تقارير

“سلفاكير” غاضب على أمريكا وساخر من بعض المعارضين

هوامش وحكايات من جوبا في يوم عرس الجنوب

جوبا مالك علينا

يوسف عبد المنان

“الدرديري” و”نيال دينق” جمعتهما الجميلة والمفاوضات وفرقتهما نيفاشا.!!

عند منتصف نهار الخميس طلب السفير “قريب الله الخضر”، وهو من شباب الخارجية المثابرين على أداء المهام التي تسند إليهم بهمة ونشاط، طلب جواز سفري لمرافقة وزير الخارجية د. “الدرديري محمد أحمد” لمدينة جوبا.. تذكرت أن تلك المدينة التي أحببت أهلها وترابها ومناخها وأسواقها ورجالها ونساءها قد أصبحت بعيدةً جداً.. وأن زيارة الأصدقاء في بور وملوال شات والواكات ومثلت الموت (واط أيور كنقر) قد بات مستحيلاً وسنغادر هذه الدنيا دون رؤية البيبور وفشلا مرة أخرى..
تسللت الطائرة الروسية القديمة بين زخات مطر “الجمعة” والعاصمة الخرطوم مبتلة بالماء والشوارع تغرق.. حتى الشارع المقابل لمنزل رئيس الجمهورية كادت سيارتي أن تشرب من مائه الراكد.. وبذلك اقترب قاطن أم بدة كرور و(ساكن) المنشية والرياض. أخذت الطائرة تسبح في الفضاء وتطل من النافذة السحب الراحلة.. والأستاذ “النور أحمد النور” يحدثني عن أهمية مطر (النترة) في تغذية رمال شمال كردفان وبلدته “أم دم حاج أحمد” بأسباب إنبات البطيخ.. وكيف يعاني ويكابد مشائخ الخلاوى الثلاثة في محلية أم بدة.. وهي مسائد الزريبة و(أم قريقير) وأم دم.. الوزير “الدرديري محمد أحمد” بوعيه بأهمية الإعلام في مرحلة حصاد زراعة الأمل في تراب الجنوب بعد صمت طويل وجهد دءوب في الغرف المظلمة أثمر اتفاقاً بات توقيعه اليوم حدثاً عالمياً وإقليمياً ،قبل أن يذهب التوقيع النهائي لنيروبي في مقبل الأيام.. “الدرديري” يشرح لماذا سلام جنوب السودان يستدعي إنفاق المال.. وبذل الجهد والرحلات المكوكية بين العواصم الأفريقية.. والطائرة تئن من كثافة سحب أغسطس في سماء جنوب السودان.
جوبا صورة أخرى
أطلت مدينة جوبا صباح “الجمعة” تكسوها الخضرة والهدوء .. مطار جوبا الذي يعد من أكبر مطارات القارة الأفريقية، وتداعت صور الماضي بكل بشاعته التي عاشها بعض منا. سألت “عبد الماجد عبد الحميد” عن حادثة سقوط الطائرة العسكرية (C130) واستشهاد طاقمها بقيادة العقيد طيار “أسامة محمد الحسن” (خشم الموس).. ووقائع أيام الهجوم على جوبا(1992) وقصص وحكايات ، وأطل وزير الخارجية الجنوبي بابتسامته العميقة “نيال دينق نيال” أحد المخلصين الأوفياء للراحل جون قرنق.. وبدا عناقه والوزير “الدرديري محمد أحمد” عناقاً لأبناء دفعة بجامعة الخرطوم.. ورفقاء دروب التفاوض الشاقة منذ النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي.. “الدرديري” دبلوماسياً في السفارة بنيروبي و”نيال” متمرداً يتردد في المساء على عيادة الطبيب “جاستن ياك” في العاصمة الكينية الساحرة..