هل حسم "علي عثمان" جدل مشروعية الحركة الإسلامية؟! : غاب السلفيون ودول الخليج و"الصادق" و"الميرغني"!!
ألقت الأحداث السياسية العاصفة في المنطقة العربية، الموصوفة بالربيع العربي، بظلالها على مؤتمر الحركة الإسلامية الذي ينتظر إنهاء أعماله اليوم، لينعقد مجلس الشورى المنتخب ويختار الأمين العام كآخر حلقات المؤتمر. وقد شكلت الثورات الشعبية في تونس ومصر وليبيا قاسماً مشتركاً في مخرجات الخطاب الإسلامي لقادة الإسلام الحركي، الذي اجتمع شمله في الخرطوم، بينما شكل الإسلام السلفي غياباً منها، حيث كانت إسلام أباد وكابول وحيدر أباد أقرب للخرطوم من المنامة ومكة ودبي، وكأن الشاعر والمفكر الإسلامي “محمد إقبال” يرتعد صوته من تحت التراب وينشد أبيات:
أنا أعجمي الدّن لكن خمرتي
صنع الحجاز وكرمها الفينان
إن كان لي نغم الهنود ولحنهم
لكنّ هذا الصوت من عدنان
مثلما أضاءت أفكار “محمد إقبال” الشرق والغرب والجنوب، قرأ بالأمس الشيخ “سيد منور حسن” أمير الجماعة الإسلامية في باكستان الآيات القرآنية بلسان أعجمي أثار إعجاب الناس، وأعاد للسودانيين ذكريات أمس قريب، حينما كان الشيخ الراحل “سليمان مصطفى أبكر” يتلو الآيات القرآنية بلسان أعجمي غسله القرآن بطهره ونقاوته، وكان الزمان غير هذا الزمان، و”التجاني سراج” يتم وصفه بالرجل الذي (يكتحل) بالبارود ويستاك بالرصاص.. وأمير الجماعة الإسلامية في باكستان يقول: الإسلام قادم مهما بلغت التضحيات وتعاظمت الأثمان، والإسلام الذي ارتقى بعبد رقيق جاء من بلاد البلغان إلى تونس فارتقى مقاماً بلغ رئاسة القضاء وكاتب الدولة، ذلك هو “خير الدين التونسي”، صاحب (عجائب الأمصار وغرائب الأسفار)، ومن تونس شق صوت “راشد الغنوشي” الصمت، وقطع شوك (ثارات) وتأويلات (قيلت) عن علاقاته بالإسلاميين في السودان، وجهر “الغنوشي” وقد حاصرته محددات “مهدي إبراهيم” الميقاتية باختصار الحديث، مع أن أمثال “راشد الغنوشي” (لا يقيدون).. هم طلقاء ضمير ولسان وليتهم (تركوه) ليقول شيئاً للآلاف التي متعت نفسها بدهشة التلاقي الحميم بين الإسلاميين في مقرن النيلين وقبالة توتي أم خضاراً شال!!
{ مشروعية الداخل والخارج
من ينظر بعين المراقب المدقق لمآلات صراع الإسلاميين حول من يملك مشروعية اسم (الحركة الإسلامية) بعد الانشقاق الذي ضرب الصف الإسلامي قبل سنوات، والمؤتمر الذي بلغت عضويته الأربعة آلاف من أجيال الإسلاميين شيوخاً وقيادات وسطية وشباباً وطلاباً وامرأة، فإن ملمحاً يشي بأن “علي عثمان محمد طه” الأمين العام للحركة الإسلامية قد كسب معركته الأخيرة مع “الترابي”، وبعيداً عن السلطة وبريقها نجح “علي عثمان” في نيل مشروعية القاعدة العريضة من الإسلاميين بعد طول نزاع، ولن تنتقص استمالة “علي عثمان” لقواعد الإسلاميين إلى صفه من رمزية وتاريخ “الترابي” الذي لن تمحوه سنوات الشقاق ولا تجافيه عن تلاميذه.. والملمح الثاني الذي يشير إلى كسب “علي عثمان” معركة الصراع حول وراثة التيار الإسلامي، تمثل في الاعترافات الدولية بالحركة الإسلامية ومشروعيتها، وقد كان “الترابي” (مقنعاً) للإسلاميين في الخارج بأن تلاميذه قد انقلبوا عليه غيلة وغدراً.. ولكن بعد أكثر من عشر سنوات من تجافي إسلاميي الخارج والحركة الإسلامية التي يقودها “علي عثمان”، نالت الحركة بصبرها وثباتها اعتراف “الغنوشي” من تونس، و”محمد بديع” المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، والحركة الإسلامية في باكستان ليبيا واليمن، و”خالد مشعل” رمز النضال والجهاد الإسلامي في فلسطين، وبدأب وصبر نال “علي عثمان” الآن اعترافات الإسلاميون الذين (هالهم) مشهد قاعة الصداقة يومي الخميس والجمعة، والهتاف هو الهتاف، وكل رموز التيار الإسلامي الذين لهم علاقات واسعة في الخارج يمسكون بمفاصل التنظيم من “مهدي إبراهيم” إلى “أحمد عبد الرحمن”، وحتى مهندس العلاقات الخارجية للإسلاميين د. “مصطفى عثمان إسماعيل”.
والرهان على مشروعية قيادة الحركة الإسلامية واعتراف العالم الخارجي بمن هو قائد التيار الإسلامي الحديث في السودان، مسألة ذات أهمية كبيرة لكل الأطراف!!
{ عودة “سيخة” وخطاب “طه”
كل الشعب السوداني يحفظ قصة “الطيب ابراهيم”.. وجامعة الخرطوم، والأسبوع الثقافي، ورقصة (العاجكو) التي بسببها اشتهر “الطيب إبراهيم” الشاعر الرقيق بـ(الطيب بتاع السيخة)، خرج مثلما خرج “أحمد رفيق المهدوي” الشاعر الليبي الذي رفض أن يتغلغل المستعمر الإيطالي بين ثياب الليبيين قبل الليبيات، فكتب قصيدته التي كان تدرس في المناهج السودانية (خرجت من موطني مثل الطريد).. و”الطيب إبراهيم” خرج من حكومة هو من صناعها ويتحمل أوزارها، حتى وإن استراح في قرية شمال أم درمان وعاد لمهنة الطب، أو انقطع في مسيد بالشيخ الطيب.. أو كتب عن تفسير القرآن ولم يكتب بحثاً في الطب السريري.. و”الطيب إبراهيم” شريك في فصل الجنوب مثلما هو شريك في أزمة دارفور، وله سهم في مشروع البترول ورصيد في كهرباء مروي.. والمسافة بين “الطيب إبراهيم محمد خير” و”علي عثمان” و”البشير”، شهد عليها الآلاف بقاعة الصداقة وعلى أثير الفضاء، و”الطيب” بعد فوزه بموقع شرفي لا مال ولا ذهب المعز ولكنه تقدير الرجال، أغلى من كنوز الدولة، (وضعوه) رئيساً للمؤتمر بعد منافسة مع البروفيسور “عبد الرحيم علي”.. وبعد فوز “سيخة” بأغلبية أصوات جعلت الحياء يتملك الشيخ “حسن عثمان رزق” من إعلان النتيجة جهراً، توجه “سيخة” إلى (شيخه) وأستاذه ومعلمه “علي عثمان محمد طه” فأصغى إليه طويلاً والقاعة بين الدهشة والانتظار.. اعتلى “الطيب” مقعد رئيس المؤتمر الوطني، وهي إشارة أولى نحو إقبال الحركة الإسلامية وحكومتها وحزبها على مرحلة جديدة قد تشهد صعود نجوم جديدة.. ود. “الطيب إبراهيم محمد خير” قال عبارة لها أكثر من مغزى: (نحن بلغنا الستين من العمر)، وقد خرج د. “الطيب” من الحكم قبل سبع سنوات في عمر الزهور السياسي، و”الطيب” ليس “مصطفى سند” حينما نظر لفتاة أسرته ملامح وجهها الرطيب فانشد.. بيني وبينك تستطيل حوائط ويفتح ألف باب.. بيني وبينك سكة السفر الطويل من الربيع إلى الخريف.. وبين مقعد رئيس مؤتمر الحركة الإسلامية الذي جلس عليه من قبل في لحظات تاريخية مثله “علي طالب الله” و”الرشيد الطاهر بكر” و”حسن الترابي” و”محمد خير البدوي”، والمسافة بين “الطيب إبراهيم محمد خير” ومقعد رئاسة المؤتمر بدت قصيرة جداً والشباب (يهتف)، لكن “الطيب” الذي من قبل سرت شائعات وإرهاصات وتنبؤات بأن له نصيباً من موقع الأمين العام للحركة الإسلامية، بات الآن بعيداً جداً عن الموقع الذي تشير كل الدلائل إلى التجديد لـ”علي عثمان”، وهو يستحق ذلك، ولكنه يستحق إجماعاً من المؤتمر الوطني لخلافة “البشير” بعد عام من الآن.. ولما كان التصويت لاختيار رئيس المؤتمر الوطني علناً وجهراً اختار د. “نافع علي نافع” أن يرفع يده مؤيداً لترشيح البروفيسور “عبد الرحيم علي”، لكن لحظة إعلان فوز “الطيب” أقبل “نافع” على تهنئته وسط ابتسامات رضا، واختار “نافع” (الوضوح)، وكان كثيرون قد (صمتوا) وكأنهم في حياد سلبي مما يجري أمام عيون العالم.
الخطاب الذي ترقبه الإسلاميون قبل تقرير الأداء التنفيذي الروتيني، ليس خطاب الرئيس “البشير” الذي احترم ضيوفه وقدر إخوته في الحركة الإسلامية، فنهض من سرير نقاهته ليخاطب المؤتمر بصوت تبدت عليه آثار العملية الجراحية.. وبعث برسالته.. ولو غاب “البشير” من المشهد لثارت تساؤلات، ولو حضر كل المداولات لرهق جسده. ولكن.. خطاب “علي عثمان محمد طه” الأمين العام للحركة الإسلامية لم يقدم تبريرات مقنعة للأسباب التي أدت لانفصال الجنوب، ولا إخفاقات كبيرة شهدتها الساحة السودانية من تشرذم سياسي وحروب داخلية كالتي نشبت ولا تزال تستعر في دارفور.. والأستاذ “علي عثمان” (اتكأ) أيضاً على الاستعمار والدول الغربية، وحمّلها مسؤولية فصل الجنوب عن الشمال لأسباب تبدو منطقية وله فيها حجة.. ولكن بشأن دارفور وأسباب نشوب حرب في أرض كانت حقلاً مخضراً للإسلاميين، وأول اختراق حقيقي لقواعد الطائفية والإسلام الصوفي أحدثته الحركة الإسلامية في تراب دارفور، وكان أغلب رموز وقيادات الحركة الإسلامية من دارفور، اليوم (يبدو) الدكتور “الحاج آدم يوسف” (وحيداً) في الصفوف الأمامية وقليل من القيادات الوسطية في الصفوف الخلفية، ومأساة دارفور مهما تبرأ منها الإسلاميون في السودان تظل هي خطيئتهم التي تنتظر علاجاً قبل أن يستحيل الشفاء على أيدي أطباء الداخل ويتم اللجوء لغريب الوجه واللسان، وقد تسلل الأجنبي إلى مخادعنا وتكاثفت تدخلاته في السودان.
وبدأ خطاب الأمين العام للحركة الإسلامية يلامس قضايا الشريعة والدستور، وحدد ست قضايا جوهرية عدّها تحديات مقبل الأيام، هي: مراجعة التشريعات في الدولة لتتواءم مع الشريعة الإسلامية، وتعزيز الحريات، وتقوية مؤسسات الرقابة على الحكومة، وتأكيد حكم القانون حتى لا يصاب صاحب حق باليأس ولا يستقوى صاحب نفوذ بسلطته، ودعم وتعزيز قدرات الدولة، وهي إشارة لتطوير الجيش والشرطة والأمن لمواجهة التحديات الكبيرة التي تطل برأسها كل حين.. وأنهى “علي عثمان” بالدعوة لدستور تتراضى عليه القوى السياسية.. ومع إغفاله لقضايا مثل الاقتصاد والعلاقات مع الغرب وهل بات الدرب مسدوداً لتفاهمات مع الدول الغربية، فتح “عثمان” مسارب ضوء خافت لإمكانية وحدة في المستقبل للسودان ربما بخارطته القديمة.. وأشار إلى رغبة الخرطوم في جوار آمن مع الجنوب، ولعب دور للتواصل بين العالم العربي والإسلامي وأفريقيا جنوب الصحراء.
{ الصوفية والسلفية
شكلت الجماعات الصوفية وجوداً في مؤتمر الحركة الإسلامية بعد أن تماهت بعض الطرق الصوفية، خاصة في مرحلة ما بعد وصول الإسلاميين إلى الحكم في الحركة الإسلامية، وقد انتفعت الحركة الإسلامية من الصوفية، استوعبت منهم الوزراء والمديرين، وقربتهم إليها، احتضنت مناشطهم وتصالحت مع (النَوبَة) و(الطار) والأناشيد، فأفاد الصوفية الحركة الإسلامية في الحشود والدعم المعنوي وفي الانتخابات.. والصوفية استفادت هي أيضاً من الحركة الإسلامية فقهاً وعملاً ونشاطات وعلاقات خارجية وداخلية.. ولكن مؤتمر الحركة الإسلامية قد كشف عن هشاشة العلاقة مع التيارات السلفية في العالم الإسلامي، وفي الوقت الذي شكل فيه السلفيون السودانيون وجوداً شرفياً في جلسة المؤتمر الأولى التي غاب عنها السيدان “الصادق المهدي” و”الميرغني”، فقد غاب السلفيون من دول مجلس التعاون الخليجي، ولم يشكل السعوديون أو الإماراتيون أو الكويتيون وجوداً في المؤتمر، ربما لأسباب سياسية لا علاقة لها بالمؤتمر، الذي توافد إليه القريب والبعيد.