً ضد نظام الرئيس الأسبق جعفر نميري في العام 1976م. وبعد نجاحاته التي حققها، صعد نجمه بصورة سريعة داخل تنظيم الإسلاميين، وتولى عدداً من المناصب التنفيذية والتنظيمية منذ أن تولى الإسلاميون حكم البلاد بواسطة انقلاب عسكري في العام 1989م، فتقلد منصب وزير الدولة للشؤون الخارجية (1991 -1995م) وأمين عام حزب المؤتمر الوطني (1996 – 1998م) بعد منافسة شرسة وشهيرة مع “الشفيع أحمد محمد”، أحد قادة الحركة الإسلامية من دارفور حول هذا المنصب الرفيع. كما لعب دوراً بارزاً ومفصلياً في ما عرف إعلامياً بـ(مذكرة العشرة) والتي أطاحت بزعيم الإسلاميين الدكتور “حسن الترابي”، وكانت مقدمة واضحة للمفاصلة الشهيرة بين الإسلاميين، ويقول “الطيب مصطفى” (لعب “غازي صلاح الدين” دوراً كبيراً في (مذكرة العشرة)، وأنا سمعت بالمذكرة عندما كنت خارج البلاد، وقيل لي أن من هندسها هو “غازي صلاح الدين”، وعندما التقيت به عندما كنت أحاول منع وقوع انقسام الإسلاميين، رفض أية فكرة للتراجع، فعرفت أن أمر المذكرة واقع مادام “غازي” يقف خلفها).
أما أخطر المناصب التي تقلدها، فهي منصب مستشار السلام، والمناط به إدارة الحوار والتفاوض مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في قمة العداء الشديد بين فكرتي (المشروع الحضاري) الذي يطرحه الإسلاميون (والسودان الجديد) الذي تطرحه الحركة الشعبية، وكان هذا محكاً سياسياً حقيقياً له عندما كان على رأس الوفد الحكومي المفاوض، وحينما تعرض لضغوط من الإدارة الأمريكية التي وراء كل شيء في المفاوضات لتقديم تنازلات حتى تسير إلى الأمام، وبسبب عناده المعروف عنه لم يقم بتقديم التنازلات، باعتبارها مرتبطة بهوية الأمة والمشروع الحضاري، فتقدم باستقالته للرئيس “عمر البشير”، فرفضها الأخير في بادئ الأمر، وعندما توافق المجتمع الدولي على شخصية “علي عثمان طه” ليتولى الملف قبل الرئيس استقالة “العتباني”. وتفسر “هويدا” مسلك “غازي” بقولها: (غازي رجل مبادئ لا يحب التنازل عن مبادئه بسهولة خاصة تلك التي تتعلق بالأمور الدينية، عندما أحس بالضغوط الكثيرة عليه من قبل الجميع قرر التنحي). غير أن القيادي بـ(حزب المؤتمر الشعبي)، وأحد المفاوضين الأولين في حكم الإنقاذ “محمد الأمين خليفة” يقول: (إن شخصية العتباني جزء من مشكلته، فهو عنيد وصعب المراس، وهذه الصفة غير جيدة بالنسبة للمفاوض الناجح الذي يجب أن يكون مرناً، بل “غازي” يكون ضيق الصدر أحياناً). وفي خضم الفرحة الطاغية التي أصابت الناس بعد توقيع اتفاقية السلام في مطلع العام 2005م، كان “غازي” من أوائل السياسيين الذين حذروا من مغبة إهمال ما يحدث في دارفور التي كانت أزمتها في بداياتها، وكتب سلسلة من المقالات الرصينة والمطولة في عدد من الصحف، بل إن مقربين منه أكدوا أنه أوصل هواجسه تلك إلى الرئيس “عمر البشير” الذي يكن له مكانة خاصة، ولربما من سخرية القدر أن “العتباني” نفسه استلم ملف دارفور بعد أربع سنوات من هواجسه تلك عندما طلب من “البشير” أن يسعى لحل الأزمة مع منحه صلاحيات واسعة، ومع أنه حقق بعض النجاحات في الملف، إلا أنه لم يصل إلى النهايات المطلوبة، فتنحى عن الملف بمحض إرادته. ويقول “علي الحاج” أحد قيادات المؤتمر الشعبي، وأحد المفاوضين الأوائل مع الحركة الشعبية ( إن “غازي” لم يحقق نجاحاً مطلوباً، وإن نظرة العديد من أبناء دارفور له جعلته يفكر في التراجع).
وللعتباني مؤيدون كثر من شباب وشيوخ الإسلاميين، يرون فيه أفضل خليفة محتمل لـ(الترابي) لما يتمتع به من شخصية مستقلة، وإطلاعه العلمي الواسع، وإجادته لعدد من اللغات الأجنبية، بل أن “الترابي” نفسه وضعه خلال حوار نُشر في (المجهر) كأفضل خليفة له من حيث التفكير والتنظير. وكقلة من السياسيين له حساب في موقعي التواصل الاجتماعي (فيس بوك وتويتر)، يتداخل معه عدد لا يستهان به من الإسلاميين والمنظرين من العلمانيين من داخل وخارج البلاد. متزوج “سامية يوسف إدريس هباني”، أنجب منها عدداً من الأبناء وهم “محمد وصلاح وخالد ويوسف وسارة وهاجر ومريم”. ومع كل هذه الهالة التي تحيط به، لا تبدو علاقته جيدة مع الصحافيين خاصة في الداخل، ذلك لأنه ظل يرفض كل الدعوات المقدمة له لإجراء حوارات معه، ليتحدث في القضايا التي تهم الرأي العام والذي كان جزءاً منها خاصة في الفترة التي كان المسؤول فيها عن ملف السلام مع جنوب السودان، لأنها من الملفات التي ظلت مظلمة في كثير من جوانبها، في كل مرة يعتذر فيها عن الحوار الصحفي في هذه القضايا، يقول إنه حينما يأتي الوقت المناسب سيتحدث عنها، غير أن معظم الصحافيين يعرفون جيداً أن “عتباني” يخشى أن تجر عليه هذه الحوارات متاعب أخرى غير التي يواجهها حالياً سواء أكانت علنية أو سرية.