حوارات

المفكر والقيادي الجنوب سوداني د.”فرانسيس دينق” (1ـــ3)

*إبان حرب الجنوب الأولى لم يساندنا إلا الشيوعيون

*نحلم بالعودة لواقع التعايش السلمي
*أبيي الأكثر تأثراً بالصراع من الجنوب
*تاريخ السودان به تمييز عرقي وديني وثقافي

بعد مكالمة هاتفية طويلة تحدثنا عن مؤلفاته وكتبه، وافق المفكر “فرانسيس دينق” على إجراء حوار صحافي مشترطاً ألا نركز فيه على القضايا السياسية كثيراً، قطع موعداً، وذهبت باكراً للمكوث في معيته أطول وقت ممكن، أعد فنجان قهوة بيديه لضيافتي،
بمسكنه في فندق أكاديمية الدراسات الأمنية والإستراتيجية بضاحية سوبا، بدأ الحديث عن حياته منذ الصغر مروراً بالمرحلة الثانوية بمدرسة “خورطقت”، إلى كلية القانون بجامعة الخرطوم، ركز محدثي الباحث والسياسي في إفاداته ، المنشورة في هذه الحلقة من الحوار ،على الروابط التاريخية بين الدينكا وشعوب السودان ، وخاصة نظارة المسيرية في أبيي:
حوار: رشان أوشي

*د. “فرانسيس”.. أنت عشت في منطقة تماس حدودي، تحدثت عنها في كتابك “طائر الشؤم”، حدثنا عن حياتك وقتها؟
الوالد كان زعيم دينكا نوك، وقتها كان أبوه مازال حياً وناظراً لعموم القبيلة، أبي وأخوه من أبيه كانا نواباً له، وكان هناك تنافس بينهم، صراع حول من يتولى النظارة بعد الجد، وأبي كان يحمل أفكاراً تقدمية، كنا نقطن في منطقة النعام وبلغة الدينكا “نونق”، وفي عمر خمس سنوات، اجتمع بنا الوالد أنا وإخواني من أبي، وأخبرنا برغبته في إرسالنا إلى المدرسة في أبيي، أول مدرسة تأسست بالمنطقة، وكنا أول طلاب في العام 1943م، انتقلنا إليها عبر الحمير، كنت متخوفاً أن لم أنجح سأخذل الوالد، أمضينا (4) سنوات، بعدها انتقلنا إلى الجنوب، اختارنا أحد الانجليز للالتحاق بمدرسة “تونج” الإرسالية التي أسست لأبناء نظار القبائل وموظفي الحكومة، بعد أن أقنع الوالد بذلك، ثم انتقلنا إلى مدرسة “رومبيك” الوسطى، نجحنا في الامتحان للثانوي، والدي لم يكن مرتاحاً لتعليمنا في الجنوب بل كان يصر على أن نتلقى تعليمنا في الشمال باعتباره الأفضل، وكان له ميول شمالية عربية، رغم أنه ليس مسلماً، في المرحلة الثانوية تدخل مدير إدارية كردفان، وتم نقلنا من مدرسة “رومبيك” الثانوية إلى “خور طقت” الثانوية.
*كيف كانت حياتك في “خورطقت”، وأنت القادم من جنوب السودان.. وقتها كانت المدارس الثانوية عبارة عن سودان مصغر؟
التفكير كان بسيطاً وقتها، كنا نعتقد أن كل السودانيين عرب، وأنا وأخي كنا الوحيدين من نعتقد أننا جنوبيون أفارقة، اذكر صديقي “نوري خليل” من الشمال النوبي رغم أنه لم يكن يتحدث العربية بطلاقة إلا أننا صنفناه عربياً، كنا معزولين عن أقراننا، لا نجيد اللغة العربية، ما لاحظناه مع الزمن أن هناك قبولاً جيداً جداً من زملائنا، لم نشعر بعنصرية عرقية أو دينية، وهناك ثلاثة تيارات سياسية: (الإخوان المسلمون، الديمقراطيون ويشملون الشيوعيين، المستقلين)، بالتالي لم يكن متاحاً لنا أن ننضم للإخوان المسلمين ونحن مسيحيون، طبعاً نحن داخل الأسرة ننقسم إلى مسلمين ومسيحيين، عندما اخترنا أن نكون مسيحيين والدنا ناقشنا في الأمر، والبعض كانوا معترضين لأنه في المسيحية يعني أن تتزوج بزوجة واحدة، ووالدي كان عنده (200) زوجة، المهم في خورطقت عام 1955م، عندما وقعت الأحداث في الجنوب لم نشعر بأي معاملة ضدنا من زملائنا الشماليين، بمرور الزمن اندمجنا واخترنا التيار الديمقراطي لننضم إليه، لأنه لم يكن ممكناً أن نكون مستقلين والجنوب مشتعل، شعرنا بشكل عام أن الطلاب مهتمون بالقضايا العربية أكثر من قضية الجنوب، كنا نقوم بالمظاهرات تأييداً للجزائر ومصر إبان العدوان الثلاثي، الحرب في الجنوب والقرى احترقت، لم يساندنا إلا الشيوعيون، بدأنا نشعر بأنه لابد من عمل سياسي من جانب الطلاب الجنوبيين، كما أننا كنا مهتمين بالنضال المصري ضد الاستعمار باعتبارها الأخ الأكبر، كنا نقول إن القوى الاستعمارية أكبر من مقدراتنا، أما القوى الشمالية سنتعامل معها، عندما التحقنا بجامعة الخرطوم، كلية القانون، بدأنا التحرك في خط الجنوب، أسسنا جبهة الطلاب الجنوبيين.
*(مقاطعة).. جبهة الطلاب الجنوبيين، تحولت لـ(الجبهة الوطنية الأفريقية، anf)؟
نعم .. اعتقد ذلك.
*كتبك تباينت بين القضايا الشعبية في مجتمع الدينكا، والقضايا القومية، كما أن معظم كتاباتك باللغة الانجليزية؟
لم اختر الكتابة بالانجليزية بشكل مقصود، بل لأنني لا استطيع الكتابة بالعربي كما اكتب الانجليزية، أما عن كتبي فأنا كتبت في أربعة مستويات (القبلي، القومي، الإقليمي، العالمي)، مربوطة بالتعليم والعمل، المرحلة الأولى عن الثقافات على المستوى القبلي، عندما كنت أدرس في جامعة الخرطوم درست القانون الدولي والشريعة، لم يكن هناك إشارة للقوانين العرفية، في الوقت الذي تربيت في عائلة كانت محكمة الوالد تطبع قوانين عرفية، ومعظم السودان كذلك، شعرت أن هناك شيئاً مفقوداً، بادرت في الإجازة بدراسة القوانين العرفية، فكرتي أعجبت إدارة الكلية، وبعثوا معي أستاذ انجليزي، لنواصل البحث، هذا كان الأساس لعملي في القوانين العرفية وواصلت حتى الدكتوراه، وكتبت كتابي الأول (العرف والتقدم)، وبعد ذلك (تحديات القانون العرفي والتنمية لدى الدينكا)، القانون انعكاس للواقع الثقافي والسياسي، ويحكم العلاقات في إطار مبادئ وقيم معينة، ومنه كتبت (الدينكا في السودان)، وبدأت أبحث عن مصدر القيم، وجمعت (حكايات الدينكا)، باعتبارها مصدر القيم ومن ثم نشرت كتاب (الدينكا وأغانيهم)، بدأت اهتم بتاريخ الدينكا ونظرتهم للعالم منذ بداية الخلق، حتى هناك مقولة في العائلة تشير إلى أن القيادة عندنا تعود إلى خلق الإنسان، كنت أرغب في كتابة كتاب عن جدنا، وجدت مؤلفاً انجليزياً في انجلترا مهتماً بالأمر التقى جدنا عندما كان في السودان، ولكن فضلت الكتابة عن الوالد لأني أعرفه أكثر، لذلك كتبت (رجل يُدعى “دينق مجوك”)، عندما أردت كتابة الكتاب التقيت بالزعيم “بابو نمر” ناظر عموم قبائل المسيرية، وقال: “أنت ترغب في الكتابة عن والدك، من سيكتب عني؟”، عندها قررت أن أكتب عنه جمعت ما قاله عن نفسه وعن الوالد وعن الانجليز اسميته (القيود الحريرية)، “بابو نمر” قال إن الانجليز لولا أنهم مستعمرون لم يكن لدى شيء ضدهم لأنهم عندما يلقون القبض عليك يقيدونك بالحرير، على المستوى القومي وجدت أن الإسلام والعروبة يميزون البعض عن الآخرين، مثلاً في مدرسة “خورطقت”، وجدت أن أسماء العنابر في الداخليات بأسماء زعماء القبائل العربية، لم أجد اسماً لزعيم جنوبي، وكذلك الفصول، وجدت أن تاريخ السودان به تمييز عرقي، ديني، ثقافي، أنت أفريقي مسيحي أقل مستوى، شعرت أنه انحراف للواقع، القبائل كلها تحسن وضعها بالعروبة والإسلام، وفي الواقع لا زالوا تقليديين لحد كبير، بدأت أعمل دراسات عن الثقافات في السودان، وكتبت (ديناميكية التعليم الذاتي)، وكتاب آخر كتبته لوزارة الخارجية إبان عملي بها (السلام والتنمية في السودان)، بعد ذلك واصلت على ذلك، بأن هناك أسساً تفرق بين الناس، اعتقدت وقتها أننا متحركون في إطار قبول والوحدة في إطار التنوع، على المستوى الأفريقي وجدت أن الأنظمة الحاكمة في أفريقيا موروثة من الخارج لا تعكس الواقع الأفريقي، نحتاج نعيد النظر بشأنها لنعكس الواقع وكيف نحكم أنفسنا، أصدرت عدداً من الكتب بشأنها، أما على المستوى الدولي فارتبط بعملي كممثل للأمين العام للأمم المتحدة في شؤون النازحين، وبعدها ممثل الأمين العام لشؤون الإبادة الجماعية، كتبت بعض الكتب في هذا الشأن.
*د.”فرانسيس”، الدينكا أحد شعوب النيل، ألا تعتقد أن هناك روابط تاريخية بين تلك القوميات النيلية في السودان؟
عندما ألفت كتابي (الدينكا في السودان العربي الأفريقي)، وجدت مشتركات كثيرة بين عادات الدينكا في الإنجيل، والعرب في القرآن، أول رد فعل من الناس عندما صدر الكتاب قالوا إنه أثر الإرساليات في الجنوب، ولكن من أخذت عنهم الحكايا كانوا كباراً في السن وأكدوا أنهم سمعوها عن أجدادهم، ونحن أول جيل دخل المسيحية، وأحاديثه قديمة جداً، عندما تفكر في تقييم الأمر لم أجد هذه المشتركات غريبة، لأن منطقة وادي النيل الناس فيها متحركون، و”جون قرنق” كان دائماً يشير إلى ما ورد ذكره في الإنجيل عن القبائل النيلية وحضارة كوش… الخ، الحروب والصراعات هي التي فرقت الناس، وجعلتهم يتجاوزون تلك المشتركات، بعض الدينكا عندما سمعوا هذا التحليل وأنا قدمت ورقة في مؤتمر عن العلاقات الأفريقية العربية نظمها “بونا ملوال”، الجنوبيون انزعجوا، وقالوا: “فرانسيس عايز يقول نحن أهل مع العرب”، مع الزمن أصبح هذا الحديث مقبولاً رغم الميول الأفريقي الانفصالي في الجنوب.
*من هم أقرانك من الشخصيات الشمالية المعروفة أيام الدراسة؟
أنا أخشى أن أذكر أسماء، وتسقط عني بعضها ويغضب مني أصحابها، ولكن أبرزهم (زكي عبد الرحمن) من النوبيين، (مصعب الهادي، التجاني الكارب، أمين مكي مدني، عمر الفاروق شمينة، فاروق كدودة) وآخرون، مازلت مرتبطاً ببعضهم، كنا مقربين لبعضنا بشكل كبير، وصداقاتي كانت شمالية أكثر منها جنوبية.
*لمحت في كتابك (طائر الشؤم) إلى حالة من الود كانت بينكم ونظارة المسيرية.. هل أفسدتها الحرب؟
بالتأكيد.. ما يحدث على مستوى التعايش السلمي بين القبائل، وعلى المستوى السياسي القومي منفصلين ومربوطين في ذات الوقت، حتى قبل الاستعمار جدنا “أروب”، خلق علاقة مع زعيم العرب خلطوا بالدم ليكونوا أهل، وحتى زمن تجارة الرقيق كان زعيم الدينكا يطارد التجار ويسترد الرقيق العرب والدينكا، ويسلمهم لذويهم، في عام 1905م، لأجل إيقاف الصراع القبلي، قرر الانجليز بأن يحكم دينكا أبيي، وبحر الغزال عن طريق كردفان، حتى تكون الإدارة أسهل، وبعدها أعيدت القبائل الأخرى للجنوب وخير جدنا “كوال أروب” بأن يحكم عن طريق الجنوب أم الشمال؟ ولكنه اختار الشمال، نسبة لعلاقته مع الزعماء العرب، ولم يغير دينه، ولكن تأثر بالثقافة العربية حتى في ملبسه، أما والدي الانجليز خيروه أيضاً واختار الشمال نسبة لوضعيته المميزة، كان يعتقد أن دورهم على الحدود الحفاظ على علاقات ودية لمصلحة الجنوبيين وكان يُسمي نفسه (حارس الحدود)، حتى اندلعت الحرب، الدينكا انضموا للحركة الشعبية، وأبيي أصبحت منطقة صراعات تأثر أكثر من الجنوب، فأصبحت المنطقة التي تربط الشمال بالجنوب أصبحت أكثر منطقة متضررة، وبعدها المسيرية اتجهوا للشمال في الحرب، وتدهورت العلاقة، حتى في اتفاقية أديس أبابا هناك بند يخير الدينكا بين أن ينضموا للشمال أو الجنوب، وهو نفس الخيار الموجود الآن في بروتوكول أبيي المضمن في اتفاقية نيفاشا 2005م، ولكن التنفيذ في الحالتين عاجز، أنا بادرت بعد أديس أبابا 1972م، بأنه بدلاً من أن تصبح أبيي منطقة متصارع حولها، تصبح منطقة تكامل، والآن نحلم بالعودة لواقع التعايش السلمي بين المسيرية والدينكا، أن خلقنا جواً مناسباً.
يتبع…

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية