مع الشماشة.. كانت لنا أيام
شجرة البرتقال تثمر برتقالاً.. وشجرة الحنظل تنبت حنظلاً.. هذه قوانين الحياة.. المفارقة في هذه النتيجة البديهية والخارقة لهذا القانون أن تنبت شجرة البرتقال حنظلاً.. طيب ليه المقدمة الفلسفية البديهية؟! زمان في مدرس في بخت الرضا قال لينا نظريات الفلاسفة جاءت من مثل هذه البديهيات.. طيب لغاية هنا، كويس.. (حنكك شنو يا عمك؟!) والجملة بين القوسين استلفتها من مفردات بعض أصدقائي الشماشة وهم ينطقون الحكمة أحياناً..
وبمناسبة الشماشة الذين أخالطهم كثيراً واستوحينا منهم أنا وصديقي الممثل الجميل وأستاذ الدراما (عبد الحكيم الطاهر) والفنان والملحن وأستاذ الدراسات (محمد عجاج) مسرحية استعراضية جعلنا عنوانها (سمكة بت خيت الشلة) وهي بطلة المسرحية الاستعراضية الغنائية الراقصة، كان ذلك في بدايات تسعينيات القرن.. ولعلم القارئ الكريم اخترنا كل طاقم المسرحية من نزلاء دار الهداية بسوبا، والموضوع كان بالنسبة لنا تجربة فريدة ورائعة، وقد أنفقنا شهوراً في تدريب أولادنا وبناتنا الذين رمتهم الأقدار في دار التوبة، والليلة طلعت في رأسي أحكى للقارئ الكريم قصة مسرحية (بلطية بت خيت الشلة) .. حكي لي صديقي الفنان المسرحي بأنه تقدم بمقترح لمنظمة صباح بمشروع المسرحية التي تستهدف ذلك القطاع من الناشزين الذين اقترفوا جرائم وهم قُصر لم يبلغوا سن الرشد.. استهوتني الفكرة لأن موضوع أطفال الشوارع (حابك في رأسي) للدرجة التي صرت قريباً منهم، وكثيراً ما قضيت ساعات معهم في أزقة أم درمان شرق سينما الوطنية وسينما أم درمان، إذ إن تلك الأزقة تعتبر من المقار الرئيسية لتواجدهم نهاراً وليلاً.. عالم من حياة شاقة ومؤلمة وحزينة وتقطِّع القلب.. وكثيراً دونت من عالمهم ولم أجد مشقة في التعرف على الكثيرين منهم ومنهن ومصادقتهم، وكان يعتزون بتلك العلاقة.. (يا فردة) .. الدكتور ما جا؟) الدكتور ده أنا.. والسؤال موجه إلى أحد أصدقائي من أصحاب المحال التجارية العديدة بالقرب من تلك الأزقة.. وأحياناً يوصون أستاذي الشاعر المرحوم (عوض جبريل) الذي يأتيني مخصوص ليبلغني (الجماعة بسألوا عليك) وأهرع إليهم.. (شنو القشرة دي يا فردة؟) الليلة ما شين نسمع سيدا.. الحوت يا عمك) ويغادر بخطوات راقصة وإيقاع لن تجده عند أجدع راقص في أمريكا.. كم يا ترى عدد صبية وصبايا الشوارع؟ بالطبع لا نملك إحصاءً دقيقاً لكن الأرجح أن عاصمتنا المثلثة لديها القِدح المعلى.. “بكسر القاف” وليس بفتحها، فالقَدَح بفتح القاف تعني صحن طعام مصنوع من الخشب وفي الخشب أنواع محددة.. طيب القِدح بكسر القاف شنو؟ هو السهم المميز بين السهام المحفوظ في جراب الصياد والذي يدخره ليوم كريهة.. والغريب هنالك من يعتلون المنابر (وفلان له القدح المعلى فهو الذي فعل كذا) الخ كسير الثلج.. بالطبع كان حري به لو كسر القاف عشان يكسر الثلج صاح.. بالمناسبة القدح رأيته في مطاعم أوروبا فقد أثبتت الدراسات العلمية أنه الإناء الوحيد بين الأواني بأصنافها المتعددة الصحي والصالح لتقديم الطعام.. بالمناسبة القدح سوداني مية المية صنعه إنسان السودان قبل سبعة آلاف سنة قبل الميلاد، ولو مغالطني أمشو شوفوه في المتحف القومي. وبالمناسبة ليه ما قاعدين نمشي المتحف القومي لندرك عظمة الأجداد والتاريخ؟!.. تخيلوا الخواجة يدخر الدولار مع الدولار ويجييء من آخر الدنيا ـ فقط ـ ليقرأ تاريخنا ويشاهد آثارنا.. والله العظيم كارثة.. بالمناسبة أضعنا كثيراً من معارفنا التقليدية والتي تشكل لأمتنا ثروة تقيم بالمليارات والتريليونات من الدولارات.. كنا أصحاب أضخم صيدلية طبيعية على امتداد المليون ميل مربع.. عارف!! ..نقص المليون والله يجازي الكان السبب.. لكن برجع مليون ميل مربع.. متين؟ الله أعلم..
