المفكر.. والقيادي الجنوب سوداني د. “فرانسيس دينق مجوك” (3-3)
السودان تغيّر ولن يرجع للماضي و"جون قرنق" لعب دوراً كبيراً
فشل الجنوب كدولة مستقلة لأسباب داخلية وخارجية
علينا أن نكتب عن المجتمعات كما نعرفها و”دينق مجوك” نتيجة للكتاب أصبح معروفاً عالمياً
عارض كثيرون زواج “ياسر عرمان” من شقيقتي
“فرانسيس دينق” بدا أكثر تفاؤلاً من واقع الحال في البلدين، في هذه الحلقة من الحواره المثير، وأكد أن هناك أرضية للتفاهم والتعاون المشترك بين دولتي السودان وجنوب السودان حالياً، ربما تأخذ صيغة جديدة حال اكتملت، عادّاً (نيفاشا) لم تكن صفقة سياسية خططت لها الإدارة الأمريكية في ذلك الوقت، بل مبادرة أفريقية كاملة الدسم بادرت بها مجموعة (إيقاد) لحل مشكلة جنوب السودان ودعمتها الـ(ترويكا).
الدكتور “فرانسيس دينق مجوك” خط كتاباً جديداً قبل عامين يتحدث عن ماهية التعاون والتقارب بين بلده والسودان ربما تمهيداً لوحدة قادمة.
حوار- رشان أوشي
{ في رأيك جدل الهوية في السودان هل سيُحسم لصالح الأفريقانية أم العروبة؟
_ الاعتراف بالآخر هو الخطوة الأولى، وقبول التنوع بأننا جميعاً سودانيون، لكن قبول التنوع يفتح مجالاً للتفاعل.. هذه العملية مع الزمن تكون نتيجتها الانصهار أو التمازج، عندها نخرج باتفاق يمكن أن نطلق عليه السودانوية.. لا نتحدث مرة أخرى عن العروبة والإسلام والأفريقانية والمسيحية، نصبح سودانيين فقط، وهذا يصبح الإطار الوحدوي الذي نعيش فيه، نعم.. لديه تأثير، أنا بسطت الأمور أكثر من ما يجب، اعتقدت أننا متحركون في إطار سوداني، لكن بعد “نميري” وبروز تيارات الإسلام السياسي أصبحت جذور العروبة عميقة جداً، عندما أصدرت كتابي الذي ذكرته سابقاً، قيل إن الجذور الإسلامية لها تأثير، وعندما جاءت ثورة الإنقاذ قيل لي ذلك أيضاً، قلت لهم: (هل وحدتنا هي الأهم أم ارتباطنا بالدين؟).. تناقشت مع الكثيرين قالوا: إذا كان الخيار الدين أو الوحدة سنختار الدين، عندنا تقاليد دينية في جميع أنحاء السودان، مسلمون ومسيحيون وصوفية متعايشون.. ويوجد قبول لكل التنوع، لا أعرف ماذا سيحدث في النهاية إنما علينا أن نفهم بعضنا.. الإسلاميون يريدون نظاماً مبنياً على واقع المجتمع والتخلص من العناصر الأفريقية.. لكن هل نقبل ذلك لكي يفرق بيننا أم نجد سياقاً يوحدنا؟!
{ هل تعتقد أن المجتمع السوداني بحدته الثقافية المعروفة سيقبل مشروع السودان الجديد؟
_ هذا الأمر يصبح درجات، أولها الاعتراف بالتنوع.. مثلاً زميلي قاضٍ درس معي بالجامعة قال لي في أحد نقاشاتنا (الجنوبيين مساكين والله ناس ما بعرفوا الله).. بدا لى جاهلاً جداً.. المكتوب في الدراسات عن الأديان في السودان، أثبت أن القبائل النيلية متدينة أكثر، حياتهم مربوطة بالدين، أكثر من كونك تسميه بمسمى، عندما ندرس القانون ونجده مستورداً في الوقت أن (80%) من السودانيين محكومون بالعرف، في “خور طقت” الداخليات كلها بأسماء زعماء شماليين، لا يوجد زعيم جنوبي، الخطوة الثانية إيجاد ما يربطنا.. وعلينا أن نتساءل ما هو الذي يربطنا، هناك الكثير يجمع الناس أكثر من ما يفرقهم، بعد قليل نجد أن الحدود لا تعني شيئاً.. الجنوبيون عندما يزورون الخرطوم لا يشعرون بأنهم في بلد غريب، معظمهم كانوا يقطنون الخرطوم.. لماذا نسمح للحواجز السياسية المربوطة بقلة الناس أن تؤثر على نفوس الكثيرين.
