حجب المعرفة
السودان وقع بمحض اختياره على مواثيق واتفاقيات عديدة.. وعهود ولكنه لا يبالي في النكوص عن ما وقع عليه من اتفاقيات ولا يجد في نفسه حرجاً حينما ينقلب على ما يتفق معه في الصباح وتتضارب مصالحه في المساء (فيتنكر) لما خطته يده.. ولا تشعر الحكومة بقيمة كثير من الاتفاقيات والمواثيق إلا في الاتفاقيات ذات الصبغة الحقوقية والإنسانية، وحتى الاتفاقيات المعرفية والثقافية وآخرها ما خطته حكومتنا حينما قررت الانضمام إلى منظمة (يونسكو) المعنية بالثقافة والتربية والعلوم، وليست معنية بمراعاة حقوق الإنسان وصون كرامة الشعوب المقهورة.. الـ(يونسكو) جعلت الكتاب والمعرفة غير خاضعة للحظر والحجب لأسباب سياسية أو اقتصادية.. لكن محافظ البنك المركزي “حازم عبد القادر” ربما ينظر إلى الكتاب بذات العين التي ينظر بها للواردات من طيور الزينة.. والعطور.. ومستحضرات التجميل.. ولحم التونا.. والعدس والحليب المستورد من السعودية.. والثوم القادم من الصين.. محافظ البنك المركزي جعل خفض قيمة الدولار هدفاً إستراتيجياً بغض النظر عن الآثار الاقتصادية الناجمة عن ذلك ووضع البنك المركزي من القيود ما يجعل الاستيراد مستحيلاً للسلع المسموح باستيرادها.. أما قائمة السلع غير المسموح باستيرادها يتصدرها الكتاب.. أي نعم الكتب من (السلع) التي لا يسمح باستيرادها ونعتذر لكل القراء وطلاب المعرفة في وضع الكتاب في قائمة (السلع) التي سكت البنك المركزي عن السماح.. باستيرادها، فالأشياء هنا.. بأضدادها.. القائمة المسموح باستيرادها تشمل الدقيق والعدس والوقود (بنزين وجازولين) والأدوية المنقذة للحياة.. والمبيدات من بف فاف إلى مبيدات أخرى تستخدم في الزراعة، ولكن الكتاب ممنوع استيراده وفي ذلك مخالفة صريحة لاتفاقيات ومعاهدات وقعها السودان منذ قديم الزمان، وانضم بموجبها لمنظمة اليونسكو، بل في أيام خصوبة السودان وازدهاره.. وقفت حكومة السودان ضمن الدول المساندة لترشيح “أحمد مختار أمبو”.. قبل أن يطوف علينا مديراً للبنك المركزي لا يعرف ما إذا كان “أحمد مختار أمبو” لاعباً في منتخب السنغال أم وزيراً لخارجية (فولتا العليا) التي تبدلت الآن إلى بوركينا فاسو، أي أرض الرجال الشجعان.
بالأمس كنت ضيفاً على الشيخ “عبد الرحيم مكاوي”، صاحب الدار السودانية للكتب، أسأل عن مذكرات “التجاني عامر”، وعلمت بأن بنك السودان بعد إيقافه لوارد الكتب بموجب القرارات الاقتصادية.. أصبحت بلادنا تستقبل الجديد من المعارف والكتب عبر الانترنت.
ويزدهر سوق السرقات والنهب واللصق والتصوير أو ما يعرف بالكتاب المغشوش وبمساعدة الحكومة وسياساتها يلجأ الناس للمكروه.. والحرام.. والدولة التي كانت تتحدث عن التغيير الاجتماعي وتضرب الدفوف في أبواق الإعلام عن ثورة التعليم العالي.. وعن المشروع الحضاري وعن النهضة.. هذه الدولة أصبحت تحظر استيراد الكتاب.. وتضعه في قائمة واحدة مع طيور الزينة.. والتفاح والتوم أو البصل (مكادة).
في دولة الموظفين وفي ظل المشروع الحضاري الذي بات مشروع إعاشة لمن يستطيع التقرب زلفى للوزراء وكبار رجالات الدولة الصغيرة، بغلق أبواب المعرفة، ويجعل الكتاب شيئاً ثانوياً في حياة الشعب، الذي لا مخرج لهمه وغمه ونكده إلا حينما يلوذ بالقراءة في هجعة الليل.. ولمن تقرأ في زمان “حازم عبد القادر” والجنرال الذي ربما كل ما سمع طقطقة أوراق كتاب تحسس مسدسه وصوب قراراته نحو قمع الثقافة والمعرفة وإغلاق منافذ التنوير وفتح معسكرات التدريب العسكري.