فالمحريب والقضيم والكركدي والقنقليس والحنظل والقرض و… و .. مئات الأنواع من الأعشاب كان أسلافنا يستعملونها للتداوي واليوم نجأر بالشكوى للغلاء في أسعار الأدوية!.. متى شربت عزيزي القارئ نشا؟ بالقضيم؟ أها المديدة بالقضيم قال عنها العلماء والأطباء ما لم يقله مالك في الخمر وعددوا أفضالها الصحية، بالمناسبة وزارة الصحة وأقسام الأبحاث والمعامل الصيدلانية وأولادنا الذين واللائي تخرجوا في كليات الصيدلة ما في طريقة تلحقوا باقي المعارف التقليدية والجينات الوراثية وتصنعوا لينا بعض الأدوية، شوفوا القرض والسنة مكة والحرجل.. امشوا الخلاء والبراري.. شيلو معاملكم .. ولكم في دولة الصين العظيمة أسوة حسنة.. صيدلية المستشفى الصيني عامرة بالأعشاب المداوية وتلك معرفة توارثوها وحافظوا عليها وتداووا بها.. (صاحبي ده، مفتري، ركبوهو طارة وشربو سجارة.. صاحبي ده مفتري، جابولي عسكري.. شربوهو بيبسي ركبوهو تكسي.. ودوهو حراسة.. أكلوا قراصة..) أغنية جميلة ألفها أطفال الشوارع نصاً ولحناً يغنونها في فرح ويرقصون عليها ويكتلوا الهم بالفرح.. طيب الشماشة ديل ما أولادنا وبناتنا؟ وشاءت أقدارهم أن يكونوا بوضعهم هذا؟ أعلم هنالك مؤسسات حكومية مختصة ودراسات وأبحاث وقيامة رابطة، لكن الحال ماشي للأسوأ!!..
جاءتني فكرة، لماذا لا نجعل من مساحات الأرض حول ضفاف النيل الأبيض والأزرق مزارع يزرعها الشماشة؟ ودراسة الجدوى بسيطة وتكلفة المشروع زهيدة وأرباحه مضمونة.. نجمع هؤلاء الأبناء والبنات الشماشة ونقيم لهم معسكرات على امتداد الشاطئين ونستجلب طباخين مهرة وشوية مهندسين زراعة وتقاوي بطيخ وشمام وطماطم وعجور وخيار ونتوكل على الحي الذي لا يموت وتبذر البذور في الأرض الطيبة.. فتنبت دون مشقة أو عناء بقليل من الجهد، فالأرض طين مبارك والسواعد شابة والماء متاح تحت الطمي وعلى مجرى النهرين العظيمين والأمسيات ترويح وترفيه وتعليم ومحاضرات وعيادات صغيرة ورواكيب وكرانك وقطاطي وألحفة ومشرفون يعولون على إصلاح هذا الكم الهائل الذي يعيش في هامش الحياة ومولدات كهرباء ومعدات رياضة وسباحة.. بالله لا تحبطوني بالحالة الاقتصادية المتردية، فلنبدأ بمائة شاب بمعسكر جنوب جبل أولياء. أها.. نسيت السمك.. لو اصطاده الشباب سيوفر فاتورة اللحم.. وخلونا نشوف التلات شهور الأولى من التجربة ولا نستعجل النتائج، والمؤكد أننا بقليل من الجهد والإيمان بالفكرة سيصبح هؤلاء الشباب في رغد من العيش وسيكفون أسواقنا المحلية من إنتاجهم الذي أتى أكله دون سماد.. وشجرة البرتقال تثمر برتقالاً.. والسودان سلة غذاء العالم رجاله كده.. زمان ونحن صغار في الدويم علمونا في بخت الرضا الزراعة في مساحات من الأرض متواضعة زرعنا مثل تلك المحاصيل وحصدناها وبعنا منها وذهبنا بها لأهلينا فرحين وذلك العمل كان على هامش اليوم الدراسي .. ها!!.. أرجع بيكم لمسرحية أطفال الشوارع (بلطية بت خيت الشلة) لنكتب السيناريو والحوار، أنفقنا أشهراً لدراسة لغة الشماشة (الرندوق) لنستخدمها لغة للمسرحية يعبرون بألسنتهم عن أحداث المسرحية لتتم الحبكة والمعالجة وفق ظروف الشماشة لتحقيق الأهداف المرجوة من النص المسرحي فكتبناه غنائي عبارة عن لوحات استعراضية تتنامى فيها الأحداث لنخلص للمعالجة الدرامية ومن مفرداتهم – سلخ الجِّلدة تعني: سرق المحفظة.. والجلكين يعني الرجل العجوز.. والفارة .. زميل شماشي داقس..
في يوم من الأيام والدنيا صيف والزحمة والناس في الرصيف.. حسيت بطعم الكون نزيف.
ودخلت في زحام المدينة.. عرفت كل الأرصفة وكل الجخانين الحزينة.. لكني وين ألقى سكينة؟ وأحلامي ديك الممكنة صبحت حزينة ومؤلمة.. لا صنعة لا تعليم.. بس سرقة للبنزين أو محفظة مسكين. أو كوشة بين شارعين .. وتعسيلة عصرية في رملة الشاطئ أو جلسة يوماتي وأشوف فلم أو رقصة جالوه.. والمقاطع الأخيرة هي نموذج للأغنيات التي قدمناها في المسرحية والتي وضع لها الألحان صديقي الموسيقار العبقري محمد عجاج.. وذهبنا إلى دار التوبة بسوبا واخترنا طاقم المسرحية من نزلاء الدار وفتحنا ستار المسرحية وبكى الحضور والممثلون وضحكوا ملأ أشداقهم وباتت دار الهداية والتوبة، تلك الأيام في هدوء وسعادة واطمئنان وتخرج فيها عدد من أبنائنا صناعية مهرة يكسبون أقواتهم من عرق جباههم .. فلنزرع أشجار البرتقال..