رأي

حكايات.. وأغنيات.. وأسرار

الغناء، من منا لا يدندن بأغنية في الحمام أو وهو سارح يقود عربته أو يرخي سمعه لأغنية تبثها إذاعة أو هو راكب في حافلة، أو يقتني تسجيلاً لفنانه المفضل، وأهل السودان يعشقون الغناء كبارهم وصغارهم، ترى ما السر في هذا العشق؟ هل لرهافة أحاسيسهم ورقة مشاعرهم؟ أم لأنهم عشاق طرب ودندنات؟ أم لأن الغناء يعبر عن ذواتهم ويخاطب قلوبهم ومشاعرهم ويحكي قصصاً عاشوها في حياتهم؟ الشاهد أن كل تلك الافتراضات واردة لأن وظيفة الشعر تخدم كل تلك الأغراض، فالشاعر كما عرفه “الخليل بن أحمد الفراهيدي”، لسان حال أمته والمعبر عن أشواقها وآمالها وتطلعاتها، والمبشر بقيم الجمال المطلق، والمحرض للجماعة للذود عن حياض القبيلة والأمة، وحامل مشاعل النور ليضيء لها دياجير وظلمات الحياة، والشعر في كل الأحوال هو ضرب من ضروب الفنون لا يتأتى إلا بالموهبة التي يهبها الله للمبدع الشاعر، فتنداح القصيدة لتعبر عن موقف ومشهد حياتي جمالي، وما يميز الشعر عن النثر أنه يأتي مموسقاً منظوماً في بحر وإطار من الإيقاع الموسيقي بحسب البحر الذي اختاره الشاعر لدفقة مشاعره التي تبلورت في مخيلته الشعر، فقد تأتي القصيدة في بحر الطويل أو البسيط أو الرمل، والبحر الأخير رشيق ويتسم بالإيقاع السريع، وقديماً أُستغل في غناء الموشحات الأندلسية المعروفة، وظلت القصيدة الكلاسيكية شكلاً ومضموناً هي السائدة بتفعيلاتها الكلاسيكية القديمة منذ عهود الشعر الجاهلي إلى أن جاءت خمسينيات القرن الماضي، حيث تمردت الشاعرة العراقية (نازك الملائكة) و(بدر شاكر السياب) وكلاهما من العراق الشقيق، تمردا على عمود الشعر وذهبا ناحية حديثة بأن كسرا عمود الشعر واحتفا بالتفعيلات الداخلية للقصيدة، واحتفظا بموسيقى الشعر الداخلية المنداحة من الإيقاع العام للقصيدة، وذلك لتأثرهما بالثقافة الأوروبية في محاولة لانتهاج نفس النهج الشعري الذي ساد في عصور النهضة.
وعندنا في السودان، سار شاعرنا العبقري العظيم (التيجاني يوسف بشير) في نفس طريق مدرسة عمود الشعر مع الفارق في اتخاذ (التيجاني) نهجاً ما زال موضوع بحوث أدبية تفند عبقرية شاعرنا الفذ نسيج نفسه (يرحمه الله)، فقد غادر الدنيا ولم يبلغ عقده الثالث من العمر مخلفاً لعوالم الشعر ديوانه العظيم (إشراقة)، وانتهج (المجذوب) نهجاً في الشعر هو مزيج بين الحداثة والكلاسيكية، واحتفى بموسيقى الشعر الداخلية ودونكم ديوانه العظيم (نار المجاذيب)، تلك التحفة الشعرية الحافلة بالجمال والأخيلة والتهويمات الصوفية الوجدانية الرائعة والتي لا تخلو من رؤى فلسفية عميقة تأخذ بشغاف قلوب محبي الشعر، انظر لتلك اللوحات الرائعة التي رسمها ببراعة المبدع في قصيدته الرائعة (المُولد): (وهنا حلقة شيخ يرجحن يضرب النوبة ضرباً.. فتئن..) الخ.. القصيدة الرائعة والتي تحولت إلى أغنية مطولة لحنها الرائع الفنان العبقري (د. الكابلي)، والتي ألف لها لحناً موسيقياً حولها بأدائه إلى لوحات جمالية خلدت ذكرى احتفالنا بالحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم). وهناك فناننا الخالد العبقري (عثمان حسين) الذي أخذ من ديوان (التيجاني يوسف بشير) (إشراقة) فشدا بـ(محراب النيل) (أنت يا نيل يا سليل الفراديس). وانتقى الراحل المقيم سفير الثقافة والأغنية السودانية (سيد خليفة) أغنية (أنشودة الجن) (قم يا طرير الشباب.. غني لنا غني.. يا حلو يا مستطاب أنشودة الجن). وهكذا حفلت حديقة الغناء السوداني بباقات من العطر والورود من أشعار خَلُدت حينما تحولت إلى أغنيات حفظتها الملايين من عشاق الشعر الرصين، وإن كان شعراء تلك الأغنيات لم يؤلفوها ابتداءً لتغنى. وها هو (د. حمد الريح) الفنان الجميل انتقى من حديقة شاعرنا الفخيم الراحل (صلاح أحمد إبراهيم) (ليت لي أزميل فدياس وروحاً عبقرية يا مريا)، والأمثلة كثيرة للغناء السوداني الجميل، فها هو (د. كابلي) ينشد للعبقري (إدريس جماع) – يرحمه الله – (ما له أيقظ الشجون فقاست وحشة الليل واستثار الخيال.. ما له في مواكب الليل يمشي يناجي أشباحه والظلالا.. هين تستخفه بسمة الطفل.. قوي يصارع الأجيال.. حاسرُ الرأس.. مستشف من كل شيء جمال)، وانتقى أيضاً من (أبي فراس الحمداني) (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر أما للهوى نهي عليك ولا أمُر؟!). ومن قصائد أستاذنا الراحل المقيم الذي رحل عنا بالرياض الأسابيع القليلة الماضية – له الرحمة – (صديق مدثر) رائعته (ضنين الوعد).
وذهب الراحل (زيدان إبراهيم) إلى الشقيقة (مصر) لشاعر (الأطلال) التي شدت بها سيدة الغناء العربي (أم كلثوم) واختار أبياتاً من قصيدة (الوداع) (داوي ناري والتياعي وتمهل في وداعي يا حبيب الروح هب لي بضع لحظات سراع)، صاغ لها من تأليفه لحناً سكب فيه عصارة موهبته في تأليف الألحان. أما نسيج نفسه من عبقريات الغناء السوداني المرحوم (عبد العزيز محمد داود)، فدونكم عشرات القصائد الدينية والفصيحة شدت بها عقيرته الذهبية من إنشاد ديني وغناء عاطفي (عربدت بي هاجسات الشوق إذ طال النوى). وذاك الفنان الشفيف الراحل (العاقب محمد حسن) يرحمه الله – أيضاً احتفى بفصيح الغناء، فاختار من ديوان الأمير الشاعر – الراحل – (عبد الله الفيصل) (هذه الصخرة.. يا حبيبي ظمئت روحي وحنت للتلاقي.. وهفا قلبي إلى الماضي وناداني اشتياقي). واشرئب الراحل الصداح (صلاح محمد عيسى) إلى بلاد الشام ليختار قصيدة لشاعرهم (الياس فرحات) (يا عروس الروض يا ذات الجناح يا حمامة.. سافري مصحوبة عند الصباح بالسلامة). ومن أشعار أستاذي الجميل (مهدي محمد سعيد) متعه الله بالصحة والعافية، اختار صديقي المرحوم (زيدان) (جميل ما سألناهو.. ولكنَّا هويناه.. بديع في تثنيه.. جميل حين تلقاه).. ولـ(مهدي) أيضاً من ألحان موسيقارنا العظيم (خالي  برعي محمد دفع الله) – يرحمه الله – وأداء الراحل (أبو داود) (إذا حييته بسم). إذا تأملنا هذه النماذج وأمعنا النظر وأصغنا السمع، نجد أننا أمام عبقريات مدهشة توفرت لها كل عناصر الدهشة والجمال، وإن حفظت تلك الأغنيات قطعاً ستعطر وجدانك بأريجها الفواح وتخضر يباب لحظاتك المحزنة بساتين من الأزهار والورد، يفوح أريجها فيعطر أرجاء نفسك الحزينة، ولا يقف الأمر عند الإمتاع الحسي، بل يذهب بك إلى التذوق والإمتاع الروحي، فيرق قلبك ويتزين بقيم الخير والجمال المطلق من حب وإحسان ورحمة ووهج من نور روحاني أخاذ. ولو طوفنا في عوالم العامية الغنائية السودانية نقف على آثار شعرائها الذين رحلوا إلى رحمة المولى عز وجل، والذين هم على قيد الحياة أطال الله أعمارهم، ويأتي أميرنا (صالح عبد السيد) – يرحمه الله – الذي لا يكتفِ بالنظم الجميل، بل يدخل في استعراض قدراته الخارقة في النظر فليتزم لزوم ما لا يلزم في النظم، هاكم رائعته (بدور القلعة) (العيون النوركن بجهرا.. غير جمالكن مين السهرا.. يا بدور القلعة وجوهرا)، أنظر التزامه بالثلاثة أحرف في عجز أي بيت من أبيات القصيدة.. الهاء والراء والألف (بجهرا وسهرا وجوهرا)، ستجد (أبو صلاح) تفوق على معظم أقرانه من شعراء مرحلة غناء الحقيبة، وكأني به يتحداهم أن يأتي أحدهم بنهج في النظم الشعري كالذي التزم به، فالشاهد أن من سبقوه من أساتذتنا في بداياته الشعرية كـ(العبادي) قد أنكروا عليه تميزه وقللوا من قدراته الشعرية، فعكف هو والمطرب المؤلف الغنائي رائد الغناء السوداني (كرومة) فملا الدنيا غناء عذباً رقيقاً يذهب بالألباب. و(بدور القلعة) لها قصة يعرفها المنشغلون بأمر الغناء، أحكيها لكم كما سمعتها من أستاذنا الشاعر العظيم (محمد بشير عتيق): (عزمونا في حي القلعة يا التيجاني.. الحفلة كانت بالرتاين الكهربا مافي.. البنات بقعدن في السباتة البروش وبيقبلن على الحيطة.. الشعرا والفنانين والكورس بيقعدوا في العناقريب.. بدور دي.. قالت وروني أبو صلاح.. لمن شافتو.. قالت: مستهجنة.. الأحوص ده؟! بس!! والخبر وصل لي أبو صلاح وفي نفس اللحظة نظم بدور القلعة..) انتهت رواية عتيق.. انبرى (كرومة) في نفس الحفل ولحن الأغنية وقامت بدور ورقصت فيها.. يا للروعة. و(عتيق) أيضاً له حكايات مع أغنياته، أغنية (هل تدري يا نعسان أنا طرفي ساهر؟! جسمي اضمحل بي غرامك وأنت ساهي.. ليلي ونهاري أنا لي حيك بهاجر.. آخذني نورك يا ساحر المحاجر.. ما بخشى لوم في هواك.. ما بخشى زاجر..).. الخ النص الغنائي الجميل الذي لحنه وغناه (كرومة)، حدثني (عتيق): (تعرف يا تيجاني أنا أخدت علقة سخنه بي سبب الأغنية دي.. في العشرينيات طبعاً.. الأغنية عجبت الناس واشتهرت والملهمة حسناء من بنات الموردة – شاهدتها قبيل وفاتها وهي في خريف عمرها يرحمها الله – والعلقة من أخوانها وأولاد الحلة لأنو عيب في الزمن داك تنظم أغنية في بت معروفة.. بختكم تنظموا هسه على عينك يا تاجر.. ما بخشى لوم في هواك ما بخشى زاجر!!) لله درك يا (عتيق) يرحمك الله أشهد لك وقد عاشرتك سنين عديدة أنك كنت عذري الهوى عاشقاً للجمال وممجداً لخالق الجمال سبحانه وتعالى، وكنت حافظاً للقرآن لم تقارع خمراً ولم تدخن سيجارة وصلواتك في أوقاتها، وعلمتني الكثير. من تلاميذ (عتيق) الفضلى الفنانة (عابدة الشيخ) وهي مطربة ملتزمة بالغناء الجميل، كانت تزورني بالمكتب حينما كنت أعمل موظفاً بضرائب أم درمان بعد نهاية يومها الدراسي، فقد كانت طالبة بالمرحلة الثانوية تحمل كراستها الشعرية، وكان يزورني أستاذي (عتيق)، كنا نجتمع عقب ساعات العمل ونتخذ من ظل شجرة الجميز مكاناً نعقد فيه منتدانا الذي تؤمه كوكبة من نجوم الغناء والشعر تحت ظل هذه الشجرة.. وأحمد لأستاذنا (أحمد خضر الجزولي) مدير المكتب وقتها أنه كان يسمح لنا بعقد المنتدى بل أحياناً يكون أحد الحضور. استمع عتيق لـ(عابدة) غناء وشعراً، فأجازها شاعرة ومغنية، وأعجب بصوتها لا سيما حينما تغني أغنيات الحقيبة التي تحفظها وتجيدها لاسيما أغنيات (عتيق)، فامتلأ شيخنا طرباً وأحياناً تأخذه هزة الطرب فتنهمر الدموع من عينيه: (يا بتي!! أنت لازم تدخلي معهد الموسيقى بعد ما تكملي الثانوي، والشاعر الشين أب دق ده (يقصدني) وأنا بنوديكي المعهد عشان تكوني فنانة كبيرة!).
وبعد إنهائها مرحلة الثانوي ذهبنا معها إلى سلاح الموسيقى لأن معهد الموسيقى كان مغلقاً، وهناك تعرفت (عابدة الشيخ) على الأستاذة الملحنة (أسماء حمزة)، وكانت تلك الثنائية بين (أسماء) و(عابدة)، وفي أول زيارة لهما لـ(عتيق) كتب أغنية لحنتها (أسماء حمزة) وغناها شقيق (عابدة الشيخ) أسامة الشيخ (زيارتك “أسمى” غاياتنا و”همزة” وصل بيناتنا).. إلخ الأغنية – أنظر إلى الكلمتين بين الأقواس وهذا ما يعرف بالتضمين، فقد ضمن (عتيق) اسم (أسماء حمزة) دون خلل في سياق معنى أن من أسمى غاياته زيارة المحبوبة والتي تعتبر همزة للوصل بين الأحبة، وللحديث مواصلة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية