تقارير

(49) عاماً على ثورة (مايو).. قراءة في أفكار “منصور خالد” حولها

بقلم – د. إبراهيم دقش
“منصور خالد” يعترف بأن خلافه لم يكن حول الميثاق بل مضمونه.. ولم يكن حول التنظيم الواحد بل محتواه.. ولم يكن حول العزل السياسي بل حدوده!
بعض من أدانوا (مايو) بعد سقوطها لم يفرقوا بين (مايو) الشهر و(مايو) “نميري”!
الخدمة المدنية ما أصابها في (مايو) 1969م كان امتداداً لما وقع لها في أكتوبر 1964م.. وكان تصفية حسابات أو غيرة مهنية أو مزايدة انتهازية بالثورية من قبل (نخبويين)
جامعة الخرطوم لعبت دوراً طوال تاريخ النظام المايوي فمنها جاء بعض أميز وزرائه كما جاء منها أتعسهم وأكثرهم نفاقاً!
التأميم والمصادرة صاغ قراراتهما اثنان وكانت (اختباطية) وعنصرية!!
د.”منصور خالد” في سفره (النخبة السودانية وإدمان الفشل) تحدث عن فترة حكم (مايو) 1969 – 1985م، وركز على التنظيم السياسي للنظام بشيء من التفصيل، قائلاً إن الإعلان الرسمي عن التنظيم السياسي في العيد الأول لثورة (مايو) رغم أن الحوار الوطني حول التنظيم سبق ذلك بمشاركة متفقين فيهم من كان في قلب النظام، ومن سعى لتأييده طواعية، وضرب أمثلة بكتب أو مقالات ظهرت في هذا المنحى لـ”أنور أدهم” و”يوسف بشارة” و”سعيد المهدي” بل ودكتور “عثمان سيد أحمد” وإن عدّت تلك اجتهادات فردية فإن الرأي القاطع حول التنظيم السياسي ورد في الميثاق الوطني الذي أقرته اللجنة الشعبية للميثاق برئاسة القاضي “صلاح حسن”. وحسب ما قال المؤلف فإن لجنة شعبية أنيط بها مناقشة الميثاق، وإن الكتلة المؤثرة داخل تلك اللجنة كانت من المنتسبين لليسار، ولم تخل أيضاً من العروبيين الذين لم يكونوا بأقل حماس من اليساريين بتنظيم الفرد وتوجهه الاشتراكي.. وأشار الكاتب للمؤشرات الرئيسية في الميثاق مثل كفالة الحريات الأساسية بمنطق الثورة وتأسيس ديمقراطية جديدة والرفض لنمط الديمقراطية الغربية.. ويتعجب بأنه كانت تلك تصورات نظام (مايو) للوحدة الوطنية والديمقراطية يوم أن كان دعاته وحماته لا “سدنته” هم القوى الديمقراطية.. وهو- كما قال – تصور يرفض نهج الديمقراطية الغربية التي دعت لها نفس القوى في أبريل 1985م- بعد سقوط (مايو)- ومهما يكن، فقد كانت الدعوة للتنظيم السياسي الفرد تريد له أن يكون المهيمن حتى على جهاز الدولة بإبعاد العناصر الفاسدة منه بتهمة معاداة حركة التغيير الاجتماعي، وهو نفسه ما سمته الأدبيات السيارة بعد سقوط نظام (مايو) بالفصل التعسفي!! إلا أن المؤلف يعترف بأنه كان من أول الدعاة، بل المبشرين بالدعوة للتنظيم السياسي الأوحد منذ فبراير 1965م، حين نشر مقالاً بجريدة (الأيام) بعنوان (الهيكل الدستوري بين الحزب الواحد والجبهة المتحدة) مضيفاً إن خلافه في بدايات (مايو) لم يكن حول الميثاق بل مضمونه، ولم يكن حول التنظيم الواحد بل حول محتواه، ولم يكن حول العزل السياسي بل حدوده.. ويستشهد الكاتب بمؤلفه في منتصف الثمانينيات (السودان في النفق المظلم) الذي دعا فيه للتعددية الحزبية بمحاذير محددة، ونظام نميري المايوي قائم، وقال إن ذلك كان شأنه حين كتب مقالات (لا خير فينا إن لم نقلها) أول الثمانينيات عدد فيها مثالب الديمقراطية الحزبية في نظام الحزب الواحد.. وكل ذلك كما يدفع د.”منصور” يصب في خانة.. (حق المرء في نقض قوله).
وتناول المؤلف مسألة الحريات الأساسية بين الأمس واليوم، بين عهد (مايو) الذي حسم حرية التنظيم باتخاذه للحزب الواحد لكنه أفصح عن رؤيته لحرية التعبير وحرية التنقل وحرية الملكية في إطار ما سماه سيادة القانون، هذا إضافة لاستقلالية القانون وحيدة الخدمة المدنية.. وتساءل عن إفراط البعض في الحديث عنها عقب سقوط (مايو) من موقع الإدانة، عن ماذا يعنون بـ(مايو).. الشهر أم “نميري”، وإن كان الأخير هو صانع كل تلك الجرائر.. وفي هؤلاء البعض- كما يقول – من أراد تجويف مخ الأمة وإلغاء ذاكرتها الجماعية.. وأبان المؤلف في شيء من التفصيل والإيضاح عن أين كان يقف هذا البعض من هذه القضايا في مطلع عهد (مايو)، بل وفي حالة جزء منهم طوال أقماره المتواليات، واصفاً إياهم بأنهم قوم يعاكسون كلامهم ويردون الأمور آخرها على أولها.. وأبحر الكاتب بعد ذلك إبحاراً تفصيلياً في تعامل نظام (مايو) مع الحريات الأساسية بدءاً بالأمر الجمهوري الرابع الذي يجعل من أي عمل يتعارض مع دستور النظام أو أهدافه أو برامجه عملاً يعاقب عليه فاعله بالإعدام ومصادرة الممتلكات.. ويزيد على ذلك بمعاقبة الساعين إلى تفتيت الوحدة الوطنية أو تقويض النظام أو النائلين من أهداف الثورة الاشتراكية أو عرقلة مسيرتها، ودخل في ذلك تحريم الإضرابات بحجة أن التناقض قد زال بين العاملين والسلطة! وحمل “منصور” على فئة من المحامين الذين عكفوا على صياغة الأمر الجمهوري المشار إليه باعتبار أنه لا يجب ترك من سعى منهم للازورار والتزوير، الازورار عن دوره ومسؤوليته والتزوير لتاريخ ما زال شهوده أحياء! وفي حديثه عن حرية التعبير في عهد (مايو) قال إن أول ما صنعته الديمقراطية الجديدة هو قرار تأميم الصحف في سبتمبر 1970م، أما التطهير فقد أوفاه حقه، قائلاً إن ما أصاب الخدمة المدنية في (مايو) 1969م لم يكن إلا امتداداً لما وقع لها في أكتوبر 1964م.. ففي أكثره كان التطهير تصفية حساب أو غيرة مهنية أو مزايدة انتهازية بالثورية قام بها، على حد قول المؤلف، نخبويون هم عماد الثورة أكتوبر وجنود ثورة (مايو) وحماة انتفاضة (أبريل) مع تبدل الشعارات في الحالات الثلاث.. فهي التطهير واجب وطني في الحالة الأولى، وهي التطهير لمن تسول له نفسه تعويق الثورة في الحالة الثانية، وفي الحالة الثالثة التطهير عمل تعسفي حتى وإن كان أولئك المفصولون تعسفياً هم “معوقو الثورة” بالأمس على لسان نفس الدعاة.. وفي إطار التطهير يدلف المؤلف للجامعة من بوابة الحرية الأكاديمية، مؤكداً أن جامعة الخرطوم لعبت دوراً مهماً طوال تاريخ النظام المايوي، فمنها جاء (بعض أميز وزرائه، كما جاء منها أتعسهم وأكثرهم نفاقاً).. وكانت الجامعة – كما قال – قطب الرحى في مناشط النظام الفكرية على اختلاف المدارس وامتداد المايوات، كما أنها كانت بؤرة المناهضة للنظام، وعلى امتداد العهود.. وفصل في هذا كيف أن الجامعة انحازت للنظام انحيازاً صريحاً منذ اليوم الأول (تحقيق إقامة مجتمع علمي سليم تسوده حرية البحث والفكر ويكون ولاء المنتمين له أساتذة وطلاباً لرسالة العلم أولاً وأخيراً).. لكن المؤلف يقف هنا بأن ذلك كان يمكن فهمه على أنه دعوة للحرية الأكاديمية (الليبرالية) مثل تلك التي أخذ الجامعيون يلهجون بها منذ أبريل 1985م، سوى أنها مضت إلى (أن التغييرات الضرورية إنما أملتها اعتبارات علمية وتربوية دعت إليها التغييرات الأساسية التي طرأت على حياة المجتمع السوداني صبيحة 25 مايو، يوم رفض الشعب طريق التخلف والليبرالية)، وربط المؤلف بين هذا وتطهير الجامعة، التي أبى رئيس مجلسها القاضي “صلاح حسن” أن ينسب له وعلى رأسه القائمة علماء مثل “منصور علي حسيب” و”عبد الله الطيب” و”زكي مصطفى” و”فريد عتباني”.. فصدر بها قرار من مجلس قيادة الثورة من خلال مجلس وصاية ثوري من بين الأساتذة، والذي عقد (115) أستاذاً جمعية عمومية في فبراير 1970م، وعزلوه واتهموه بأنه منذ انفجار (مايو) جمد نشاط الأساتذة وحبس طاقاتهم من المساهمة في البناء الاشتراكي ما دعا رئيس المجلس المعزول للتصريح بأن التجمع الجديد هو للعناصر المضادة للثورة.. ويستقرئ المؤلف من ذلك أنه في كل ذلك اللغط الاشتراكي، لم ترد كلمة عن الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعة أو حرية البحث العلمي.
وفيما سماه قضايا الحكم الحقيقية خلال (مايو) الأولى، يقول المؤلف هي أنماط التنمية التي تتحقق عبرها الكفاية والعدل، مناهج الإدارة في بلد قاري كالسودان، معالجة مشكلات القوميات والريف، الطبيعة التعدية للمجتمع السوداني وانعكاساتها على السياسة الخارجية، ووقف طويلاً عند هذه القضايا وفق رؤيته مع عرض للاختلاف حولها، لكنه في إشارة للميثاق الوطني لـ(مايو) قال إنه أريد له أن يحقق الوفاق السياسي والفكري بين نصراء الثورة، لكنه جاء في النهاية أبعد ما يكون عن اصطلاح على قاسم مشترك أعظم.. واستشهد بالجدل البيزنطي حول المفاهيم والاصطلاحات المنسوبة للثورية بدلاً عن الحديث عن البرامج العملية لتحقيق التغيير في حياة الناس المعيشية، وضرب مثلاً بالجدل حول هوية (مايو) أهي ثورة أم انقلاب.
وتحدث المؤلف عما وصفه بطريق التنمية غير الرأسمالي الذي وعت له (مايو) الأولى، وانتهى بعد عرض وافٍ موثق لما كان يحدث، منتهياً إلى أن الأمر انتهى بالناس إلى المزايدة بالشعارات في غيبة الإنجاز العلمي وربما ما أطلق عليه تعبير الشعارات المطروحة نفسها أو العشوائية التي تهز كيان الاقتصاد كله هزاً عنيفاً.. إلا أنه ذكر أن رؤية (مايو) لطريق التنمية غير الرأسمالي تمثلت في:
السيطرة على وسائل الإنتاج – استغلال الثروات الكامنة في البلاد – توسيع قاعدة قطاع عام قادر على قيادة التقدم الاقتصادي – توجيه القطاع الخاص ليشارك في خطة التنمية – خلق قطاع مشترك – دعم قاعدة القطاع التعاوني.
كما ذكر أن قرارات التأميم والمصادرة صاغها في (مايو) الأولى رجلان “أحمد سليمان” المحامي و”أحمد الأسد”، ووصفها الكاتب بأنها كانت اختباطية، ودلل على عنصريتها أيضاً إذ إنها طالت سودانيين أنكرت عليهم سودانيتهم لسبب أصولهم القديمة، وحمّل الحزب الشيوعي مسؤولية ذلك الطرح النظري لقضايا الاقتصاد السوداني وسبل معالجتها من منظور بلشفي.. وروى “منصور” أن زيارة الصين التي قام بها “نميري” ما أثمرت إلا بعد أن أبعد “النميري” وزير خارجيته وقتها “معاوية سورج” عن المفاوضات لأن “شو إن لاي” رئيس وزراء الصين قال لـ”نميري” إن وزيرك عندما كان يمثل حزبه صوت مع طردنا من منظومة الدول الشيوعيية!
وقد قصد المؤلف أن يصل بالأمر لهذا الحد لأنه سيتعرض للصراع الشيوعي- المايوي.
كان الصراع بين نظام (مايو) والشيوعيين خفياً وعلنياً، حسب رواية المؤلف.. وانتهى بانقلاب 19 يوليو 1971م الذي عاش لثلاثة أيام فقط عادت بعدها (مايو).. ويرى د.”منصور” أن اتهام الحزب الشيوعي السوداني وحده بتدبير انقلاب 25 مايو 1969م لا يسنده دليل، كما القول بأن بقاء النظام على مدى (16) عاماً ما كان ليتم لولا تأييد ذلك الحزب له في بداياته لا يمثل إلا نصف الحقيقة، وبنفس القدر فإن ما يوحي به الشيوعيون بأن كل ما جاءت به (مايو) شر مستطير، بما في ذلك ما شاركوا فيه، لا يستقيم مع المنطقة.. لكنه حمد لهم مناقشتهم بصراحة لعلاقتهم بنظام (مايو) عقب سقوط ذلك النظام.
لماذا لا تقرأون “منصور خالد” الآن وبمنظور مختلف؟؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية