انضمام “محمد يوسف” لـ”الحلو” حمامة سلام أم “عرمان” جديد
أسرار وخفايا مفاوضات أديس أبابا
لماذا بدأ وفد النيل الأزرق أكثر مرونة من النوبة؟
أوراق من إثيوبيا – يوسف عبد المنان
حينما خرج المهندس “إبراهيم محمود” مساعد رئيس الجمهورية، من الغرفة الصغيرة التي جمعت بالرئيس الجنوب أفريقي السابق “ثامبو أمبيكي” وفريقه الذي يتألف من رئيس نيجيريا الأسبق “عبد السلام أبو بكر” والجنرال “عايدول”.. وينشط السكرتير السوداني “محمد إبراهيم منعم منصور” في إعداد الأوراق وكتابة التقارير لـ”أمبيكي” بمهنية واحترافية.. وابتسامات بيضاء وهو لا يكف عن التدخين الممنوع في أغلب غرف وساحات فنادق أديس أبابا.. كان المطر يهطل بغزارة.. ودرجة الحرارة تنخفض إلى ما دون العشرة.. ود.”أمين حسن عمر” يضع يده على خصلات شعره الذي طغى بياضه على سواده!!
لم يشأ “إبراهيم محمود” الحديث للصحافيين عن الاجتماع المطول بين وفد الحكومة والآلية الأفريقية الرفيعة المستوى عن مسارات تطبيق اتفاق خارطة الطريق.. ربما أرجأ “إبراهيم محمود” الحديث انتظاراً لما يقوله الإمام “الصادق المهدي” الذي وصل إثيوبيا في ذلك المساء للقاء الآلية الأفريقية التي دعته وابنته د.”مريم” التي يدعونها تدليلاً “بالمنصورة” وهي ناشطة جداً في مفاصل حزب الأمة، واستطاعت في السنوات الماضية أن تنسج علاقات دولية واسعة مع المبعوثين الدوليين للسودان ومع السفراء والحكومات، الشيء الذي جعل الفارق بينها وبقية قيادات حزب الأمة يتسع وتصعد الطبيبة التي هجرت مهنتها الإنسانية وانصرفت للسياسة بكل خشونتها!!
قبل أن ينهي “أمبيكي” لقاءاته مع المعارضة المسلحة ممثلة في حركتي العدل والمساواة وحركة تحرير السودان وكلاهما اختارا الدفع بقيادات دون الرئاسة لتمثيلها في مشاورات أديس أبابا، وفي ذلك إشارة لانصراف الحركتين عن منبر أديس أبابا.. وغاب د.”جبريل إبراهيم” عن المشهد وجاء بالأستاذ “أحمد تقد” لسان آخر القيادات التي لا تزال تتمسك ببصيص الأمل في عودة الروح لحركة العدل والمساواة بعد مقتل قائدها د.”خليل إبراهيم” وبعث “مني أركو مناوي” بالشاب الوسيم “نور الدائم” الذي تبدت عليه آثار النعمة والنعومة وهو بعيد عن مسارح العمليات والقتال.. لذلك لم يجد “إبراهيم محمود حامد” مشقة في أن يرمي بأوراق الحوار الوطني.. ويطالب الآلية بالنظر بجدية في حث المعارضة على الإقبال سراعاً للداخل والمشاركة في اقتراع قانون الانتخابات الجديد وتكوين مفوضية الانتخابات بالتراضي والتوافق حتى يستقر الجميع على مسار لانتخابات نزيهة ينال فيها كل مجتهد نصيبه ويصبح صندوق الأصوات هو البديل لصناديق الذخيرة التي لم تورث البلاد إلا الشقاق وإهدار الموارد وقتل الأنفس.
ورقة أولى:
هل انهارت جولة المفاوضات وفشلت؟ قد يختلف تقديرات السياسيين تبعاً لمواقفهم من النظام، ولكن كيف يصف قيادي في موقع رفيع في الحزب مثل الوزير السابق بالنيل الأزرق والحكومة الاتحادية “أحمد كرمنو” الجولة بالفشل الذريع.. ويتبعه الجنرال “دانيال كودي” الذي بدأ متأثراً بعدم مشاركته في الجولة بسبب تقليص عدد أعضاء الوفد لاعتبارات مرتبطة بطبيعة القضايا الفنية المحضة (وقف إطلاق النار) ولكن في مقابل ذلك نجد حصاد الجولة الماضية يعتبر انتصاراً كبيراً للسلام حيث وقعت الحكومة والحركة الشعبية معاً على إعلان مبادئ سياسي تضمن ثلاثة بنود مهمة جداً:
أولها التزام الحكومة والحركة الشعبية كتابة بوقف إطلاق النار حتى نهاية الستة أشهر القادمة، وهذا يعني عملياً أن فصل الصيف الذي يشهد في الغالب نشاطاً للعمليات العسكرية سينقضي في هذا العام والمنطقتين على حالها الراهنة.. هدنة ووقف للعمليات.. وتوقيع الطرفين على الالتزام الذي كان في السابق أخلاقياً ويخاطب المجتمع الدولي والإقليمي أكثر من مخاطبته لأهل المنطقتين تعتبر تطوراً مهماً جداً.
ثانياً: وقع الطرفان على الالتزام التام بالتفاوض من أجل الحل السلمي الشامل.
ثالثاً: التوقيع على الالتزام بتوصيل المساعدات الإنسانية للمتضررين.. دون الإشارة للمقترحات الأمريكية في هذا الصدد نظراً (لتحفظ) الحركة الشعبية لأسباب (تكنيكية) وليست موضوعية على المبادرة الأمريكية.
ثم السؤال ماذا كسبت الحركة الشعبية من الجولة الماضية بالطبع الحركة كسبت مثل الحكومة والآلية الأفريقية ومكاسب الحركة الشعبية عديدة أولها نيلها الاعتراف الدولي وامتلاكها لشهادة بحث كانت في جيوب وحقائب “ياسر عرمان” لزمان طويل.
ثاني المكاسب عودتها لعضويتها باتفاق إعلان سياسي يفتح باب الأمل لتسوية قادمة من خلال جولات التفاوض القادمة.. خاصة وإن هناك رغبة حقيقية في قواعد الحركة للوصول لاتفاق سلام وذلك من قراءة مواقف طرفي الوفد المفاوض من الحركة ونعني به وفد النيل الأزرق وجبال النوبة.
{ ورقة ثانية
شكل مكون النيل الأزرق من وفد الحركة الشعبية المفاوض حضوراً محدوداً جداً في جلسات التفاوض واستبدل “مالك عقار” والجنرال “أحمد العمدة” رئيس أركان الجيش الشعبي بالقادة الجدد الذين تم اختيارهم من قبل “جوزيف تكة” المنتمي إلى منطقة البرون وهو مسيحي كاثوليكي استطاع أن يفرض وجوده في الميدان وخاض حرباً في النيل الأزرق مالت فيها الكفة لصالحه دون حسم المعركة نهائياً لصالحه.. حيث لا يزال يملك الجنرال “أحمد العمدة” القدرة على مواجهة “جوزيف تكه”.. وكان وفد الحركة في المفاوضات بقيادة “عبد الله إبراهيم أوجلان” و”سيلا موسى كنجي” معتمد الكرمك السابق هم الأكثر مرونة مقارنة بأبناء النوبة.. ولأبناء النيل الأزرق وفد آخر أقرب للشعبي يتكون من “بكري عبد الباسط” مدير عام وزارة الثقافة السابق وهو من القيادات الطلابية في المؤتمر الوطني.. وبعد وصول الوفد اختار “متوكل عيسى آدم بشارة” مدير مكتب “مالك عقار” أن يقول كلمته وينضم إلى الوفد وهي صفعة موجعة جداً وجهها مدير مكتبه له.. مما دفعه ليبعث إليه برسالة تضج حروفها حسرة!! (إن شاء الله يا “متوكل” ما بعتني بالرخيص).
وقاد “متوكل عيسى” و”بكري عبد الباسط” حوارات مباشرة مع أبناء النيل الأزرق في وفد الحكومة الشيخ “عبد الرحمن أبو مدين” والعميد “استيفن” المعتمد برئاسة الولاية.. وأفلح الوفد الحكومي من عقد لقاءات عديدة في فندق جبتر مع وفد الحركة الشعبية.. حول التعايش وتبادل الزيارات وبدأ وفد الحركة من النيل الأزرق الأكثر حرصاً على الوصول لتسوية عاجلة.. وذلك للأسباب التالية.
يعتبر “مالك عقار” هو المؤسس الأول للحركة الشعبية ويحظى بثقل وسط المتمردين.. وقد خسر المعركة الأولى مع “جوزيف تكه” الذي قال إن وقوفه مع “الحلو” بسبب رفض “مالك” و”ياسر عرمان” للتسوية السياسية.. وكسب قواعد الحركة وجنودها.. والقادة السياسيين بإدعاء رغبتهم في السودان وإذا لم يتحقق السلام عاجلاً فإن ميزان القوة قد يذهب مرة أخرى إلى “مالك عقار”.
ثانياً: نقطة ضعف الحركة الشعبية في النيل الأزرق إنها استبدلت مؤسسها “مالك عقار” بقائد من جبال النوبة منكفئاً على نفسه وعلى أبناء النوبة بصفة خاصة، ولذلك كان الاختلال بائناً في تكوين الوفد خمسة من جبال النوبة هم “عمار أموم” ود.”أحمد عبد الرحمن سعيد” و”كوكو جقدول” و”سعيد شارلو” و”كامل موسى كوه”.. مقابل اثنين فقط من النيل الأزرق.
ثالثاً: في حالة إطالة أمد التفاوض قد ينجح الجنرال “أحمد العمدة” في تنظيم صفوف قواته.. ويعود لمسرح العمليات ويلحق الهزيمة بجوزيف “تكه” المسنود من دولة الجنوب لأسباب عقائدية.
فهل كسب أبناء النيل الأزرق من هذا الانقسام؟ أم خسروا وأي مستقبل ينتظرهم إذا ما تباطأت خطى التسوية النهائية إلى ما بعد الخريف القادم؟
{ ورقة ثالثة
هل تستطيع الحركة الشعبية التوقيع على اتفاق سلام في الجولة القادمة؟ الإجابة في طيات الملفات المعقدة التي أمام المفاوضين.. وبعد (14) جولة من المفاوضات المباشرة وغير المباشرة لم يضع الفرقاء حتى اللحظة أمام طاولة الحوار القضية الرئيسية أمامها، ونعني بها الخلاف السياسي وهو جوهر الأزمة.. وانصرفت كل الجهود في جولات التفاوض منذ اتفاق “نافع، عقار” الذي يمثل إعلان مبادئ للحل لم يغص عميقاً في التفاصيل حيث يسكن الشيطان.. ويسبب انشغالات الطرفين المتشابهة حد التطابق، ظل الحديث والحوار محصوراً في قضايا الترتيبات الأمنية وتبعاتها من إيصال المساعدات الإنسانية ووقف إطلاق النار والهدنة.. أو وقف العدائيات، ويعتبر ملف الحوار السياسي مسكوتاً عنه نظراً لتعقيداته من مشاركة في السلطة.. ونظام الحكم.. والانتخابات والفترة الانتقالية.. ولكن في المفاوضات الأخيرة قالت الحركة الشعبية إنها بصدد طرح قضية الحل السياسي مقدمة على الترتيبات الأمنية والعسكرية ولكنها في ذات الوقت تقف حيث كان يقف “ياسر عرمان” وفريقه المفاوض بشأن وصول المساعدات الإنسانية.. وللحركة الشعبية اهتماماً بالغاً بهذه القضية يبعث الشكوك ويعزز صدقية معلومات مفوضية العون الإنساني بأن الحركة تهدف للحصول على مكاسب أخرى من دخول الإغاثة.. ويعتقد “الهادي أندو مرفعين” عضو وفد التفاوض ونائب رئيس حزب المؤتمر الوطني بجنوب كردفان، وهو من يخدم الفريق الحكومي في جولات التفاوض الأخيرة إن المناطق التي تسيطر عليها الحركة الشعبية لا تعاني من نقص في الغذاء ولا مجاعة ضربت الإقليم في السنوات الأخيرة.. ويقول إن الإنسان النوبي بطبعه إنسان منتج جداً ولا يعتمد على غيره في غذائه اليومي.. وجبال النوبة منطقة غنية جداً بالثروة الحيوانية وبالزراعة، ووقف إطلاق النار الذي أعلنه الرئيس “البشير” في العام الماضي ساعد المزارعين في مناطق سيطرة الحكومة بمحليات أم دورين وريفي البرام وهيبان على زراعة مساحات واسعة من الأرض وأسهمت الزراعة في توفير مخزون نقدي كبير.. لكن الحركة الشعبية لها أهداف أخرى من المساعدات الإنسانية وإصرارها الشديد على المنافذ الخارجية.. وبعد التوقيع على إعلان المبادئ السياسية فإن مسار التفاوض للحل الشامل ربما تقدم خطوات بعد أن ثبت اللاعبون الجدد أقدامهم في الميدان واكتسبوا الثقة في إمكانياتهم رغم أن رئيس فريق التفاوض “عمار أموم” حذر جداً في التعامل مع الآخرين ومنكفئاً على نفسه.. حتى لحظة التوصل لاتفاق الإعلان السياسي وتوقيع رئيس فريق التفاوض المهندس “إبراهيم محمود” وانتظار “عمار أموم” التوقيع تم المصافحة التقليدية كان “عمار” متردداً في مصافحة “محمود”.. ومتردداً في التوقيع على البيان