التحولات التي حدثت في الساحة السودانية في ظل النظام المايوي فرضت على القوى السياسية المعارضة البحث عن حلفاء وأصدقاء في دول الجوار العربي والأفريقي.. مصر وهي الأقرب جغرافياً ووجدانياً لكل أهل السودان على اختلاف انتماءاتهم السياسية كانت في مقدمة الدول التي سعى حزب الأمة للاتصال بأحزابها وبمثقفيها.. في تلك المرحلة أدار حزب الأمة عملية حوار واسعة وصريحة مع الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، في القاهرة وفي الخرطوم التي زارها بدعوة من الحزب عدد من قادة الفكر والرأي في مصر.
أزالت عملية الحوار الكثير من رواسب الماضي ومهدت لمرحلة جديدة تغيرت فيها الصورة المشوهة لحزب الأمة في الذهنية المصرية.. ولكن ولأسباب غير مبررة رجعنا للمربع الأول الديمقراطية الثالثة.. في هذا المقال إشارات للتغيير الذي حدث في الصحافة المصرية، فيها إشادة بحزب الأمة ودعوة صادقة لإقامة علاقات قوية معه خدمة للمصالح المشتركة للشعبين، فالعلاقة ليست على حساب أحد وغير موجهة ضد أحد، بل على العكس هي تأكيد لتوجه جديد وسياسة قومية يتم إقرارها بمشاركة واسعة من كل السودانيين.
{ حزب الأمة بعيون مفكري مصر
شيخ المؤرخين المصريين الدكتور “يونان لبيب رزق” كتب في صحيفة (الأهرام) عن دور الإنجليز في زرع بذور الفرقة بين شعبي وادي النيل.. مصر الرسمية بإتباعها للتوجه الذي عبرت عنه المذكرة السرية التي كتبها المستر “كين بويد” أحد مخططي السياسة الاستعمارية في دار المندوب السامي البريطاني في القاهرة أسهمت في تعميق الفجوة.. صدرت المذكرة في (14/ مارس 1920م) وجاء فيها: (إن ما يعني مصر في السودان قبل كل شيء وبعد أي شيء.. هو تأمين مصالحها المائية وحماية حدودها الجنوبية).. هذا المنهج ظل يحكم سياسات الحكومات المصرية منذ عام 1920م ولا ندري إلى متى؟! فالحكومات المصرية المتعاقبة باستثناء قلة.. استمرت ترى السودان ولا ترى السودانيين.. سودان المياه والعمق الإستراتيجي وليس سودان البشر بكل مكوناتهم الاجتماعية والثقافية وطموحاتهم السياسية، وعندما كان يحدث وتلتفت هذه الحكومات للسودانيين قبل السودان، كان يتم ذلك في نطاق محدود بل وشديد التواضع.. وحتى لا يبدو وكأنما نطلق الأحكام دونما سند فإن نظرة سريعة لسياسات الحكومات بامتداد العصور الحديثة ستؤكد ما ذهبنا إليه من حكم.
فالذي حكم “محمد علي” في قراره بضم السودان كان تعاظم شبكة الري المصري وما استتبع ذلك من تزايد الإحساس بالحاجة إلى تتبع النيل واكتشاف منابعه.. من هنا كانت أهم الإنجازات التي تمت في عصر “محمد علي”، إنجازات مائية في الأساس من خلال حركة الاكتشاف لمجاري حوض النيل.
أو إنجازات أمنية من خلال ما تم من القضاء على المماليك الهاربين بعد مذبحة القلعة والذين لجأوا إلى السودان ومثلوا تهديداً لاستقرار الدولة التي كان الوالي يقوم ببنائها بهمة ملحوظة.
وأضاف الكاتب: (وكما نلاحظ فإن الحكومات المصرية حصرت نفسها خلال القرن التاسع عشر وحتى قيام الثورة المهدية فيما سميناه بنهج المستر “كين بويد”.. إهمال تام للشعب السوداني وهو الذي دفع بالوالي الرقيق القلب “سعيد باشا” إلى البكاء من ما شاهده من أحوال الناس لدى زيارته للسودان وما أدى إلى أن تقترن تلك الفترة التي سماها السودانيون بعصر التركية في أذهان أبناء السودان بأسوأ الذكريات الغريبة).
ومع هذه الشهادة التي كتبها عالم متجرد نجد في سودان اليوم وفي صفوف القادة من يشيد بالتركية السابقة ويعبر عن اعتزازه بالانتماء لمن أذلوا الشعب السوداني.. قال هذا في وقت يشغل فيه موقعاً دستورياً رفيعاً!!
