نأسى لبيروت
ضاقت بيروت مدينة الصحافة والسياسة والتسامح والتصافي والحب والحرية (ضاقت) بوجود طفل أسمر اللون (أسود) بين أطفال روضة لتنشئة جيل قادم ولفظت بيروت الطفل الصغير.. وقد تقهر الوعي اللبناني وحط بها زمان الإنحطاط.. ولبنان ترفض أن يبقى ذلك الأسمر بين أطفالها في روضة تنشئة ثارت أمهات الأطفال غضباً وجذعاً من الطفل (الأسود) ورفض آباء الأطفال أن تحتضن الروضة ذلك الطفل تعالياً عرقياً.. وانحطاطاً أخلاقياً.. لبيروت التي كانت.. وبيروت التي صارت!! بيروت التي كانت ملاذاً للباحثين عن الحريات العامة والمطرودين من حكم العسكر ودكتاتوريات الأيدولوجيات.. وعشائرية الممالك.. فتحت بيروت في سنوات وعيها أبواب بيوتها وفنادقها وصحائفها وأبواق الإعلام الحُر لكل العرب.. ولاذ إليها المثقفون من كل العواصم.
كانت بيروت وطناً لـ”نزار قباني” و”بدر شاكر السياب” و”محمد مهدي الجواهري” و”يوسف الخال”.. وبلندن “الحيدري”.. و”محمد سعيد أدونيس” و”الفيتوري”.. و”علي عقله”.. وبيروت هي الملاذ للمفكرين العرب وغير العرب.. يطوف على منابرها.. “نايف حواتمة”.. و”جمال الغيطاني”.. و”ميشيل عفلق” و”صلاح الدين البيطار”.. ولا تميز بيروت بين القادمين من بلاد الرافدين.. والعاشقين من اليمن السعيد.. والمعجبين من الخرطوم الذين شكلت بيروت جينات انتمائهم ثقافياً لهذه الأمة العربية وحضارياً للإسلام وجغرافياً لأفريقيا التي تحتضن ثلاثة أرباع العرب.. وبيروت التي كانت تغذي شرايين الثقافة والعلم وتصدر السفير والنهار والآداب البيرويتة التي احتضن يوماً بشاعر أمتهن (التجارة) في مدرسة حنتوب الثانوية بالجزيرة هي بيروت التي توصد أبواب رياض أطفالها في وجه صاحب بشرة سمراء.. ولم يتعلم اللبنانيون من تجاربهم في بلاد الله الواسعة.. وقد كانوا سفراء في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا تجار أذكياء يجمعون المال لوطنهم ولأسرهم وبلادهم يضربها الفقر والعوز والفاقة.. وكانت الخرطوم واحدة من المدن التي فتحت ذراعيها لأهل لبنان الباحثين عن لقمة العيش.. ولكن أولى خيبة أمل السودان في سكان لبنان كانت يوم اختيار الآباء الأوائل من القادة السياسيين الانضمام لجامعة الدول العربية.. وفجع “محمد عشري الصديق” كما عبر عن ذلك صراحة وبأسى أن لبنان بكل وعيها رفضت أن يصبح السودان دولة عربية وسجلت تحفظها في دفتر التاريخ.. وجاءت اعتذارات المثقفين اللبنانيين من بعد ذلك تترى.. بنيل “صبيقة” و”الياس الخوري” ولكن لبنان التي كانت لنا مثالاً.. وواحة للفكر والحرية.. والديمقراطية تقهقرت اليوم إلى عصر الإنحطاط.. وهي ترفض أن يبقى طفلاً أسمراً بين أطفالها في روضة تنشئة.. لأن لبنان فخورة ببياض بشرتها أكثر من فخر الدغارك التي مثلها في كأس العالم الأخير بروسيا لاعب مهاجر أصوله من تنزانيا وآخر أصوله من يوغندا.. وبالمناسبة أغلب ثروات الرأسمالية اللبنانية تم اكتنازها ما بين دماء المظلومين وعرق المقهورين في الكنغو وزنجبار وغانا.. وقد نهبت الرأسمالية اللبنانية ثروات السمر الأفارقة وهي تتحالف مع الأنظمة الدكتاتورية الباطشة بشعوبها.
هل انتهت فضيحة لبنان الأخلاقية في واقعة الطفل الأسمر بالبيان الهزيل الفقير.. الذي أصدره الملحق الإعلامي بسفارة السودان بيروت بعد أن أثيرت القضية في الصحافة السودانية؟ وماذا فعلت الخارجية غير ذلك البيان المخذي الذي كتبه “أسامة عبد الرحيم الخليفة” الذي يمثلنا هناك؟ ولماذا لم يستدعِ السفير أو القائم بالأعمال هنا.. ويتم إبلاغه بقرار طرده من الخرطوم التي طردت من قبل السفير البريطاني حتى تدرك بيروت أن قضايا التميز العنصري. لا يمكن السكوت عليها.. وتجاوزها بكلمات معسولة وابتسامات خادعة.