خربشات
(1)
لماذا كان وعي الشاعر “محمد مفتاح الفيتوري” بأفريقيا أكثر من وعيه وانتمائه العربي؟، وقد تنازعته هويات ثلاث السودان حيث المولد في بلدة الجنينة في أقاصي غرب السودان، وليبيا التي تمتد إليها جذور والده “مفتاح” ومصر التي شكلت وعيه بالناس والقومية والاشتراكية، وقد تأثر “الفيتوري” بشعراء مصر “محمد عبد المعطي المهشري” كما تأثر بحركة الوعي الإسلامي حينما كان صحافياً يكتب في صحيفة (الدعوة) التي يرأس تحريرها الأديب الإسلامي “سيد قطب”.. ووعي “الفيتوري” بأفريقيا كان دافعه لإصدار ديوان أغاني أفريقيا 1956م، وفي تلك الأغنيات غزل مباح في القارة السوداء ورثاء حزين (لماما آفريكا).. ومدح وعشق لا ينتهي.. وجاء من بعد أغاني أفريقيا اذكريني يا أفريقيا 1956م، أي بعد عشر سنوات كاملة من صدور ديوانه الأول، وفي مسرحيته الشهيرة (أحزان أفريقيا) كان “الفيتوري” أكثر عمقاً من “ولي سوينكا”.. نظر إلى مرايا القارة فوجد فيها شيئاً من فراسة “عنترة بن شداد” وكثيراً من نبض وصفاء “سحيم عيد بني حسحاس” و”إمام العيد” وغيرهم من الشعراء أصحاب البشرة السمراء أو الزنوج كما يطلق عليهم.. ركب “الفيتوري” قطار رواد الشعراء المحدثين موضوعاً.. مثل “أبو القاسم الشابي” من أرض الزيتون.. وتأثر الفتى بـ”ميخائيل نعيمة” صاحب عرياناً يرقص في الشمس، وخدمت الظروف “الفيتوري” من خلال وجوده بالقرب من “محمد حسنين هيكل” و”كمال الشناوي” نجوم مصر حينما كان لمصر نجوم في ساحة القرطاس والقلم.. وفتحت له مصر أبواب الشهرة.. والإطلالة على العالم من خلال تذكرة سفر مفتوحة منحته لها وظيفته في جامعة الدول العربية التي أنضم إليها بتزكية من أستاذه ومعلمه “هيكل”.. ويعتبر “الفيتوري” رائداً من رواد الحداثة في المدرسة العربية رغم أن الرجل حينما سئل يوماً عن الحداثة أجاب قائلاً (الحداثة في رأيي تنشأ من التراث المتجه نحو المستقبل من أجل رفعة الإنسان وحريته، أما أن تكون الحداثة هي الانتقال من “سيد درويش و”محمد عبده” إلى “شعبولا” و”روبي” فهذه ليست حداثة لكنها سقطة من سقطات التاريخ التي تمر مثل أي شيء).
(2)
في عام 2012م، قبل رحيل الشاعر بأعوام تناسلت في وسائل الاتصال الحديث أخبار عن رحيل “الفيتوري” وحينها كان المرض قد سكن الجسد المنهك بالآلام والأحزان.. وأقعدته الشيخوخة عن التغريد حتى في مهرجان أصيله الذي تجاهل القائم على أمره دعوة الرجل الذي أمضى أخريات أيامه في ضاحية سيدي العابد بالعاصمة المغربية الرباط حيث الهدوء والسكينة.. والرباط هي العربية الوحيدة التي لا تقلق أصوات الطائرات سكانها.. حيث منع الملك تحليق الطائرات فوق مدينة الرباط.. وجعل المطارات والضجيج.. والصخب في الدار البيضاء التي تطل على المحيط.. بيضاء من غير سواد.. لم تصل بطاقة الدعوة التي يوقع عليها الوزير السابق بالخارجية “بن عيسى” المثقف والعالم.. ولم يغضب “الفيتوري” أو يثور ولا حتى تبدت عليه ملامح الحزن على حرمانه الإطلالة الأخيرة على جمهور مهرجان أصيلة.. لكن الناقد “أنور المرتجى” حينما سأل “الفيتوري” عن هويته المكتسبة كشاعر عاش بين تخوم الجغرافيا العربية فهو من أصل سوداني من جهة الأم وليبي من جهة الأب وتشكل وعيه في القاهرة وأمضى آخر أيامه في المغرب، قال “الفيتوري” إنه يشعر بالانتماء الوجداني لكل أرض عربية أقام فيها لأنه في تكوينه مزيج مركب لم يتميز به غيره من الشعراء وكل المحطات التي مر بها كانت حاضرة في أشعاره بصدقها وعفويتها وذكريات صورها.. وقال عبارة بليغة (إنني أشعر أن هويات متعددة تخترقني.. هذا ما عبرت عنه في قصائدي):
