خربشات
لم يعد هناك فاصل ما بين الثقافات والاهتمامات.. وسط الشباب في القرى البعيدة النائية وبين سكان المدن.. وانحسرت اهتمامات الشباب بالسياسة والآداب والفنون الوطنية.. وتماهى الآلاف مع المنتوج الثقافي العالمي، فكرة القدم التي شغلت الناس في كل مكان تحظى بمتابعة أكثر من السياسة.. وانصرف الشباب السوداني من الفئات العمرية دون الثلاثين عن تشجيع الأندية الوطنية.. وتفرق الهلالاب والمريخاب.. وتبعثرت الجموع التي كانت ترتاد المقاهي في الخرطوم قهوة الزئبق وشجرة موقف المواصلات جنوب مول الواحة الحالي ومطعم الرياضيين لصاحبه “ميرغني أبو شنب” بأم درمان وقهوة الأخوان، وجروبي في الأبيض.. وسينما كوستي وقهوة أتيانينا ببورتسودان والمسطبة العجيبة وانقسام مدينة الثغر ما بين الهلال وحي العرب، كل ذلك قد انتهى وما عاد هناك حوار بين المريخاب والهلالاب.. وانخفض دخل المباريات.. وانصرف الشباب لتشجيع الفرق العالمية وبات لبرشلونة رابطة مشجعين وأخرى لريال مدريد.. ومشجعين للفريق السماوي في انجلترا المان سيتي وآخرين من تشلسي وليفربول.. وتماهت الألوان ومن يشجع أحمر إنجلترا يقف مع أزرق إيطاليا.. ومن يدعم البايرن في ألمانيا.. يذوب حباً في ممثل الجنوب الإيطالي “نابولي”.. ولا ينشغل الشباب في القرى والأحياء النائية باجتماعات شورى المؤتمر الوطني، ولا يقرأ أغلبهم ما تكتبه الصحف وما تجود به قنواتنا التي لا تميز بين الدعاية والحكايا.. هناك في الساحة تغريب كامل.. وتغرد الفتيات بالجامعات بكلمات “كاظم الساهر”.. ولا يرددون مع الحلنقي “متين عرف الهوى قلبك متين فاضت بآهاته”.. اليوم الجمعة تدور عجلة منافسات الدوري الإنجليزي أقوى بطولة محلية على وجه الكرة الأرضية.. ويرتاد الشباب أندية المشاهدة في زالنجي.. وبورتسودان.. ومروي وتنقاسي، وأحياء الخرطوم المنسية من أجل المتعة وتزجيه الفراغ العريض كما يقول عنوان الروائية الخالدة (ملكة الدار).. وتفريج هم وغم المعيشة، المستقبل المجهول والخوف والجزع مما هو قادم.
(2)
المشروع الإسلامي في جذوره الراسخة وأعمدته الصلبة هو مشروع ثقافي وفكري .. من أجل التغيير الاجتماعي والإصلاح السياسي والعودة بالمجتمع لعصر النهضة الأولى وبعث قيم التدين.. والتزكية.. وانبثق المشروع الإسلامي في الفضاء المعرفي بالجامعات.. وخاطب قضايا النخب بعقلانية ، وتعددت التيارات الإسلامية من صوفية.. وسلفية، ولكن ظل التيار الإسلامي الحركي يمثل الاعتدال والوسطية وشأن كل حركة تغير اجتماعي تعرض المشروع الإسلامي لحالات مد وجذر.. ووصل إلى السلطة في السودان وتونس والجزائر وتركيا وماليزيا.. والصومال ومصر.. وتعرض لنكبات هنا.. وتعثرات هناك.. وفشل في القاهرة.. وإقصاء من السلطة في الجزائر.. ولكن التجربة السودانية ظلت راسخة وصامدة في وجه المتغيرات الداخلية والتربصات الخارجية.. ومحاولات الإزاحة بالطرق الناعمة والخشنة معاً.. ولكنها على صعيد الخطاب السياسي والأبعاد الثقافية تراجعت جداً.. باعتمادها على السلطة.. والقوة المادية.. وشوكة الدولة وآلياتها.. وانحسرت المنابر.. وجفت ينابيع الأدب.. واهتمت الدولة بغير الكتاب.. والصحافة والثقافة، بينما نشط اليسار والحزب الشيوعي على وجه الدقة في التنوير المعرفي.. وساد الساحة ورفد مشروع الحزب الشيوعي شرايين المكتبات بعشرات المطبوعات التي تعبر عن قيم اليسار ومفاهيمه.. ومن خلال مشروع الحزب الشيوعي الذي أطلق عليه (قراءة من أجل التغيير)، عكف الباحثون من اليسار في إصدار الكتب التي تعبر عن قيم يبشر بها دعاة المشروع، وخلال عامين فقط أصدرت المجموعة عشرات العناوين منها: المثقف والسلطة في السودان ومؤشرات الغبن التنموي في الريف السوداني.. وكتاب نحو أطر فكرية جديدة.. والمرأة في الفكر السلفي.. وجدلية الحرب والسلام في السودان، وتعثر بناء الدولة السودانية.. ويعتبر مشروع الفكر الديمقراطي وقراءة من أجل التغيير الذي يحظى بدعم من منظمات طوعية عالمية واحداً من مصدات المشروع الإسلامي الذي انشغل سادته بالسلطة والمال والصراع حول فتات الولايات.. وجلد الذات.. حتى بات الفساد قرين كل إسلامي.. وانسحبت القوى الإسلامية من المنابر والمساجد.. ودوائر المعارف وندوات الفكر.. وانكفأت على نفسها تجتر مرارة فشلها.. وحتى مؤسسات الدولة ما عادت قادرة على رفد المكتبة السودانية بكتاب واحد كل شهر.. بينما اليسار يصدر مجلات مثل الحداثة وكتباً ودوريات ويسيطر بذلك على ساحة المعرفة التي انسحب منها روادها.. إلى مغانم السلطة.. وترف الحياة الباذخة.
(3)
بعد أن وقع فرقاء الجنوب اتفاق وقف الحرب.. وإعلان الرئيس “سلفاكير ميارديت” استعداده التوسط بين الحكومة ومتمردي المنطقتين من فصيلي الحركة الشعبية.. ينتظر المواطنون في الدمازين وكادقلي أن تهب رياح السلام وتتوقف الحرب.. ويفتح باب التواصل.. وتزدهر الحياة وتجتمع الأسر الممزقة مرة أخرى.. ولن يتحقق ذلك إلا بإقرار تسوية نهائية.. واتفاق سلام يخاطب جذور المشكلة، وليس وقف إطلاق نار (مؤقت).. ورغم ما يكتنف التفاوض مع متمردي المنطقتين من صعوبات بسبب تصدع الحركة الشعبية إلى تيارين متصارعين إلا أن السلام يظل هو الغاية التي يتوق إليها المواطنون ودخول الرئيس سلفاكير وسيطاً يعني عملياً إلغاء دور الرئيس الجنوب أفريقي السابق “ثامبو أمبيكي” الذي فشل خلال أربع عشرة جولة تفاوض في أحداث أي تقارب بين الفرقاء.. بل تباعدت المسافات.. وعبرت مجموعة ما يعرف بالنوبيين القوميين عن يأسها وقنوطها من المفاوضات ورفعت مطلب حق تقرير المصير.. ووجدت المجموعة سنداً ودعماً من القوميين النوبة داخل المؤتمر الوطني، بينما المجموعة التي رفضت تلك الأطروحة ممثلة في تيار “ياسر عرمان” و”خميس جلاب” و”مالك عقار” نبذت ورفضت الحكومة التفاوض معها.. واليوم تلوح فرصة سلام حقيقية إذا ما أقبل الرئيس “سلفاكير ميارديت” على إقناع حلفائه في الحركة الشعبية وحلفائه في حركة العدل والمساواة الدارفورية بضرورة إبدال البندقية بسلاح السياسة.. والمنطق.. ونيل المطالب بالتي هي أحسن.. ويملك الرئيس الجنوبي “سلفاكير” أوراق ضغط حقيقية.. لتبديل مواقف الحركات المسلحة من التشدد إلى المرونة.. وفي ذات الوقت فإن المطلوب من الحكومة الآن تقديم التنازلات وهي في موضع قوة أفضل من أي وقت مضى.. وتقديم أي تنازل لأبناء الوطن من أجل حقن الدماء وإيقاف نزيف البلاد اقتصادياً لا يقدر بثمن.. والهدية التي يقدمها الرئيس “عمر البشير” لمواطني المنطقتين في المرحلة القادمة هي السلام من خلال التفاوض والتسوية.. ولن يجد مواطنو المنطقتين من يصوتون له غير الذي أنقذهم من شبح الضياع بعد سنوات من التوهان في أتون الحرب الطاحنة لعظامهم.