الحكم الاتحادي بين مأزق انتخابات الولاة وتقليص المحليات؟؟
هل يتعافى السودان بعد نجاح تسويات جوبا و"بانقي"؟؟
حديث السبت – يوسف عبد المنان
كيف توغل الدب الروسي في أفريقيا الوسطى ولماذا؟؟
هل تذكرون مؤتمر تقويم تجربة الحكم اللامركزي في السودان، الذي أقامت الحكومة من أجله الدنيا وشغلت الناس بأوراق علمية من أهل الخبرة والاختصاص وورش العمل وحلقات المدارسة التي أقامها البرلمان والندوات.. وإنفاق الأموال الضخمة من أجل نجاح المؤتمر الذي كان منتظراً أن يخرج بتوصيات (ملزمة) وليست (معلمة) لعلاج أمراض الحكم اللامركزي التي أعيت طبيب النساء والتوليد د.”علي الحاج” عراب النظام ومهندسه.. وجاء مؤتمر الحوار الوطني الأخير.. وصدرت توصيات بشأن الحكم اللا مركزي واجبة التنفيذ من قبل حكومة الوفاق الوطني، التي ولدت من أجل تنفيذ توصيات الحوار، ولا يتذكر كثير من الناس توصيات مؤتمر تقويم الحكم اللا مركزي التي دعت لإعادة النظر في هيكلة الحكم اللا مركزي بإصلاحات أساسية منها خفض عدد المحليات التي تناسلت في بعض الولايات وبلغت في ولاية جنوب دارفور وحدها (17) محلية أغلبها وُلد استجابة لضغوط قبلية وجهوية ولاستيعاب مزيد من الفاقد الدستوري والتنفيذي.. ونصت التوصيات على مراجعة حدود الولايات.. وانتخاب الولاة مباشرة من الشعب وإلغاء التعيينات المركزية.. وإنشاء مجالس للمحليات والاهتمام بالتنمية القاعدية.. وتنزيل السلطات من المركز الجديد أي عواصم الولايات إلى المحليات.. وجاءت توصيات الحوار الوطني لتضيف جديداً بانتخاب المعتمدين أو المحافظين مباشرة.. وانتخاب مجالس تشريعية للمحليات!! وتلك قضايا لها أبعادها السياسية التي تقتضي سلاسة تنفيذها.. والوفاء بها حواراً سياسياً بين القوى السياسية التي تشكل حكومة الوفاق الوطني.. بيد أن إصلاح هياكل الحكم اللا مركزي ضرورة ملحة تنتظر من الوزير “حامد ممتاز” الذي أنجز في الفترة القصيرة لتوليه قطاع الاتصال التنظيمي في المؤتمر الوطني ترشيح الرئيس “البشير” بيسر، وخرجت اجتماعات الشورى الأخيرة بإجماع كبير بفضل حُسن تدبير قيادة المؤتمر الوطني متمثلة في الثنائي د.”فيصل” و”ممتاز” ولكن أمام الوزير الآن الإقدام على اتخاذ قرارات عاجلة بتقليص عدد المحليات قبل تكوين مجالس المحليات في بعض الولايات حتى لا تتسع قاعدة الرافضين للإصلاح من أعضاء وقيادات المجالس التشريعية المحلية، التي تعتقد في حال تعيينها وممارسة نشاطها في الرقابة والتشريح أي تقليص للمحليات بمثابة انتقاص من دورها ومصالحها.. وفي سابق أيام الحكم الاتحادي كان قيام المحليات خاضعاً لمعايير عديدة أولها عدد السكان والمساحة الجغرافية والبعد عن المركز، أي عاصمة الولاية.. والموارد الاقتصادية إلا أن تلك المعايير انتفت ونهضت المحليات لأسباب سياسية وتوازنات قبلية وعشائرية حتى بلغ عدد المحليات بولاية جنوب دارفور (17) محلية.. وتآكلت بسبب هذا التوسع في الحكم موارد الولاية التي كانت في سنوات حاكمها د.”