{ سودان البشر
أشار دكتور “يونان لبيب” إلى استمرار التواصل بين الشعبين عن طريق القوافل التي كانت في حركة دائبة من أقاليم سنار ودارفور ومناطق في صعيد مصر.. ومن خلال أعداد كبيرة من السودانيين وفدوا لمصر للدراسة في الأزهر ثم العودة إلى السودان ليشكلوا وريداً رئيسياً في أوردة العلاقات بين البلدين.
وتحدث الكاتب عن الصلة بين الثورة العرابية والثورة المهدية.. وعن المناضل المصري السوداني “أحمد العوام” أحد زملاء “عبد الله النديم”.. وهو من دعاة الثورة العرابية قبض عليه بعد احتلال مصر وتم نفيه إلى السودان.. وهناك تفاعل مع الثورة المهدية وعمل على ترويج أفكار الثورة، لهذا السبب كرمه الثوار في السودان بطبع كتاب له عام 1888م تضمن أهم أفكاره تحت عنوان (نصيحة العوام للخاص والعام من أهل الإيمان والإسلام). وتطرق الدكتور “يونان” للفكرة الشائعة في مصر وفي السودان وهي أن الثورة المهدية قد فصلت بين السودان ومصر.. الفكرة في رأي د. “يونان” صحيحة على المستوى السلطوي ولهم أسبابهم.. أما على المستوى الشعبي فالأمر مختلف والدليل على ذلك منشورات “المهدي” الموجهة إلى المصريين العلماء والتجار وأصحاب المهن وغيرهم. فيها تقدير لهم إذ تسميهم أهالي الجهات البحرية تأكيداً على غياب فكرة التمايز بين الشعبين. وللكاتب تفسير مختلف للحملة التي قادها الأمير “عبد الرحمن النجومي”.. هذه الحملة بمقاييس نهج السلطة (نهج مستر كين بويد) شكلت خطراً داهماً على حدود مصر الجنوبية إلا أنها من وجهة نظر السلطة الثورية التي كانت قائمة في السودان لم تكن غزواً بقدر ما كانت سعياً من جانبها لتخليص المصريين من حكامهم ومن الأجانب والكفرة.. يؤكد ذلك في رأي الكاتب أمران.. أولهما أن القوة التي قادها “النجومي” لم تكن بأي شكل كفؤاً للقوة التي كانت في انتظارها في توشكي.. وكان الأنصار يعلمون ذلك ويعولون على انضمام المصريين للقوة السودانية.. وثانيهما، أن السلطة المهدية كانت قد تراسلت قبل الحملة التي قادها الأمير “النجومي” مع عدد من المصريين اتفقوا على انتظار الحملة في (بنيان) والانضمام إليها..
غير أن أخبار المراسلات وصلت إلى المخابرات البريطانية التي تمكنت مع منع الاتصال بين الشعبين. وانتقد دكتور “يونان” الأسلوب الذي طرح به شعار وحدة وادي النيل.. فالدعوة للوحدة قامت على أساس حقوق السيادة المصرية، وعلى أن تكون الوحدة تحت التاج المصري من جانب آخر وهو فهم سلطوي في نظر الكاتب، وكانت له آثار سالبة على الوحدة خاصة وأن الجانب البريطاني قد استخدم هذا النهج الخاطئ بذكاء في تحطيم أواصر العلاقة بين الشعبين.. بهذا الفهم استطاع دكتور “يونان” عبر رؤية واضحة للعلاقة بين البلدين إعادة فتح الملفات والدعوة لعلاقات تقوم على أسس جديدة ومقبولة.
في مقال الدكتور “سعد الدين إبراهيم” تحت عنوان (السودان ليس هو النيل فقط) نشر بصفحة الحوار القومي بـ(الأهرام).. تحدث فيه وبصراحة شديدة عن مصادر الحساسية في العلاقات السودانية المصرية، أبرزها عند الكاتب المفهوم النهري للسودان في عقول المصريين.. كل مصر تعيش على ضفاف النيل وفي أقل من (5%) من مساحة مصر الكلية.. إنه نهرهم الوحيد وشريان حياتهم الوحيد.. وبما أن النهر في رحلته من شرق ووسط أفريقيا نحو مصر يمر بالسودان، فإن مصر حكومة وشعباً تتصور أن هذا النهر العظيم يمثل نفس الشيء بالنسبة للسودانيين ومن ثم فهي تنظر للسودان من خلال شطآنه ومع جريان مياهه.. وقد ذهبت مصر عسكرياً للسودان في المقام الأول أيام “محمد علي” لتبحث عن منابع النيل، وأكثر قطاع في المؤسسة الحاكمة والبيروقراطية المصرية اهتماماً بالسودان، وزارة الري تليها وزارة الدفاع.. فكل مهندس ري وكل ضابط مصري يعرف عن السودان أكثر من ما يعرف أي مصري آخر.. ولكن هذه المعرفة تكاد أن تكون مقتصرة على حوض النيل.
السودان بلد مترامي الأطراف.. والنيل في السودان واحد من عدة أنهار وإن كان بالطبع أهمها.. ولا يعيش كل السودانيين على ضفافه فالسودان متعدد البيئات والمناخات.. وينتشر سكانه شرقاً وغرباً بعيداً عن النيل كما ينتشرون شمالاً وجنوباً على ضفافه فالسودان دولة تحمل معها تعددية بشرية وثقافية وسلالية وهناك ملايين من السودانيين الذين ربما لم يروا النيل في حياتهم.
هذا بينما كل مصري يرى النيل ويعيش على ضفافه أو بالقرب منه.. هذا الوحدة مع النهر خلق عند المصريين دولة نهرية مركزية وخلق أيضاً عندهم نظرة أحادية تجاه السودان.. معظم المصريين بمن في ذلك المسؤولون منهم لا يستطيعون تجاوز هذه الأحادية بسهولة.. ربما لهذا السبب نجد أن كل المؤسسات المصرية.. المدارس، البعثات الدينية، المنح الدراسية مرتبطة بحوض النيل ولا يكاد هناك وجود مصري أو شعبي في غرب السودان أو شرقه. لانعدام هذا الوجود يصعب على المصريين معرفة التكوينات الاجتماعية في هذه الأقاليم التي تمثل أكثر من نصف السودان مساحةً وسكاناً.
{ مصر وحزب الأمة
في رأي الكاتب “سعد الدين” أن أحد مصادر الحساسية الأخرى بين السودان ومصر هو العلاقة مع حزب الأمة ومع كيان الأنصار.
أشاد الكاتب بالثورة المهدية.. إذ جاء في حديثه: الأنصار أتباع السيد “محمد أحمد المهدي” الذي ثار على الحكم المصري التركي وأقتلعه في أواخر القرن الماضي وأنشأ دولة مستقلة في السودان الحديث، وحينما احتل الإنجليز مصر عام 1882م حاولوا من خلالها السيطرة على السودان بدعوى إعادة الحكم المصري وقمع الثورة المهدية.. لم تكن ثورة “المهدي” في المقام الأول ضد المصريين. ولكن ضد الحكم الخديوي وإدارته.. وهو الحكم الذي ثار عليه المصريون أنفسهم بقيادة “أحمد عرابي”.. ودون الدخول في تفاصيل تاريخية.. استطاع الإنجليز أن ينشئوا جيلاً كاملاً من الإداريين المصريين الذين عدّوا “المهدي” وأتباعه من الأنصار معادين لمصر.. مع قيام الأحزاب السياسية في السودان كان هناك تنافس روحي وسياسي بين حزب الأمة (حزب الأنصار) والاتحادي (حزب الختمية).. هذا التنافس في السودان لا ينطوي على تعصب أهوج أو صراع مسلح.. وقد رمت مصر تاريخياً خلف آل “الميرغني” وطائفة الختمية، ورعت الأحزاب الاتحادية التي تألفت فيما بينها مكونة الحزب الوطني الاتحادي بزعامة السيد “إسماعيل الأزهري”.. بالرغم من أن الحزبين اتفقا على إعلان استقلال السودان عام 1956م، وأصبح الانقسام بينهما غير ذي موضوع على الأقل بالنسبة لمصر إلا أن الحكومات المتعاقبة استمرت في جفائها لحزب الأمة دون مبرر.
{ مصر والعسكر
أهم مصادر الحساسية بين السودان ومصر في السنوات الأخيرة كان بسبب ما بدا للسودانيين من أنه تأييد مطلق لحكم “نميري” الكريه.. وفي رأي الكاتب أن “نميري” استغل إحدى خواص الدولة المصرية استغلالاً بشعاً لمصلحته ولتطويل مدة بقائه في الحكم إلى أقصى حد ممكن.. وأضاف الدكتور “سعد الدين”: وكما ذكرنا أعلاه فإن مصر دولة نهرية غير تعددية مركزية السلطة.. ولا يستوعب القائمون على جهاز الدولة فيها تعددية الآخرين بسهولة.. وإذا استوعبوها لا يستطيعون في الغالب التعامل معها.. لأن مؤسسة السلطة في الدولة غالباً ما تجد سهلاً عليها التعامل مع مؤسسة مماثلة فإنها تختار هذا الطريق وقد فهم نميري جيداً هذه الخاصية في الدولة المصرية وعقد معها اتفاقيات دفاعية وأمنية كان غرضه الأول منها دعم سلطته هو ضد معارضيه.. وكان من السهل عليه أن يدمغ كل محاولة للإطاحة به بأنها تدخل خارجي.. وبالتالي يطلب من مصر تنفيذ التزاماتها طبقاً لهذه الاتفاقيات.. وقد ساعد “نميري” في ذلك أيضاً أخطاء المعارضة السودانية التي مراراً ما استعاضت بدعم من ليبيا أو إثيوبيا في انتفاضتها عليه.. كذلك غضت مصر النظر طويلاً عن مبالغات “النميري” أو ادعاءاته بتعرض السودان لأخطار خارجية وخاصة من ليبيا، لأن مصر بعد (كامب ديفيد) قررت استمرار النظام السوداني في علاقاته الدبلوماسية مع مصر التي قاطعتها معظم الدول العربية الأخرى.
بعد الانتفاضة ولجوء “نميري” للقاهرة.. خرجت التظاهرات في الشوارع تطالب بتسليمه للسودان لمحاكمته على الجرائم العديدة التي ارتكبها في حق الشعب السوداني.. ولكن لمصر تقاليد وجدت قبل ثورة يوليو واستمرت بعدها، وهي: أن لا تسلم مصر لاجئاً احتمى بديارها أبداً.. حتى أولئك الذين كانوا قد عادوها أو أضروا بها وهم في السلطة في بلادهم.
وفي خاتمة مقاله دعا د. “سعد الدين” إلى فتح الملفات والتعامل مع كل ما يتعلق بالعلاقات بين السودان ومصر بصراحة وبشفافية، ونبه الكاتب إلى أهمية أن تتعامل مصر دون تمييز مع مختلف القوى السياسية خدمة للمصالح المشتركة للشعبين.. وأشار إلى عدد من الدروس وإلى أهمية دراستها بعمق للاستفادة منها مستقبلاً وهي باختصار:
أ. الدرس الأول: أن تكون محاولات التكامل أو الاتحاد بين البلدين من خلال القنوات الشعبية بالطرق الديمقراطية.
ب. الدرس الثاني هو ضرورة أن تتسع نظرة المصريين.. حكومة ومثقفين وأحزاب للسودان.. وأن تتجاوز المفهوم (النيلي .. النهري) الضيق، وعلى المصريين أن يتعلموا الكثير عن السودان وتعدديته الثقافية والسلالية وخصوصياته الأخرى وأن ينفتحوا على كل القوى الأخرى في السودان وأن يعقدوا مصالحة تاريخية مع حزب الأمة وطائفة الأنصار.
ج. الدرس الثالث: هو ضرورة أن يدرك السودانيون حكومة ومثقفين أن مصر الدولة المركزية والمجتمع المتجانس.. ستتعثر أحياناً في فهم مشكلاتهم، وأن عليهم بدورهم ألا يكفوا عن الاتصال بكل القوى المصرية الشعبية والرسمية، وعن الكتابة في الصحافة المصرية عن هذه المشكلات.
د. الدرس الرابع: هو أن تحاول القوى الديمقراطية في البلدين أخذ المبادرة في إعداد مشروعات بديلة للتكامل بين مصر والسودان.. تراعى فيها مصلحة الشعبين.. وأن تطرح هذه المشروعات للحوار الواسع أمام الرأي العام فيهما.. ثم الضغط على حكومتي البلدين لتبني أحد هذه البدائل.. وأن لا يتاخر ذلك كثيراً.. فمعظم مشكلات مصر والسودان الاقتصادية لا يمكن لأي منهما حلها بمفرده.. بينما يمكنهما معاً التغلب عليها.. وفي مقدمة ذلك مشكلات الغذاء، الطاقة والديون الخارجية.
الدكتور “أحمد شوقي” مدرس القانون الدستورى في جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وهو من مؤسسي أسرة وادي النيل وله علاقات واسعة مع السودانيين.. كتب في (الأهرام) عن أهمية توثيق العلاقة بين حزب الأمة ومصر.. وجاء في مقاله الآتي:
(حزب الأمة الذي حاز على أكبر مقاعد في الجمعية التأسيسية دون الأغلبية المطلقة، قام تاريخياً على أساس الدعوة إلى استقلال السودان عن مصر وهو موقف مبدئي لا يمكن لأي منصف أن ينحي عليه باللائمة.. وهناك ملابسات كثيرة منها أحداث الجزيرة أبا التي أسفرت عن مقتل الإمام “الهادي” مع أعداد من طائفة الأنصار مثلت عائقاً نفسياً في مسار العلاقات بين الحزب والحكومة المصرية، غير أن قيادة السيد “الصادق المهدي” لحزب الأمة وهو زعيم له تجربته الكبيرة ويتميز بسعة الأفق تستطيع أن تلعب دوراً كبيراً في إزالة هذا العائق حرصاً على مصالح السودان، حيث تعلو اعتبارات المصالح العليا للوطن فوق اعتبارات العواطف.