{ مشروع السودان الجديد فشل في بداياته.. جنوب السودان نموذجاً؟
_ أبداً.. السودان تغير تماماً ولن نرجع للماضي.. “جون قرنق” لعب دوراً كبيراً جداً.. تقاليد الناس قبل أن تنفتح للعالم الخارجي، كانوا يعتقدون أن الله خلق الإنسان وفقاً لسحنة قبائلهم التي ينتمون إليها، وعندما عرفوا العالم بدأوا يشعرون بنواقصهم ودورهم في الحياة، حتى يعيدوا النظر حول مكانتهم في المجتمع، بعد ذلك أتى “جون قرنق” ودفعهم للشعور بأنه سيكون لهم دور حتى على المستوى السياسي، ومن أناشيد الحركة الشعبية (يا جماعة البلد بلدنا نميري أرجع بلدك)، أخشى الآن بعد تدهور السودان الجديد تفكيرهم أصبح معزولاً من التصور الكبير، لكن لن يظل كذلك لأن التغيير قادم.
{ الآن ما هو وضع (دينكا أبيي) في دولة جنوب السودان؟
_ في شبه فراغ، يعدُّوهم من ناحية ثقافية والوضع حسب الاتفاقية البعض يعدُّهم جنوبيين، وتقلدوا مناصب، في نفس الوقت الاتفاقية تربطهم مع السودان ولديهم الجنسية السودانية، ولكن الواقع أنهم مقربون للجنوب أكثر من الشمال.. المشكلة ما زالت عالقة، لذلك نحن نعمل على استقرار المنطقة، ونمهد لخلق جو مناسب للتعاون بين (المسيرية) و(الدينكا)، ونضمن الأمن والخدمات والتنمية، وهذا سيدعم العلاقات بين البلدين.
{ بعد وفاة د. “جون قرنق” فقد أبناء أبيي في الحركة الشعبية كثيراً من الامتيازات؟
_ نعم.. هناك آراء مختلفة حول الأمر، البعض يرى أن (دينكا أبيي) ساهموا كثيراً في الجنوب وقضيته، وآخرون يعتقدون أنهم ما زالوا سودانيين، ولكن لم تحل المشاكل بالصورة المثالية.
{ في كتابك (الدينكا وأغانيهم) الصادر عام 1974م تحدثت عن بنيوية الغناء لدى (الدينكا) وأنت باحث في الهوية وجدت تأثيراً للثقافة العروبية على (الدينكا)؟
_ أحد أبناء الاستوائية قال لي: في كتابك (الدينكا في السودان) وجدت أن المكتوب مطابق لثقافتنا، الأمر المدهش أنه في الصومال قيل لي ذات الحديث، إذن علينا أن نكتب عن المجتمعات كما نعرفها، من خلال هذه الدراسات سنجد المشتركات، مثلاً أن يعلق أحدهم قائلاً: (فرانسيس يتحدث عن السودان الجديد وفي ذات الوقت يكتب عن والده، بدلاً عن أن يكتب عن الأزهري)، إذن في ذهنه أن الشخصيات المعروفة هي التي يعرفها، أن يكون هناك زعيم (دينكاوي) يمكن أن يكتب عنه بالنسبة له هذا أمر خارج عن اهتمامه.. “دينق مجوك” نتيجة للكتاب أصبح معروفاً عالمياً، (أغاني الدينكا) أصبحت معروفة، الاعتراف بهم أصبح بتوثيق الثقافة، كنا نعتقد أننا مختلفون ومعزولون، لكننا من خلال توثيق الثقافة وجدنا المشتركات بيننا.. تكوين السودان عبارة عن عملية مستمرة.
{ عادات الزواج لدى (الدينكا) لا تقبل الغرباء.. كيف تزوج “ياسر عرمان” القادم من شمال السودان شقيقتكم؟
_ هذه جميعها صفات تعصُّب.. في شمال السودان نسمع أن المسلمات لا يمكن أن يتزوجن غير مسلمين، في جنوب السودان المسلمات يتزوجن غير المسلمين إذا انتفى الجانب العنصري، الآن بدأ الناس يتقبلون الأمر.. سمعت أن الشيخ “الترابي” لديه فتاوى حول زواج المسلمة من كتابي.. في الماضي كان هناك عقد أن الزواج خارج القبيلة غير مرغوب فيه، الآن يحدث كثيراً.. مثلاً عندما تزوج “ياسر عرمان” شقيقتنا رفض الكثيرون وعارضوا الزواج، قلت لهم إن “عرمان” أخوكم يقاتل معكم ويعرض نفسه للموت، اليوم تميزون بينه وبينكم لأنه شمالي.. أنا متزوج أمريكية وترفضون لأختنا الزواج من سوداني.. الحرب في الجنوب جعلت الناس يندمجون.. على مستوى السودان ككل هناك انفتاح.