وجوه مألوفة لبعض منا.. وأخرى جاءت بها دولة الجنوب من الشتات والمهاجر القهرية للعمل في الخارجية.. ومن بين القدامى أطل وجه الدبلوماسي والصحافي “خميس حقار”.. وفي قاعة كبار الزوار المتواضعة شكلاً ومضموناً.. كان الاستقبال حاراً.. والمدينة دافئة والابتسامات صادقة والسيارات اليابانية الفخمة تنتظر الوفد.. والصحافيون بنقيبهم وشيخهم وكبيرهم “أحمد البلال الطيب” يحدقون في وجه المدينة الذي غسلته أمطار “الخميس” وجففت شوارعه أشعة شمس “الجمعة”.. الشارع الذي يقودنا إلى داخل المدينة تحيط به العمارات الشاهقة ذات الطوابق المتعددة.. والمحلات التجارية.. والوجوه الأجنبية وصالات الرقص.. وشاشات العرض في الشوارع، ولافتات جميعها باللغة الإنجليزية.. في مدينة تتحدث العربية بطريقتها الخاصة.. المحال التجارية والفنادق ومقار الشركات أسوارها عالية.. ومحمية بالأسلاك.. والدروب مثل دروب أديس أبابا.. تلاشت ملامح ومظاهر العمارة السودانية القديمة .. وبدا وجه المدينة قريب الملامح والشبه بعواصم شرق أفريقيا.. أسوار المباني والوزارات تشير إلى الاحترازات الأمنية.. المدينة شهدت تطوراً هائلاً وتقدماً كبيراً ونمواً مضطرداً مقارنة بآخر أيامي بتلك المدينة قبل الانفصال بشهور محدودة.. الطريق إلى القصر الرئاسي يمر عبر كتل أسمنتية (اعتراضات) أمنية.. بدا واضحاً أن أثر معركة مدينة جوبا قد صبغ الدائرة التي تحيط بالقصر بحذر شديد.. الزميلة “مها التلب” تشير إلى منزل محكم الأقفال.. إنه منزل الجنرال (مولنق) الذي أرهق “سلفاكير”.. وأرقه.. وقاده إلى إدانات دولية عديدة.. بسبب تصديه للمعارضين بقسوة لا تعرف الرحمة.
لم نشاهد في شوارع جوبا مظاهر انفلات أمني.. ولا فوضى، وبطريقته الساخرة سأل الرئيس “سلفاكير” الوفد الصحافي في الجلسة الحوارية المفتوحة :هل شاهدتم في جوبا جثثاً في الشوارع؟؟ ضحك الرجل بطريقته الودودة. وأزاح عنا الجدار الفاصل ما بين الرئيس والصحافيين في هذه الحالات.
سلفاكير :هواجس ومشاغل
المهمة التي انتدب لها الرئيس وزير الخارجية الدكتور “الدرديري محمد أحمد” إلى جوبا قبل يوم من الموعد المحدد للتوقيع على اتفاق تقاسم السلطة بين الفرقاء في جنوب السودان ذات شقين، الأول يتعلق بآخر تطورات مواقف القوى الرافضة للتوقيع وهي مجموعة د. “لام أكول” التي تعترض على تقسيم بعض الولايات وخاصة أعالي النيل.. واجتزاء جزء من مناطق قبيلة الشلك التي ينحدر منها د. “لام أكول” وضمها لولايات أخرى.. والثانية موقف مجموعة المعتقلين السياسيين، وهؤلاء يعتبرون نصيبهم من السلطة قليلاً، ويطالبون بزيادة الحقائب التي أسندت لهم (تقاسم السلطة) ، ويشعر الرئيس “سلفاكير” بارتياح كبير لدور السودان في المفاوضات، وتبددت لديه كثير من الشكوك التي كانت تساوره بأن الخرطوم تقف مساندة “لرياك مشار” غريمه الأول وألد خصومه في الفترة الماضية.. وفي ذات الوقت أخذ “سلفاكير” على عاتقه تقديم أي تنازلات تفضي لاتفاق سلام شامل.. ولكنه في ذات الوقت تمسك بالوفاء والتقدير لنائبه “تعبان دينق” الذي شق صف المعارضة واستمال عدداً كبيراً من أبناء النوير إلى صف “سلفاكير” في خضم الصراع العسكري، وتمسك الرجل بنوابه الاثنين ووافق على تعيين ثلاثة آخرين، لكنه اشتكى من تبعات المناصب العديدة في حكومته والمصاعب التي تواجهه في تجهيز مقرات الحكام الجدد وحاجياتهم من البيوت والسيارات التي يستخدمها النواب.. ولا يشعر “سلفاكير” بأن تقسيم السلطات يشكل معضلة لديه، إلا أن الرجل كان غاضباً وعاتباً ومتوجساً من المجتمع الدولي وتساوره شكوك بأن العالم في معظمه يقف ضده.. ويتربص بحكمه ويسعى لإزاحته من موقعه وتنصيب المعارضة خاصة مجموعة المعتقلين.. هؤلاء بينهم والرئيس “سلفاكير” حوائط سميكة من عدم الثقة.. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس ورئيس اتحاد الصحافيين.. حرص الرئيس “سلفاكير” على الإجابة عن كل أسئلة الصحافيين، ولكنه سأل بعفوية وين بتاع (الانتباهة)؟؟ كانت الإجابة من الجميع: الذي يدير الحوار معك هو رئيس تحرير (الانتباهة)، فتساءل: وين العمة بتاعك؟.. ضحك الجميع.. ولكن الرئيس بدا مرتاحاً لسؤال (المجهر) التي استخدمت تعبير (اللُقمة) ، وهل المتاح من الواقع يكفي الأيادي التي تتخاطف (لُقمة صغيرة؟) فقال “سلفاكير” ضاحكاً : عشان أي زول داير (لُقمة) يجده ، وافقنا على زيادة عدد المقاعد في البرلمان وفي مجلس الوزراء، ومن لن يجد (لُقمة) ينتظر شوية ويصبر حتى نجد له (لُقمة)..
سؤال عن 40 ألف دولار للنواب
الإعلام في جنوب السودان رغم سطوة العسكريين من الحركة الشعبية على السلطة ونفوذهم ، يحظى بقدر كبير من الحرية، وتصدر في جوبا عدة صحف إنجليزية “جوبا مونيتر” ، و”جوبا اليوم” ، وبالعربية تصدر صحيفة “الوطن”، التي يملكها “مايكل كرستوفر” ورئيس تحريرها “ميتانق قول”، وهي أكثر الصحف اليومية انتشاراً ، وتهتم بأخبار المفاوضات، وفي صفحتها الأخيرة ،عدد أمس، تناول السفير “خميس حقار” العنصرية في السودان القديم، والعنصرية في جنوب السودان.. وفي الصفحة الأولى تصدرها إعلان نصف صفحة صادر من السكرتارية القومية للحركة الشعبية ،يقول الإعلان: ” تدعو الأمانة القومية للحركة الشعبية لتحرير السودان جميع مواطني جنوب السودان بجوبا لاستقبال بطل السلام الرفيق الفريق أول “سلفاكير ميارديت” رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان ، رئيس الجمهورية والوفد المرافق لفخامته .. الزمان: الاثنين 6 أغسطس 2018م الساعة 12 ظهراً.. المكان: مطار جوبا الدولي.. وسيخاطب الرئيس الحشد الجماهيري بضريح الراحل المقيم “د. جون قرنق دمبيور” .انتهى الإعلان.. وفي المؤتمر الصحافي منح الصحافيون الجنوبيون آخر فرصة التي استغلها مندوب العربية الصحافي “استيفن”، وهو زميل سابق بصحيفة (ألوان) ،فوضع أسئلة ساخنة من نوع الأسئلة التي لا يسأل عنها في الغالب الرؤساء في دول العالم الثالث، وكانت الأسئلة على شاكلة كيف ياسيدي الرئيس تشكو من قلة الموارد وضعف المال، وأنت الذي صادقت أخيراً بمبلغ (40) ألف دولار لكل نائب في برلمان جنوب السودان ،وعددهم (350) نائباً؟ لم يبد الرئيس ضيقاً وتبرماً من السؤال الساخن، وأجاب بنصف ابتسامة وقليل من تقطيبة الجبين: نعم هو قرار اتخذته الحكومة بمنح كل نائب برلماني (40) ألف دولار عبارة عن سلفية مستردة من مخصصات النواب، حتى يتمكنوا من شراء عربات تساعدهم في التنقل بين المدن، ولم نمنحهم السلفية بالعملة الوطنية (الجنيه) حتى لا تفقد الدولة الكثير ،بسبب التراجع المستمر في قيمة الجنيه الجنوب سوداني.
الناس والحياة
خرجنا مع الأستاذ “عبد الماجد عبد الحميد”، رئيس تحرير الزميلة (مصادر) لسوق المدينة والمقاهي ، بعد أن تمت استضافة الوفد الصحافي في مقر السفارة السودانية في جوبا، التي تعتبر من أكبر السفارات في جنوب السودان.. جلسنا إلى صاحبة مقهى صغير بائعة شاي، ترتدي اسكيرت ،يكشف نصف صدرها.. وبعد أن أعدت لنا كوب الشاي حدثتنا مثل سائر بائعات الشاي في طرقات الخرطوم عن قدومها من منطقة مقوي (باريا).. وقد تجاوزها قطار التعليم ، وربما يتجاوزها قطار الزواج ،أيضاً.. كوب الشاي الواحد بخمسين جنيهاً.. و”كرستوفر” الذي يملك وكالة سفر وسياحة رفض إلا أن يشاركنا شرب القهوة والشاي ،ويدفع ثمنها ويتبرع لنا بالصحف الصادرة في جوبا يوم “الجمعة”.. ويقول إن عدداً كبيراً من الجنوبيين يتوجهون يومياً إلى الخرطوم، وتبلغ رسوم التأشيرة ستمائة جنيه فقط.. وهو مبلغ زهيد جداً.. ولا تصل الصحافة السودانية إلى الجنوب باستثناء صحيفتي “سوكر” ،الرياضية العالمية وصحيفة “الأوائل”.. ويقول بعض المثقفين: إنهم محرومون من الصحافة التي تصدر في الخرطوم ، ولا يعرفون الأسباب.. البعض يقول إن طائرة تاركو وطائرة بدر وهما الشركتان اللتان تقلان المواطنين بين جوبا والخرطوم ،ترفضان تحمل نفقات شحن طرد واحد من الصحف يساهم في في توثيق عرى التواصل الثقافي والاجتماعي بين البلدين.. ويعتقد آخرون أن وزارة الإعلام في دولة جنوب السودان تضع بعض القيود، ولابد من الحصول على تصديق لدخول الصحف.. وزير شئون الرئاسة بحكومة الجنوب طالب (المجهر) بالاستفادة من السوق في الجنوب وتوزيع آلاف منها في جوبا وملكال ..وفي سوق جوبا الكبير يقول تاجر من أبناء دارفور يملك بقالة كبيرة: إن أغلب البضائع المطلوبة تأتي من السودان بالتهريب وبالطائرة ،مما يضاعف سعرها.. وكشف التاجر عن تزييف المصانع في يوغندا للعلامات التجارية للمنتجات السودانية مثل بسكويت كابتن ماجد ،وبيعه في الأسواق باعتباره بسكويتاً سودانياً.. وعرض التاجر الدارفوري أنواعاً من العصائر السودانية لكنها قادمة من يوغندا.. ويرغب المواطنون في البضائع السودانية ولم تتغير الثقافة الغذائية بعد.. رغم محاولات اليوغنديين والكينيين السيطرة على السوق.. وثمة وجود كبير لرأسمال من لبنان وأثيوبيا وتركيا وغياب كبير للشركات السودانية.
أما أسواق الغناء فإن الأذن الجنوبية تصغي أكثر للمطربين السودانيين من زيدان إبراهيم ووردي وحتى جيل شريف الفحيل وندى القلعة، التي لها جمهور كبير.. نواصل..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية