الصديق الأستاذ الصحفي “موسى السراج” لم نلتقِ منذ أمد بعيد وكنا لا نفترق في أيام الصبا في سبعينيات القرن الماضي.. في ذلك الزمان أصدر “عيسى” (زهرة الأغاني) إصدارة أسبوعية لا تتجاوز صفحاتها عن اثنتين وعشرين صفحة، وثمن النسخة خمسة جنيهات، وهي عبارة عن مجموعة أغنيات لأحد مشاهير الغناء السوداني.. ورق الزهرة ورق الصحف.. وطباعتها بالمطبعة اليدوية والحروف تجمع باليد.. و”موسى” كان وحده القائم على أمر الزهرة، وهو رئيس التحرير والمشرف والموزع للزهرة.. وقد كانت توزع أعداداً مقدرة وتصل إلى مكتبات عواصم الولايات وينتظرها قراءها على أحر من الجمر، لاسيما الشباب المحب للغناء والطرب.. وكان يهديني نسخة مجاناً فقد كنت أساعده بالرأي ويتشاور معي في مادة الزهرة.. كانت تصدر لفنان تتصدر صورته غلاف المجلة.
كنت ولا زلت معجباً بصديقي “عيسى” فقد كان مثابراً جريئاً لا تفتر له عزيمة، وللرجل هدف ثقافي لا تخطئه عين وله الفضل في التوثيق للأغنية السودانية الحديثة.. والزهرة كانت تتطور يوماً بعد يوم حتى كادت أن تنافس مجلة الإذاعة والتي كانت توزع آلاف النسخ وتخصصت كمجلة تعني بالثقافة والشعر وأخبار نجوم الطرب والغناء، وأخبار الإذاعة ولاحقاً أخبار التلفزيون.. ولعلها هي المرة الأولى التي يكتب فيها ثناءً لرجل خدم الثقافة.. ولا أعلم لماذا توقف صديقي عن إصدار (الزهرة)، لكن قطعاً هي أسباب مادية برغم تطور تقانة الطباعة، وعلى كل حال شكراً جميلاً لك أخي صاحب الزهرة.. أكتب هذا المقال بعد أن كنت أقلب أعداداً قديمة وأجتر ذكريات تلك السنوات الطيبة.. وتحتوي الإصدارة على صور المعجبين من قراء (زهرة) الأغاني وإهداءاتهم للأغنيات المحببة إليهم وتحوي أيضاً ريبورتاج لأحد النجوم.
والعدد (111) من زهرة الأغاني صدر في يوليو 1989م، في السنة الخامسة للزهرة وكان الجزء الأول للمطرب الكبير الراحل “سيد خليفة” وحوى العدد لحوار فني أجرته معه مجلة الإذاعة والتلفزيون بتاريخ 4 مارس 1965م، وأورده “موسى” بالمجلة ورأيت إعادته كما هو وكما نقله صديقي “عيسى”.
الفنان الذي ذاق مرارة الغربة والبُعد عن وطنه، الفنان الذي عاش سنين طوال من أجل التحصيل الفني، “سيد” الذي هاجر من أجل الفن ومكث هناك في القاهرة في قلعة النور والفن يتعلم الموسيقى ويدرس أحوالها.
“سيد” الفنان المسرحي المعروف الذي فاز بلقب فنان السودان الأول، التقينا به ودار بيننا حديث حول الفن بوجه عام، وقد سبقنا “سيد” بنكاته الطريفة وكلماته المرحة التي تصدر من أعماقه في غير تكلف.. سألناه:
{ أيه يا “سيد” آخر أغنياتك؟
أغنية الشاعر “إدريس جماع” اسمها (عتاب) .
{ طيب ما هي الأغنية التي ترسمها لتكون أغنية الموسم؟
الحقيقة لكل الزملاء أغنية تعتبر أغنية الموسم مثال ذلك (ضنين الوعد) و(الطير المهاجر).
{ هل تعتقد أن جمهورك الفني يرتاح للأغنية الشعبية أم الأغنية الحديثة؟
إن للأغاني الحديثة لوناً خاصاً وطعماً خاصاً، أم الأغاني الشعبية فهي في دم الشعب. ودم كل سوداني، وهي غالباً ما تتحدث عن الفروسية أو الشجاعة أو المروءة والشهامة، ولذلك نجد الجمهور يرتاح لها ويتجاوب بصدق وأمانة.. ودون زيف أو رياء.
{ وسألنا الفنان “سيد” هناك قولان.. الفن للفن والفن للحياة فما هي وجهة نظرك في هذين القولين؟
قال: بكل تأكيد إن الفن للحياة.
{ طيب يا “سيد” لم يبق لنا سوى سؤالين الأول.. ضع لنا “محمد الأمين” و”الطيب عبد الله” في الميزان؟
اسمع يا عزيزي “محمد الأمين” فنان بدأ يلمع في الأيام الأخيرة وبدأ الناس يتجابون معه وقد أتى بألحان مبتكرة وخاصة في نشيد أكتوبر، والأغنية الشعبية (عيال أب جويل) وهو فنان ذو موهبة فذة وسيكون له شأن عظيم.. ولكن أعيب عليه أنه يتكلف أكثر من ما يجب في أداء أغانيه، وفي اعتقادي إذا تخلص من هذا التكلف فإن المستقبل سيكون في انتظاره.
أما الفنان “الطيب عبد الله” فهو يتمتع بصوت فيه حزن دفين يجعلك تعيش معه ذكريات حزينة ويسبح بك في عالم جميل، ونصيحتي له أن يحافظ على مستواه هذا بأن يلجأ إلى الملحنين لكي يلحنوا له ما يناسب تلك الحنجرة العظيمة.
{ طيب يا “سيد” أيه رأيك في جمهور الجزيرة الفني؟
يا سلام جمهور ما فيش أحسن منو.