عودة قوش (1)
في رواية موسم الهجرة للشمال عد “مصطفى سعيد” لقريته في أقاصي الشمالية وقال (ليس مهماً من أين جئت ولماذا جئت ولكن المهم أنني جئت) وفي أدب الأغاريق القديم قصة الملك “بطليوس” الذي خلعته العشيرة أيام عزها ومجدها.. ورخاء عيشها، ولكن حينما شعرت العشيرة بتآكل ملكها.. وضعف سلطانها.. واقتراب الشركس منها عادت “بطليوس” من السجن لعرش الملك.. ليصد عنها تربص الأعداء ويشد من عضد الدولة وينفخ فيها الروح.
في سنوات مضت أبعدت قيادات جهاز الأمن الضابط العميد “صلاح عبد الله” من هيئة العمليات إلى مصنع اليرموك ليعود لمهنته كمهندس.. يؤدي وظيفته خلال ساعات النهار ويعود عصراً لأسرته يقرأ في كتابات “خير الدين” التونسي ومذكرات رئيس وزراء بريطانيا الأسبق “أنتوني أيدن” حتى نهشت محنة انشقاق الرابع من رمضان بأظافرها على الجسد المنكوب بكثرة النعال ورفع الرئيس “صلاح قوش” لمنصب المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات وبحنكة وشجاعة وهدوء استطاع “صلاح قوش” حجب الدماء التي كادت أن تسيل وتذهب بروح الحركة الإسلامية وتمزق أحشائها وتقتل رجالها بأيدي رجالها.. مثلما هزمت الفتنة المجاهدين الأفغان وقسمتهم لفئات متناحرة وعصبيات تقاتل بعضها على أساس الهوية البشتوتية أو الهوية الطاجيكية.
عبرت الإنقاذ بالدموع والسجون وقليل من الدماء محنة الانقسام والتصدع، وكان “صلاح قوش” نجماً في سماء تلك الأيام.. وما بين العودة بعد الرابع من رمضان والدسائس والوشايات والمخبرين الضالين في المدينة خرج “صلاح قوش” من بوابة جهاز الأمن إلى غياهب السجون.. انتظرت جهات عديدة عنق الرجل.. وانهالت عليه السيوف.. لكنه كان ثابتاً مثل جبل البركل.. مبتسماً أمام السجان مصافحاً الأيادي التي كادت له كيداً.. فمهل الكائدين رويداً.. وفي صبيحة أمس (الأحد) كان الخبر الذي رجه البلاد.. رجا.. وهزها هزاً بعودة “صلاح قوش” لواجهة الجهاز التنفيذي مديراً عاماً للمؤسسة الثانية بعد القوات المسلحة التي تتحمل أخطاء السياسيين.. وتصد عن الإنقاذ هجمات الطامحين والطامعين.. وفي زمانٍ فيه البلاد محنة اقتصاد السوق.. وتحرير القمح.. وارتفاع الدولار وتدني العُملة الوطنية.. وغشيت البلاد غمة سياسية.. حصار غرب رفع أسمياً وصار إقليمياً أتاح بكلاكله على البلاد.. وجهود تسويات مع حملة السلاح لم تثمر إلا بريق أمل ضعيف في جولة المفاوضات الحالية.. وعلاقات خارجية تتقدم مع الخليج خطوة وتتراجع خطوتين.. ومظاهرات في الداخل.. وحرب إعلام وشائعات.. كشفت عن ضعف بائن في أداء حكومة الوفاق الوطني.
لم يتردد الرئيس لحظة واحدة في إعادة الفريق “صلاح قوش” الذي خرج من السلطة ولم يلعنها مثل الآخرين جلس في بيته ولم تنحسر منه أضواء الإعلام ولا إقبال الناس عليه يسألونه عن الضيق وكيفية الخروج من متاهات الحاضر.. ظل “صلاح قوش” عضواً في البرلمان له صوت.. ورأي وفكرة وجهد.. إذا سافر إلى الخليج استقبلته بمشيخاتها بالود والاحترام والتقدير.. وإذا خرج جنوباً اعتبرته جوبا رجل دولة قدم للسودان القديم قبل الانقسام ما لم يقدمه الكثيرون.. وإذا طرق أبواب وزارة وقف له العاملون احتراماً لا خوفاً.. مشى في الشارع العام بلا حراسة ولا قوة مدججة بالسلاح.. أكل الفول مع أصدقائه وعاود المرضى في المشافي.. لم تبدله السلطة ولم يهزمه بُعده عنها.
عاد “صلاح قوش” رجل دولة للمساهمة في تغيير الواقع وهي عودة أولى للطيور أخرجت من غير وجه حق.. غداً يعود للإنقاذ مظاليمها ونجومها المبعدون في لحظة غفلة ورومانسية سياسية أورثت البلاد هذا الواقع الذي تعيش تفاصيله وملامحه لا تحتاج لشرح وتوصيف.