بابكر جابر كبلو” ولاية معتمدة على نفسها لا تتلقى دعماً شهرياً من المركز كما هو حالها اليوم ، وتبدى العجز السياسي والفشل في ما حدث بمحلية قريضة التي يبلغ عدد سكانها نحو (400) ألف نسمة، ولكن إحدى القرى التي تبعد عن عاصمة المحلية (3) كلم فقط تمردت على الوالي “كاشا” وقبله “حماد إسماعيل” فاستتبعت تلك القرية في عهد “كاشا” لرئاسة الولاية لأسباب قبلية وعرقية!! فكيف يستقيم عود النظام اللا مركزي في مثل هذه الفوضى، وولاية مثل الخرطوم لا يتعدى عدد محلياتها أصابع اليدين، الخرطوم وبحري وشرق النيل وجبل أولياء وأم درمان وكرري وأم بدة سبع محليات لولاية يتجاوز عدد سكانها الثمانية ملايين نسمة.. بينما الولاية الشمالية عدد سكانها أقل من سبعمائة ألف نسمة، وعدد محلياتها ثماني محليات.. وولاية مثل جنوب كردفان عدد سكانها مليون ومائتي ألف نسمة.. بها محليات لا يمكن الوصول إليها.. هي محليات هيبان وأم دورين والبرام التي تسيطر عليها الحركة الشعبية بكاملها.. ورغم ذلك يتم تعيين معتمدين ومديرين تنفيذيين وموظفين بلا أعباء ورواتب ونثريات وبدل مأمورية للسيد المعتمد الذي يقيم في الخرطوم أو كادقلي وتنفق عليه الدولة دون أداء أي عمل.. وفي شمال كردفان تمتد محلية واحدة من أم بدة حتى مشارف بارا لمسافة ثلاثمائة كيلو متر وهي محلية جبرة الشيخ التي تزيد مساحتها عن ولاية سنار بأكثر من خمسين كيلو متر.. ورغم هذه المساحة الشاسعة لا يتعدى عدد السكان الـ(40) ألف نسمة، بينما قطعان الثروة الحيوانية من الإبل يتجاوز عددها المليون رأس وكذلك الضأن والماعز، وهؤلاء الرعاة بدون خدمات صحية ولا تعليمية.. وفي سنوات شهر العسل بين الحكومة والشيخ “موسى هلال” تم إقرار قيام محلية الواحة ، لا وجود لرئاسة لها على أرض الواقع.. ولا مقر لمعتمدها.. ولكنها محلية للرحل الذي يتنقلون بين الشمال والجنوب تبعاً لمواسم الجفاف والأمطار.. وحينما يتوغل الرعاة جنوباً حتى جبل مرة.. ونيالا.. والملم ودربات يحتفظون بحقهم في دفع العشور والضرائب لمحلية الواحة التي تنتقل افتراضياً مع الرعاة حيثما كانوا.. وهل بمثل هذا المنهج المختل في الإدارة ومعايير قيام المحليات ينهض نظام حكم مركزي حقيقي؟؟ أم يظل حبالاً بلا بقر أو كما قال الشيخ “إبراهيم السنوسي” يوماً وهو يخاطب مواطني (سفروق عشق) وهي منطقة يقطنها (البجة)، نعم البجة من شرق السودان جاءت بهم المهدية.. قبل سقوطها وبعده.. وانصهر البجة في كردفان وأصبحت لهم قرى يتبعون إدارياً في شمال كردفان لنظارة البديرية التي رئاستها في أبو حراز ، وبغرب كردفان يتبعون إلى نظارة المسيرية الزرق.. وعجائب وغرائب الحكم اللا مركزي الحالية جعلت من منطقة ود الكربل التي تبعد (15) كلم من جبل أولياء تتبع لرئاسة النيل الأبيض في ربك على بعد (30) كلم، فهل يستطيع “حامد ممتاز” اتخاذ قرارات ممتازة بإعادة هيكلة الحكم اللا مركزي وإصلاحه بعد أن أفسده التدخل السياسي والموازنات القبلية؟؟
{ بعد نجاح جوبا اختراق في بانقي؟؟
تمددت نجاحات السودان أفريقياً بعد الاختراق التي تحقق في ملف جنوب السودان وطي صفحة نزاع دامٍ بين الفرقاء الجنوبيين، وقعت في الخرطوم اتفاقية بين فرقاء دولة أفريقيا الوسطى التي شكلت في السنوات الأخيرة حضوراً في مسرح الصراع بين الفرانكفونيين والروس الذين أخذوا يعودون إلى المسرح الدولي في عهد الرئيس “بوتن” بعد أن غيبتهم سنوات المحنة الداخلية والأزمة الاقتصادية التي ضربت روسيا بعد تبعثر قوتها وضعفها ووهنها.. وتوقيع اتفاق أفريقيا الوسطى كثمرة لجهود بذلتها دبلوماسية الذراع الأمني والعسكري في الدولة ممثلاً في القيادة العامة للجيش وجهاز الأمن والمخابرات، وإذا كان الفريق “صلاح قوش” هو مهندس مفاوضات الجنوب.. فإن الفريق “جمال عمر” مدير إدارة الاستخبارات هو مهندس مفاوضات أفريقيا الوسطى التي أثمرت عن اتفاق الفرقاء.. وبذلك بدأ السودان يعود إلى الساحة الإقليمية والدولة أكثر فاعلية وقدرة على إطفاء بؤر النزاعات والحرب على الإرهاب والتطرف.. ومكافحة ومناهضة تجارة البشر والهجرة غير الشرعية باعتباره دولة عبور لمجموعات تتدفق على ليبيا التي تسكنها الفوضى والاضطرابات ومنها يتوجه المهاجرون إلى إيطاليا وينتشرون في أوروبا.. وحرك الاتفاق الذي وقع في الخرطوم الأسبوع الماضي ملفات عديدة في دولة أفريقيا الوسطى المنسية من قبل أوروبا.. رغم أهميتها ودورها الهام في وسط أفريقيا مما دفع دولة روسيا الاتجاه نحو بانقي بحثاً عن الماس والأحجار الكريمة.. والتدخل الروسي في أفريقيا الوسطى دفع الباحث والدكتور “الفاتح الحسن المهدي” لإعداد ورقة علمية رصينة دفع بها للجهات العليا في الدولة ومتخذي القرار في الحكومة.. ود.”الفاتح حسن المهدي” بعيداً عن موقعه الوظيفي في القصر الرئاسي كمدير لمكتب النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” هو أستاذ جامعي وقارئ ومثقف وكاتب عميق الرؤيا.. الورقة التي دفع بها إلى أعلى نقتطف منها جزئيات قد تساهم في رسم المشهد بالمنطقة، ويقول الدكتور “الفاتح”:
{ غاب مشهد مقتل ثلاثة من الصحفيين الروس في أفريقيا الوسطى من دائرة الضوء سريعاً وتلاشت أحداثه وانطوت دون الانتباه إلى تدخل الدب الروسي في تحولاته الانفتاحية الجديدة تجاه القارة الأفريقية، والتي انطوت صفحات وجوده فيها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بشكله القديم وانحسار المد الشيوعي بشعاراته المدوية في سوح البلدان الأفريقية بعد نيلها استقلالها وخروج المستعمر منها ولم يتبق من اليسار الأفريقي إلا رموزه الاشتراكية وبقايا نظم حكم مازجت ما بين تجربتها الاشتراكية وتحول رأسمالي حذر في مجتمع لا يزال يعاني من أثار الاستعمار القديم.
{ اختارت روسيا، الدولة الأفقر في العالم، حسب تصنيف البنك الدولي، مسرحاً لتواجدها ، وهو تحول يعكس رغبة قياصرة الكرملين في الدخول إلى الساحة الأفريقية عبر بوابة أفريقيا الوسطى، والتي لم تتعافَ من التمزق الداخلي، وعناصر انهيار الدولة فيها بعد موجات العنف التي اجتاحتها منذ العام 2013م، ونزوح ربع سكانها.
{ طرحت روسيا نفوذها بقوة عندما سمحت الأمم المتحدة لها بإرسال أسلحة ومدربين عسكريين إلى بانقي، رغم وجود حظر الأسلحة على حكومتها بعد أحداث العنف العرقي التي اجتاحت الدولة الأفريقية المشهورة بالماس واليورانيوم والذهب، لعدد لا يتجاوز (5) ملايين و(277) ألف نسمة، حيث تشكل قبائل البايا نسبة (33%) منهم و(27%) لقبائل الباندا و(13%) لقبائل الماندجيا و(10%) لقبائل السارا و(4%) لقبائل المياكا و(4%) لقبائل الياكوما و(7%) لقبائل الميوم و(4%) لمجموعات عرقية مختلطة. ويشكل المسيحيون البروتستانت نسبة (35%) والمسيحيون الكاثوليك نسبة (25%) والمسلمون (15%) ومتبقي (35%) الأخرى يمثلون معتقدات قبلية أخرى، وشهدت الجارة الغربية للسودان نشوء تطهير عرقي وحرباً شرسة قادتها جماعة (أنتى بلاكا) المسيحية الأصولية المسلحة، أو ما يعرف (مناهضو السواطير) بلغة السانقو، ونشأت حركة (السيليكا) التي شكل المسلمون أغلب قاعدتها، لتدور حرب شرسة في الجارة القريبة للسودان التي تناقصت حدودها معه إلى (380) كلم، وذهاب (1070) كلم إلى الدولة الوليدة التي عانت هي الأخرى من شبح الانهيار والعدوى بالتمزق الداخلي.
