المجهر – هبة محمود
غابت ضمائرهم وفسدت عقولهم.. يتلاعبون بالقانون ويبيعون ذممهم.. مهمتهم تغيير سير العدالة والعيش في الخفاء.. يعشقون الكذب ويتنفسونه، إنهم (شهود الزور)، وهم فئة ارتضوا لأنفسهم تعهد الكذب دون الالتفات لخطورة هذه الجريمة وأضرارها على الأفراد والمجتمعات ودون الالتفات لقوله تعالى: (وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).رغم تأكيد قانونيين على عدم انتشار ظاهرة شهود الزور في السودان إلا من خلال حالات فردية لكنَّ بعضاً منهم أقر بوجودها وانتشارها في الآونة الأخيرة بسبب الأزمة الاقتصادية، فيلجأ أصحاب الحجة الضعيفة لشاهد زور يتحايلون به على القانون. (المجهر) وقفت على هذه الجريمة من خلال قضايا وثقت لها وسائل الإعلام في وقت سابق، واستطلعت بعض القانونيين في سياق التحقيق التالي.
{ شهود عند الطلب
لعل ما صاغته المباحث الجنائية قبل عدة سنوات في قضية قتيل الدمازين كان عين الحقيقة لوجود شهود زور يعيشون ويتعايشون بيننا، فقد أكد المحامي المعروف “صديق كدودة” الذي مثل شاهداً في القضية آنذاك صدق رواية المباحث، حيث أشار في وقت سابق إلى حضور اثنين من المتهمين لمكتبه يدعيان أنهما شاهدا عيان على جريمة القتل، وأنهما شاهدا رجلاً يمتطي دراجة بخارية قام بطعن القتيل وتعرفا عليه، وطلبا منه الدفاع عن المتهم الذي سيشنق ظلماً.
“كدودة” أكد أن درجة إقناع المتهمين العالية جعلته يطلب منهما رفع عريضة للمدعي العام يحددان خلالها البينة الجديدة، إلا أنهما لم يعودا ليعلم بعدها أنهما من معتادي جرائم شهادة الزور يمارسان نشاطهما بسوق ليبيا وتم استئجارهما من قريب المحكوم بالإعدام الذي رسم لهما الخطة الكاملة بإرشادهما على أحد مواطني القرية وتوريطه في جريمة قتل.
{ شاهدة زور عالمية
قضية “مريم محمد صالح” الشهيرة بـ”حليمة بشير” ليست ببعيدة عن محور الحديث إن لم تكن جزءاً أصيلاً منه في جرائم شهادة الزور. كانت “حليمة بشير” أحد الشهود الأساسيين الذين اعتمدتهم المحكمة الجنائية الدولية في ادعائها لجرائم الحرب والاغتصاب في دارفور، فقد التقت بالرئيس الأمريكي “بوش” عام 2009م ودُشن كتابها (دموع في الصحراء) الذي سردت خلاله تجربتها مع الحرب والاغتصاب بالاشتراك مع الكاتب الصحفي “دايان لويس”، لكن ثمة تطورات جديدة ومثيرة في ملف قضيتها قد ينسف ادعاءها بعد أن رفضت محكمة الهجرة البريطانية قبول طلب تقدمت به للجوء السياسي، استناداً إلى أن المدعية تمارس عملاً في بريطانيا في حين أن القانون البريطاني ينص على أنه لا يحق لطالبي اللجوء السياسي ممارسة أية مهنة بحكم أنها تقدم لهم دعماً مالياً إلى حين منحهم اللجوء. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، فقد اكتشفت المحكمة أن المبلغ المودع في حسابها- أي “حليمة”- قدر بـ(150) ألف جنيه إسترليني وهو ما عدّته جريمة احتيال حسب القانون البريطاني، هذا بجانب شهادة طليقها الذي أكد أنها لم تُقِم في دارفور منذ نشأتها.
{ واحدة من الكبائر
رغم مآلات شهادة الزور وعواقبها وانتشارها في كل المجتمعات، إلا أن المحامي “معاوية خضر الأمين” عدّ حدوثها نادراً داخل المجتمعات الإسلامية، مشيراً إلى ظهور حالات داخل السودان ولكنها لا تعد ظاهرة بحد قوله وإنما حالات فردية.
ونبه “معاوية” في حديثه لـ(المجهر) إلى خطورة هذه الجريمة لما تهدره من الحقوق والأرواح، وإحداثها خللاً في المجتمع وهز أركانه لا سيما أنها تشيع ضعف الإيمان بين الناس، حيث عدّها من الكبائر التي جاء تحريمها بنص القرآن الكريم والسنّة النبوية، مشيراً إلى أن التشريعات السودانية قامت بمنعها وجعلتها جريمة يعاقب عليها القانون بنص المادة (104) من القانون الجنائي السوداني التي تنص على أن من يشهد زوراً ويدلي بأقوال كاذبة وهو يعلم ذلك، أو يكتم أثناء الشهادة كل أو بعض ما يعلمه من وقائع في الدعوى بصورة تؤثر على الحكم فيها يعدّ مرتكباً لجريمة شهادة الزور، إذا ترتب على الإدلاء بشهادة الزور تنفيذ حكم على المشهود ضده يعاقب الجاني بالعقوبة المقررة للجريمة التي تم تنفيذها.
وفي سياق آخر، فند الأستاذ “معاوية” اتهام المحامين بضلوعهم في هذه الجريمة والإتيان بشهود زور لكسب قضاياهم، وعدّه اتهاماً بلا سند أو دليل لأن المحامين بحد قوله قضاة ولا يمكن لمحامٍ الاستعانة بهم- أي شهود الزور- في حلحلة قضاياهم.
{ في القضايا الأسرية
وعلى النقيض تماماً عدّ المحامي “تبن عبد الله” جرائم شهادة الزور من الجرائم المتفشية في المجتمع السوداني وتتزايد يوماً عن آخر، مشيراً في حديثه لـ(المجهر) إلى أن الظروف الاقتصادية ساعدت من تنامي هذه الظاهرة، ونادى بإيقافها والحد من انتشارها حتى لا تخل بسير العدالة. وقال: (يعاقب من يرتكب جريمة الإدلاء بشهادة أو اختلاق البينة بالسجن مدة لا تتجاوز الخمس سنوات أو بالغرامة أو بالعقوبتين معاً).
أما المحامي “المعتصم الحاج أحمد” فيرى أن شهود الزور كظاهرة تكثر في قضايا الأحوال الشخصية كقضايا الشرف وخلافه، مشيراً إلى ضرورة جاهزية النيابة والشرطة لاستخلاص كل الحقائق حتى لا يحدث إخلال بسير العدالة ووصف الجريمة بالسلوك الفردي. وقال: (هناك أبرياء بسبب شهادة الزور ولكني أعتقد أن هناك نوعاً آخر منها ودوماً ما تكون في القضايا الأسرية، كأن يقوم شخص من العائلة أو القبيلة بحمل قضية بعينها ليحمي الأسرة أو القبيلة، وهذه الظاهرة موجودة في مختلف بقاع السودان). وأضاف: (يجب معاقبة شاهد الزور حال اكتشافه حتى نستطيع التخلص من هذه الجريمة شيئاً فشيئاً).
من جانبه، وصف المحامي “شاكر قرشي قاسم” شاهد الزور بالإنسان الخرب النية، مؤكداً أنه يعمل على تضليل سير العدالة من أجل تصفية أحقاده وضغائنه مع الآخرين، لافتاً إلى عدم انتشار الظاهرة داخل ولاية نهر النيل (عطبرة) إلا من حالة أو اثنتين، مشدداً على ضرورة توخي الحذر في القضايا التي يحدث بها تناقض في الأقوال لأن القانون أعمى بحد قوله.
{ في مختلف الجنسيات والأديان
شهود الزور آفة فساد لا تنحصر على مجتمع بعينه بل في كل المجتمعات نجدها وبمختلف الجنسيات والأديان، وهناك سابقة عالمية فقد مكثت سيدة في أواخر عقدها الخامس بالسجن (17) سنة بتهمة القتل بسبب شهادة زور، وذكرت صحيفة (لوس أنجلوس تايمز) الأمريكية أن قاضياً أمر بالإفراج عنها بعد أن أدينت بطريق الخطأ على أساس شهادة امرأة عرف عنها بأنها اعتادت الكذب، وأسقط القاضي القضية ضد “سوزان ميلين” التي أدينت في عام 1998م بقتل زوجها بناءً على طلب ممثلي الادعاء في مقاطعة (لوس أنجلوس)، بعد أن أثبت تحقيق أجراه مدعٍ محلي وجود مشكلات كبيرة في مصداقية شاهدة الادعاء الرئيسية في المحكمة.. و”كاش ديلانو” سجين زنجي بقي خلف الأسوار لمدة (34) سنة بسبب شهادة زور، فقد دخل السجن وعمره (19) عاماً وخرج منه وهو في الثالثة والخمسين من عمره.