أنا معجب بالرئيس الأثيوبي الحالي.. وسبب إعجابي به أنه فتح ملفات كانت عصية على من سبقوه من رؤساء للدولة الجارة الشقيقة، فالرجل يفهم في علم الجغرافيا ويفهم في علم الاجتماع.. والعلم بهذين العلمين المهمين يساعد الحكام في إدارة شؤون بلدانهم لا سيما في سياساتهم تجاه جيرانهم من بلدان.. وإدراكه بضرورة رأب الصدع مع دولة إريتريا المجاورة هو الذي دفع بعلاقة الدولتين دفعة إيجابية لطي ملف الشجار حول الحدود الجغرافية السياسية، فتلك حدود رسمها المستعمر في خرط وأطلس الجغرافيا حينما وضعت الحرب أوزارها، لكن قبل الحروب الأخيرة وقبل التقسيم الذي أحدثه المستعمر، كانت شعوب المنطقة من أصول واحدة.. والسبب الجوهري أن شعوب تلك المنطقة لا تفصلها حدود طبيعية كالمحيطات أو الجبال التي تعيق حركة الإنسان، والدليل هو لجوء الإنسان إلى الدولة المجاورة والتي يمكن أن يصل إليها راجلاً لا يعيقه عائق، وهذا ما جعل بلدنا ملاذاً للعديد من مواطني تلك الدول.. والأمثلة لا تحصى لحالات اللجوء الإنساني، ودونكم الأشقاء من جنوب السودان حينما اشتدت الحرب، إذ لا مناص لهم إلا الترحال شمالاً والمشهد ماثل أمامنا في الأعداد المهولة التي حطت رحالها بولاية النيل الأبيض، فهم مرحب بهم يقتسمون الماء والطعام والمأوى.. أيضاً لا تثور مشاكل كتلك التي تشكو منها الدول الأوروبية التي يهاجر إليها مواطنو الدول التي عصفت بها الحروب والمشاكل السياسية، لأن من يهاجر من دولة جارة يعتبر هجرته إلى امتداد لأرض وضع لها المستعمر حدوداً على الخرط، لذا فهو آمن مطمئن، لأن هنالك قواسم عديدة بينه وبين شعب الدولة اللاجئ إليها، فأهلنا الأحباش منتشرون في كل مدن السودان، لا سيما العاصمة المثلثة بمدنها الثلاث بحري وأم درمان والخرطوم.
وهنالك وشائج المصاهرة والمواطنة والمصالح المشتركة.. كذلك الحال بيننا والشقيقة تشاد والعلاقات المتداخلة الخاصة بالقربى والرحم لا سيما بين القبائل المشتركة في أصولها العرقية، هذا إلى جانب وحدة العقائد والتشابه في السحنات والملامح.. والملمح المميز ليس في الجغرافيا والأنثربلوجيا فقط، بل في العادات والتقاليد وسبل كسب العيش، بل حتى في الثقافة.. ولعل الإجابة على السؤال: لماذا يحب الشعب الأثيوبي الغناء السوداني؟! ولماذا يحتفون بالراحلين “سيد خليفة” و”خوجلي عثمان” و”أحمد المصطفى”.. الخ من مغنيين ومغنيات سودانيات للدرجة التي أطلق على الراحل “وردي” فنان أفريقيا الأول، والطريف أن اللغة لم تكن حاجزاً، فهم يحفظون غناءنا عن ظهر قلب ولا يدركون معاني الأغنيات.. فالإنسان متى ارتحل دون عائق من دولة إلى دولة جارة، فإنه يرحل بتاريخه وثقافته وإرثه، وفي كثير من المواقف أنت لا تميز بين القبائل السودانية في شرقنا بين الإريتري والأثيوبي والصومالي، وكذا الحال بين القبائل السودانية بغرب السودان والتشادي والموريتاني والنيجيري والليبي لا سيما الذين هم من سكان الجوار لدارفور وحتى نواحي كردفان.. وبرغم أن أهل السياسة قد فطنوا لتلك القواسم المشتركة فأنشأوا كتلة دول عدم الانحياز لتشكل قوة سياسية لتوازن القوى التي كان يسيطر عليها المعسكر الشرقي الشيوعي بزعامة روسيا والمعسكر الغربي بزعامة أمريكا، إلا أن تلك الكتلة التي برزت عقب الحرب العالمية الأخيرة سرعان ما انهارت بسبب الحرب الباردة التي اشتعلت بين المعسكرين الكبيرين، الشيء الذي جعل دول عدم الانحياز تدور في فلكي الدولتين العظيمتين روسيا وأمريكا، وهنا نجد أن المصالح الاقتصادية قد لعبت دوراً بارزاً أثر على نهضة دول قارتنا السمراء، وزيارة الرئيس المصري الأخيرة يبدو أنها قراءة صحيحة للجغرافيا وعلم الاجتماع.. وربما يعيد أشواق “عبد الناصر” عندما نادى بوطن عربي واحد وشعب عربي واحد وعلم عربي واحد عند طرحه لفكرة القومية العربية التي أجهضها المستعمر لتضاربها مع مصالحه الاقتصادية.. وليت وعت منظمة الدول الأفريقية ودرست الجغرافيا وعلم الاجتماع وقرأت خارطة الوطن القراءة الصحيحة، كما قرأها الرئيس الأثيوبي الشاب، وكما انتبه لها رئيسنا سعادة المشير بمبادرته التاريخية الذكية ودعوته للأشقاء الفرقاء د.”رياك مشار” و”سلفاكير”.. وأنا أيضاً معجب غاية الإعجاب بالصديق د.”لام أكول”، فهو مدرك لأبعاد آثار قواسم الجغرافيا والإنثربلوجيا، فهو ما أنفك ينادي بوحدة الشمال والجنوب ويراهن على عبقرية المكان والزمان والإنسان، وهو المنادي دائماً بحتمية التعايش السلمي بين الشمال والجنوب لإيمانه بحتمية الروابط التاريخية القدرية التي تستوجب التعايش السلمي الآمن المطمئن بين حكومات وشعوب الدول التي لا تحدها سوى الحدود السياسية الجغرفية.. والغريب أن الدول الأوروبية انتبهت بعد الحرب مباشرة وعولت على تكامل عناصر الموارد الاقتصادية وحققت الوحدة الأوروبية برغم اختلاف الجغرافيا والإنثربلوجيا بينهم، فأنشأت منظمة التجارة الدولية وارتقت بشعوبها في كافة مجالات الحياة للدرجة التي جعلت أحلام الأفارقة الهجرة إلى أوروبا.. برغم ثراء أفريقيا بالثروات الطبيعية المتعددة التي كان من الممكن إن حسن استغلالها لجعلت شعوب أفريقيا ترتع في النعيم والخير ورغد العيش.
إذن ما حدث في الخرطوم، ويحدث أمر في غاية الأهمية، فلننتبه إلى كل تلك القواسم المشتركة ولنجنح للسلام والحوار العميق، فالتاريخ يرصد أخطاء الشعوب.