أنا جسد شجر شيء عبر الشارع
جذر غرقي في قاع البحر
حريق في الزمن الضائع
هل ضاع من السودان هذا الكنز غالي الثمن في لجة خلافاتنا العميقة وهل كانت وزارة الثقافة التي حُرِم منها المثقفون والمبدعون، وحام في عرصاتها الإداريون والحزبيون التنظيميون مدركة بأن “الفيتوري” كنز من الماس يرقص في فراش مهترئ في أطراف العاصمة المغربية الرباط، وإن الرجل لا يطلب تذكرة سفر لرؤية ابنته “سولار” ولا كان يبحث عن قطعة خبز في شتاء مدينة الخبز الحاف ميناء طنجة.. بقدر ما كان “الفيتوري” شجرة عطاء لها رائحة من الصندل ورائحة من شجر الصهب الذي ينبت في أطراف مدينة الجنينة التي شهدت شهقة الطفل الأولى وحينما شعر بقسوة الحياة كتب “الفيتوري” رائعته:
بعض عمرك ما لم تعشه
وما لم تمته.. وما لم تقله
وما لا يقال..
وبعض حقائق عصرك
أنك عصر من الكلمات
وأنك مستغرق في الخيال..
(3)
مات “الفيتوري” ولم تمت قصائده فهي تصهل مثل الخيل.. وتغرد كالعصفورة في الحديقة وتبكي بعيون طفلة صورها صديقه المغني “وردي” ورسم صورتها شاعر آخر تتشابه بداياته ونهاياته مع “الفيتوري” “عمر الدوش” بتطلعي أنت من صوت طفلة وست اللمة منسية.. وكانت أمتنا قد نسيت الشاعر “الفيتوري” حتى الأديب والكاتب والصحافي “سليمان عبد التواب” سفير السودان في المغرب أسقط من كراسة هواتف من يحب ومن يخاف، رقم هاتف “محمد مفتاح الفيتوري” وحينما شهقت روحه هرعت سفارة السودان في المغرب تبحث عن الجثة المسجاة وتطلب من أرملته أن يسمح بنقل الجثمان من هناك إلى الخرطوم ليوارى الثرى في مقابر حلة “حمد” أو “أحمد شرفي” بأم درمان مثل “أبو آمنة حامد” الذي ذرفت عليه حكومتنا الدمع ميتاً.. وفرضت عليه القيود حياً وحظرته من الكتابة والسفر.. وجعلت قصائده ممنوعة مثل “هاشم صديق” الذي يطل من وقت لآخر في (المجهر) التي لولا شجاعة “الهندي عز الدين” وانحيازه الواعي للشعراء والمبدعين لما وصلت قصائده الحقيقية للناس، و”الفيتوري” حينما سمع خبر وفاته في وسائل الإعلام ردد جهراً ومسح الدمع من عينيه بيت شعر قديم لشاعر كبير “أبو الطيب المتنبي”:
كم قد قتلت
وكم قد مت عندكم
ثم انتفضت فزال القبر والكفن..
في آخر لقاء جمعني بالراحلة د.”عفاف الصادق حمد النيل” جعل الله بركة يوم الجمعة هذا يذهب لروحها الطاهرة كانت “عفاف” تبحث عن “الفيتوري” ويكفي تخليد ذكراه في مدينته الجنينة الحبيبة إلى قلب “عفاف” جداً.. ولكن الجنينة يشغلها الخبز والأمن.. وبناء الطرق عن ترف الشعر.. وقد كان الراحل “محمد الحسن حميد” أكثر الشعراء تعبيراً عن واقعنا وهو يكتب شعراً مؤلماً عن كيف يحيض الناس
يفيض النيل نحيض نحن
يظل حال البلد واقف
تقع محنة ولا النيل القديم يا هو ولا يانا..
لا الجنينة بعد رحيل “الفيتوري” و”عفاف” هي دار أندوكا التي وهبت الدنيا هذه الدرة الغالية.. والماسة التي لا ثمن لها.. رحم الله “الفيتوري” و”عفاف الصادق” وكلاهما من أرض تحيض ألماً ووجعاً ومسرح “الفيتوري” الذي شيد هناك لم يكتمل ولم يصعده فنان.
وكل جمعة والجميع بخير