{ أنت دعمت خيار الانفصال من قبل عبر دعمك لحق تقرير المصير.. الآن العالم كله يشهد الحريق في جنوب السودان؟
_ أنا لم أدعم الانفصال، أنا باستمرار أدعم الوحدة لكن على أسس معينة.. في البداية كان عبر مشروع السودان الجديد، وعندما لم يحدث ذلك اخترت فكرة السودان الواحد بنظامين، حتى عندما اقترب تقرير المصير، قلت ننقذ الوحدة بأن نعطي كل الأقاليم في السودان حق الحكم الذاتي لفترة انتقالية، ولا زلت أعتقد أن الحل في النهاية سيكون كذلك.
{ ما تقييمك لـ(7) سنوات من الانفصال؟
_ الأمر واضح، مجتمع الجنوب حسب الانثربولوجي، نظام منقسم تدريجياً، يتحدون ضد العدو، وعندما يذهب ذلك العدو يتصارعون فيما بينهم.. لكن هذا يحتاج نظام حكم يعكس الواقع، يجعل كل المستويات تحكم نفسها.. السلطة في تقاليدنا ليست للسيطرة، إنما دور الزعيم هو التوفيق بين رعاياه، لكن كل قسم قبيلة وخشم بيت لديهم حريتهم تامة بدون سيطرة، كيف نضع نظاماً كهذا ربما ليس واضحاً بالنسبة لهم.. نظام النوير (بوردن أناكي) نظام لا يوجد به سيطرة ولكنه منظم.
{ (نيفاشا) صفقة سياسية خاسرة بين الحكومة السودانية والإدارة الأمريكية كما نشرت وسائل إعلام روسية إبان إعلان رفع العقوبات عن السودان؟
_ لا علم لديّ.. ما يقال لا يعكس الواقع، السودان كان في حالة لابد من معالجة المشكلة، المجتمع الدولي (ترويكا، إنجلترا، النرويج، السويد) حملوا همّ السودان ورغبوا في حل المشكلة، بدأت الخطوات عبر (إيقاد)، بعد حل مشكلة إثيوبيا وإريتريا، المبادرة جاءت من (إيقاد)، كنت من المراجع لهذه المبادرة، بعدها انقسمت دول (إيقاد) حول الأمر، حتى عندما جاءت دول الـ(ترويكا) لتقديم مساعدات لمبادرة أفريقية، في الآخر بدور قيادي من الرئيس الأمريكي تم المضي في حل المشكلة.. الآن هم يشعرون بأنهم ساهموا كثيراً في الحل ونحن خذلناهم.
{ لماذا فشلت النخب الجنوبية؟
_ كثير من الناس اعتقدوا أن الجنوب كدولة مستقلة ستفشل، وآخرون كانوا ضد استقلال الجنوب، والسودان لعب دوراً كبيراً جداً في منعه، وأنا كنت أتساءل هل الفشل يأتي من الداخل أم الخارج؟ هل يكون تحقيقاً لأمر كان يرغبه الناس؟ وكيف؟ إذا استطعنا أن نعرف أسباب الفشل سنعمل على إصلاحه أم لا؟ الناس لم تتمكن من معرفة أسباب الفشل، بعضها داخلي وآخر خارجي.. المعادلة في النهاية تشمل الاثنين، حل داخلي وخارجي.
{ كيف تنظر للوساطة السودانية الحالية لحل أزمة جنوب السودان؟
_ في ذات الإطار الذي تحدثت عنه مسبقاً أصدرت كتاباً قبل عامين، يتحدث عن أنه حتى بعد الانفصال ما زلنا مربوطين مع بعضنا البعض سلبياً بالمشاكل العابرة للحدود.. حالياً نريد أن نقول أمراً آخر.. بدل رابطة سلبية تكون هناك رابطة إيجابية للتعاون في حل المشاكل، كل ما يقوم به السودان حالياً في رأيي خطوة مفروض تُدعم بأن تحاول الدولتان مساعدة بعضهما، ما يؤدي إلى التقارب.
{ في تقديرك.. هل من الممكن أن تتحد الدولتان من جديد؟
_ بعد أن يحدث التقارب والتعاون.. يمكن أن نجد صيغة جديدة.