السياسي رغم موافقة المرجعية العليا في الحركة على بنوده.. وذلك يكشف طبيعة شخصية “عمار أموم” الذي كان في بدايات حياته سلفياً ويعمل موظفاً في المملكة العربية السعودية وأطلق لحيته وامتنع عن مصافحة النساء وفرض على زوجته ارتداء الحجاب والبرقع.. ولكنه تعرض لصدمة عنيفة بمقتل والده بطريقة بشعة في بدايات التمرد عام 1984م، بمنطقة والي أم كرم.. وحضر “عمار أموم” من السعودية لتلقي العزاء في وفاة والده.. وتعرض في مسقط رأسه والي إلى استقطاب وتغلب عليه الخطاب العنصري العاطفي للحركة الشعبية وتحت تأثير مقتل والده تخلص من لحيته وسار عبر الجبال والأدغال من جبال النوبة حتى معسكرات الجيش الشعبي في إثيوبيا.. ومن هناك بدأ رحلة التمرد الطويلة.. وأخذ على عاتقه الوقوف إلى جانب أستاذه ومعلمه وقائده العسكري “عبد العزيز الحلو”.. بيد أن الجولات القادمة ربما كسرت القيود النفسية التي يحيط “عمار” نفسه بها.. خاصة وإن القلب النابض في الحركة الشعبية “كوكو جقدول” والدكتور “أبكر آدم إسماعيل” أكثر مرونة وتقبلاً للواقع الراهن.. ولا يبدو أن الدكتور “محمد يوسف أحمد المصطفى” الأستاذ الجامعي.. وابن منطقة الجزيرة “ياسر عرمان” جديد في صفوف الحركة.
{ ورقة أخيرة
كان لوفد شباب المنطقتين الذين ركبوا الصعاب.. ووصلوا إلى أديس أبابا قبل انفضاض جولة المفاوضات بيوم واحد أثراً بليغاً على كل الأطراف وشباب جنوب كردفان والنيل الأزرق يمثلون أحزاب المؤتمر الوطني والحزب القومي والحركة الشعبية جناح السلام.. وبعض الشباب غير المنتظمين في الأحزاب يقودهم “رشاد الجاك” القيادي في حزب العدالة.. ولم يحصل الشباب على مالٍ يعينهم على الرحلة من الخرطوم إلى أديس أبابا.. وسدد الشباب فواتير تذاكر السفر لعدد (9) تذاكر من إمكانياتهم الذاتية بعد أن تكفلت الولاية بعدد أربع تذاكر فقط.. وتبرع الوزير “عمر شيخ الدين” وزير الصحة والقيادي في الحركة الشعبية بدعم مالي شخصي للشباب في يوم وصول الشباب للعاصمة الإثيوبية أديس أبابا استجاروا بمنزل في أطراف المدينة لأحد أصدقاء الوزير السابق “سراج” وعضو المجلس الوطني.. ثم انتقلوا لفندق درجة خامسة بالقرب من مقر التفاوض لكنهم قهروا الصعاب المادية وكانت روحهم وعزيمتهم أن يقولوا كلمتهم رفضاً للحرب.. ودفعاً للسلام.. وأبدى رئيس الوفد الحكومي المهندس “إبراهيم محمود حامد” ارتياحه لعزيمة الشباب وصبرهم ومثابرتهم وحثهم على مواصلة جهدهم داخلياً وخارجياً حتى يتحقق السلام بالبلاد.. وعقد الوفد لقاءات بالفريق “أسامة مختار” نائب مدير جهاز الأمن الوطني وبالفريق “جمال عمر” مدير الاستخبارات العسكرية.. وبالسفير “فؤاد حكمة” مستشار الاتحاد الأوروبي وبوفد الحركة الشعبية أولاً د.”أحمد عبد الرحمن سعيد” و”كوكو جقدول” و”عمار أموم” و”كامل كوه مكي”.. واتسمت لقاءات الشباب بقادة الحركة الشعبية بالصراحة والوضوح.. والمواجهة الشيء الذي كان له الأثر البالغ في تقريب المسافات المعنوية بينهم والمتمردين.. ثم عقدوا لقاءات بالآلية الأفريقية رفيعة المستوى ممثلة في السفير “عايدول” وعقدوا لقاءات بحركة العدل والمساواة بقيادة “أحمد تقد لسان” والجبهة الثورية ممثلة في القيادي في الحزب الاتحادي “التوم هجو”.. وممثل الحركة “مناوي” والدكتورة “مريم الصادق المهدي”.. كل ذلك النشاط لشباب من أجل السلام.. كان بمثابة ضوء في النفق المظلم وبارقة أمل لغدٍ أفضل.. في ختام جولة مفاوضات حققت أهدافها.. وفتحت أبواب التسوية النهائية في القريب المنظور.