{ بدأ التدخل الروسي في أفريقيا الوسطى بدخول شركة (فاغنر) العسكرية الخاصة، والتي تعد من أكبر الشركات الروسية والتي ترتبط بعلاقة خاصة مع رجل الأعمال الروسي “يفقيني بريقوزين” من سان بطرسبرج المقرب من “فلاديمير بوتين” أحد الذين وردت أسماؤهم في لائحة اتهام أمريكية والمتمثلة في شركته، بالتدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية.
{ أشارت مؤسسة (أفريكا انتجلنيس) وهي مؤسسة مقرها باريس، إلا أن أفريقيا الوسطى بدأت باستخراج الماس في مواقع لا تبعد كثيراً عن العاصمة بانقي، بمعاونة شركات روسية تتخذ من سان بطرسبرج مقراً لها، ودخل المدربون الروس والشركة الروسية في حث الرئيس “لتواديرا” على التفاوض مع مجموعات معارضة ومتنوعة، تعتبر حركة التمرد (سيليكا) أبرزها.
{ اشتهرت أفريقيا الوسطى باستخراج الماس، فقد تصدرت المركز السابع عالمياً في الستينات، مما أعطاها ميزة الماس الطبيعي خلافاً للماس الصناعي الذي تشتهر به جارتها الكونغو الديمقراطية، ولا يزال يستخرج بكميات ويهرب إلى الخارج برغم وجود حظر جزئي لتصديره.
{ بانطواء صفحة مقتل الصحافيين الروس تطوى صفحة الرواية التي لم يرويها هؤلاء الذين كانوا في طريقهم لاستكشاف الحقائق حول الماس، والذهب الملطخ بالدماء الأفريقية.
{ روسيا نفت مسؤولياتها عن مقتل الصحافيين، وبذلك يبدأ فصل جديد بعد فشل مشروع النفط الصيني في أفريقيا الوسطى، وإسقاطها ديوناً كانت تثقل كاهل الدولة المنهارة بالمليارات ليتوقف مشروع التنقيب هنالك، ويدخل الدب الروسي إلى أدغال أفريقيا، مما جعل القلق يساور مستعمراتها السابقة فرنسا، وكذلك بريطانيا والولايات المتحدة، ويبدو أن الدور الروسي تجاوز إلى دور داخلي لبناء المشافي والمساعدة في تطوير القدرات ويطرح نفسه بقوة في مختلف نواحي القارة الأفريقية بعد الخطوات الإيجابية مع السودان وزيارات الرئيس إلى روسيا والتعاون بين البلدين.
{ الشركات الأمنية التي قدمت إلى أفريقيا الوسطى من روسيا هي امتداد لنمط جديد من تفويض المهام، التي تقوم به الحكومات، حيث تقوم به بالوكالة، وتشمل التدريب، والعمل الاستخباري، واللوجستي، ويمتد للعمل الأمني والقتالي في مناطق النزاعات وترتبط بعلاقات وثيقة في دولها، وهي ضالعة في تجارة عالمية تبلغ عائداتها مليارات الدولارات.
{ من الأفضل للسودان تقوية التعاون بينه وأفريقيا الوسطى، والتنسيق مع الجانب الروسي لخطوات أكثر تفاعلاً لخلق التوازن ودعم الوجود الروسي في الجارة الغربية، والذي سيكون أكثر فائدة للسودان في ظل التقارب الكبير بين البلدين، وقد أثمر هذا التعاون الآن الاتفاق الذي وقع أخيراً.. وينتظر تبعاً لذلك أن تصمت أصوات البنادق في دولتين أفريقيتين بفضل جهود السودان الدبلوماسية والسياسية ، وثمرة التدخل الروسي في أفريقيا الوسطى لصالح توازن القوى في المنطقة وبدول الوسط الأفريقي، التي ظلت لسنوات طويلة منطقة نفوذ فرنسي لم تحصد منه الشعوب الأفريقية سوى الاستتباع الثقافي ونهب الموارد.. وفرض أنظمة حكم مرتبطة بالفرنسيين لا تقيم وزناً لحكم الشعب، ودعم فرنسا للأنظمة العسكرية والدكتاتوريات في القارة الأفريقية يعبر عن مأزق الحضارة الأفريقية.. وإذا كان الوجود الروسي في أفريقيا الوسطى قد أثمر عن توازن في المنطقة، فالروس قادمون نحو القرن الأفريقي أيضاً في السنوات القادمة؟
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا يجد السودان كل هذا القبول من القادة الأفارقة، ولا يجد مجرد التقدير من الدول العربية مهما قدم دماء فلذات كبده دفاعاً عن الأمن العربي في اليمن؟؟