أخبار

قبة “هارون”

ربما لم يجد الرئيس تعبيراً مجازياً بليغاً للرد على فئة من الناس لم يعجبها أداء والي شمال كردفان، مولانا “أحمد هارون” فأشاعت بأن الرجل مطلوب بشدة في المركز خلال التعديلات التنفيذية القادمة، فاستخدم الرئيس تعبير (هارون باقي حتى يصبح قبة في الأبيض)، والقباب في السودان تاريخها يعود إلى دخول المسلمين لأرض النوبة في الشمال، وانتشار الإسلام السني الصوفي في البلاد، وحينما تحررت البلاد من المستعمر بثورة الإمام “المهدي” انحسرت الصوفية وبزغت شمس الأنصارية التي لم يرق لها غيبيات الصوفية وقدرياتهم، رغم أن المهدية نفسها قامت على فكرة “المهدي” المنتظر، التي تمني الأفراد بالخلاص من الدنيا ببعث الباعث لرجل مصلح يملأ الأرض عدلاً بعد سنوات الجور والحيف والظلم،
إذا كان الرئيس قد أشار بذكاء لمسألة رمزية القبة الصوفية، فإن المشار إليه أي الوالي “هارون” تتنازعه طائفتان من الصوفية بالميراث والنشأة والأسرة وتأثيراتها، فإن “هارون” أسرته صوفية تجانية والده الراحل كان تجانياً مشهوراً في حي ودالياس بالأبيض، ولكن سياسياً فإن “هارون” أقرب لساسة الوسط من حيث الواقعية، ويعتبر “علي عثمان محمد طه” هو معلم “هارون” وأستاذه في الحركة الإسلامية، و”البشير” نفسه هو معلم “هارون” في العسكرية، الرجل خريج مدرستين متحالفتين على الأقل في سنوات الإنقاذ الحالية.
وأن يبقى “هارون” في الحُكم حتى يصبح قبة تضاف لقبة الشيخ “إسماعيل الولي” أو قبة الشيخ “يوسف أبو شرا”، فإن مشروطات القباب أولاً أن يرحل الرجل الفقيه العالم أو المصلح الاجتماعي أو الزعيم، الذي نقل الأمة من حال إلى حال، والأخيرة تناسب “هارون” الذي كتب اسمه ضمن أهل البنية السياسية مثل “المقدوم مسلم ومحمد سعيد جراب الفول والفاتح محمد بشارة ومحمود حسيب”، وهذه القباب السياسية ليست في حاجة مشروطات قيام القبة كما في المخيلة الصوفية، التي تجد معارضة شرسة من أهل السُنة الرافضين لمبدأ التصوف الذي يرفع الأشخاص لمقام الآلهة وينازع الفرد بين عبادة الواحد الأحد والاعتقاد في الأفراد والأشخاص بما يزلزل عقيدة المرء.
وحتى يصبح الميت (قبة) يطوف عليها البعض بجهل أو بغيره، فلابد من شروط وجوب ليصبح قبر الميت مزاراً يتدافع الناس نحوه اعتقاداً بأنه يجلب البركة ويطرد الشر، أولاً أن تمر سنوات على الوفاة ومن ثم يحلم الميت أي أن يأتي في منام من يثق الناس في قوله وفعله (ويكلمه) في ذلك الحلم أو أن يشاهد الناس على القبر تجليات صلاح وفلاح، مثل أن يشع النور ليلاً من القبر كما في تراث الصوفية، مع أن الإشعاع النوراني لو كان ينبعث من كل قبور الصالحين في الليل لكفى أهل المدينة نورها عن مصابيح الكهرباء لأن ما يفترض أن ينبعث من مقابر البقيع وجبل أحد كفيل بإضاءة كل المدينة المنورة.
وبعد أن (يحلم) الميت تقام وليمة لروح الميت ثم يصبح بعد ذلك قبة، ولكن بدا لي أن الرئيس “البشير” قصد الدعابة والطرفة، وهو رجل نبيل وله طرف جميلة تقربه كثيراً من الناس، مع أن الرئيس في الفترة الأخيرة قد أصبح بعيداً عن الناس العاديين وفرض عليه من هم حوله سياجاً حديدياً يبعد عنه من يحبهم ويحبونه.
لذلك أخذ يرسل الطرف الجميلة مثل قبة الشيخ “أحمد هارون” حتى قبل رحيله، ولكن دعنا نقرأ القبة بعيداً عن أبعادها الروحية والغيبية وتجليها على واقع السياسة في بلادنا وهو واقع أقرب من الخيالات الافتراضية، ومسألة القباب السياسية لها ارتباط بالإنجاز والعطاء في فضاء خدمة الناس والإنسان وفياً لمن يعطي وكريماً مع من يسكب العرق ويسهر في خدمة الناس.

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية