الخرطوم ـ محمد إبراهيم
(حميد عضم ضهر البلد)…تبدو تلك المقولة التي لا يمل سكان منطقة منحنى النيل من الدفع بها كلما طاف أحد باسم الراحل “محمد الحسن سالم حميد” الذي صادف أمس الأول ذكرى رحيله السادسة، فحميد المتوفى في 20/3/2012 إثر حادث مروري بطريق شريان الشمال عند الكيلو 172، كان محباً للإنسانية ومناصراً للعدالة الاجتماعية، ولديه شارع باسمه بمنطقته نوري، لم يكن مجرد ناظم جيد للشعر الموثق للحياة الاجتماعية والسياسية فحسب، ولكنه كان مصلحاً اجتماعياً ومشرحاً حصيفاً للواقع السياسي، ولديه بصيرة نافذة قادرة على التنبؤ بما سوف يحدث، ومثلما كان “حميد” تربالاً بسيطاً يزرع ويحصد أثر العيش في قريته الوادعة بجريف نوري، فقد كان على بساطته يمتلك نظرة الفلاسفة وعشق الرهبان لوطنه وبني جلدته.
لم يكن غريباً أن يكون “حميد” بسطوته الإنسانية في تلك الأصقاع أيقونة للضمير الإنساني.. يزرع خيراً لكل أهله فيحصد حباً لم يقتلع شجره، حتى بعد رحيله المر قبل ست سنوات..أعين والدة حمتو بطل قصيدته المشهورة التي استقبلتنا في منزلها المجاور لمنزل الراحل لم تصمد كثيراً، رغم ما بها من مرض، وارتجلت شعراً مملوءاً نحيباً عندما سألناها عن “حميد”، قائلة: (لو كان حميد موجود ما كان خلى مرض عيوني يتمكن فيني)، ثم أنشأت شعراً يقطع نياط القلب من وسط دموعها التي احتقنت بالدموع..
(حميد اللقمة للجعان
حميد الموية للعطشان
…ولكن لم تستطع والدة حمتو من إكمال ما ارتجلته لأن الدموع غطت عينيها واكتفينا نحن بالانسحاب من منزلها سريعاً..هكذا إذن هي سيرة “حميد” مع جميع أهل منطقته.. يستقبل زواره بمنزله وسط أرتال الطبيعة البكر وهو يضع (ترباس) باب منزله من الخارج، كأنما يطبق حرفياً أبيات قصيدته الرجعة للبيت القديم
(أنا ماشي
راجع لي بيوت تفتح لي أدق أو مـا أدق
من غير تقول الزول منو
ولا حتى عل الداعي خير
لا مالك الجابك شنو).
شاعرية “حميد”
كتابات “حميد” تصنف من ضمن أشعار الواقعية الاشتراكية التي تناقش الواقع بصور شعرية متتابعة برع من خلالها في تقديم الدارجية السودانية في صياغة تصوير شخوص من الواقع وتوظيفهم في الحياة بما يخدم قضيته التي يتحدث بها، ولعل شخصيات مثل (السرة بت عوض الكريم) و(عيوشة) و(الضو) و(الزين ود حامد) و(ست الاربت أحمد جابر) و(نورا) (عم عبد الرحيم) وغيرها من الشخصيات ظلت تؤشر على قدرات الشاعر الكبير المذهلة في اجترار شخصيات من الواقع بكل عفويتها وتلقائيتها وعمقها، وكانت قصائده خلال فترة ما تماثل المنشور السري الممنوع من التداول، وحبال السرية هذه ساندت ربما دون قصد في أن تجد قصائده سرعة وانتشاراً خاصة، أنها تنحاز دون شروط منها للفقراء والمساكين، حتى أصبح “حميد” بمثابة الناطق الرسمي باسمهم والمتحدث الذي لا يعلوه صوت عن ما يتعرضون له من ظلم وتهميش من قبل النخب المثقفة.. وصار “حميد” صوتاً شعرياً يقاوم الظلم ولم يكن لكل ذلك أن يختار الراحل الكبير “مصطفى سيد أحمد” لإيصال رسالته فغنى له “أبو سامر” أكثر من (17) عملاً، نقل بها تجربته الغنائية لتكون أكثر نضجاً فغنوا معاً (عم عبد الرحيم) و(نورا) و(شليل) و(أين الموجة والخزان) و(ما طال ما بحرك في مي) ثم رثى “مصطفى سيد أحمد” بقصيدته المطولة (مصابيح السما التامنة طشيش) التي يعتقد النقاد أنها أروع ما كتب “حميد” من شعر..وفيها
(برشمت أو كبسلت سعة الوجود في ضيق لحد).
وغيرها من الأعمال التي مثلت مشروعاً بحاله مع الراحل “مصطفى سيد أحمد”، كما أن مغنيي منحنى النيل مثل “عثمان عبد العظيم” و”محمد النصري” و”محمد جبارة” و”حافظ الباسا”، كانوا أصوات إضافية لإيصال مشروع “حميد” الغنائي بالإضافة إلى الراحل الأكبر “محمد وردي”الذي غنى له (النخلة).
“حميد” والأم..
يصادف ذكرى رحيل “حميد” كذلك ذكرى الاحتفال بعيد الأم وهو كان شديد الالتصاق بوالدته ومن ثم التصق بأخواته، وخاصة “فطين” التي ذكرها في قصائده وخاطب “حميد” والدته في قصيدته الشعرية بين الموجة والخزان بقوله:
بين الموجة والخزان حلم إنسان
(حميد)..
هَرَدْتَ لهاتي بالغنوات
وقُتْ يبُردْ حَشَاك يا أمِّي
ومن التّعب البلا صَالِحْ
تفيقي
تروقي
تنجمِّي
تسوِّي مكانسِكْ المطرة
تضوِّي البيت وتنحَمِّي
تمرقي صبوحة للجيران
قدح فوق ايد وفي ايد أَلمْي
يلاقوك شُفّع الكُتّاب
نُضاف وظُراف بلا النّسْمي
ويغنولِك
يغنّولِك غناوي السّابْ
وفي بيّوضة مافي سرابْ
جُبال كَجَبي وفيافي الكاب
تميد بالخُضرة منقسمي