تغييرات في الحركة ما بين حقبة “عرمان” و”الحلو”
أوراق من إثيوبيا – يوسف عبد المنان
احتضنت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا خلال نهايات الأسبوع الماضي وبدايات الأسبوع الجاري أنشطة سودانية عديدة.. جميعها تهدف لإيقاف نزيف الدم والوئام الاجتماعي في السودان وفي دولة جنوب السودان.. وربحت فنادق العاصمة الإثيوبية ملايين الدولارات دفعتها الأمم المتحدة أو المنظمات أو خزائن حكومتي الخرطوم وجوبا، أو مما تحصل عليه الحركات المعارضة من مال يأتيها سراً وعلناً من أجل خدمة أهداف الممولين.. وتستفيد إثيوبيا دولة المقر للاتحاد الأفريقي، واللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة، ورئاسة قوات حفظ السلام الأفريقي، ومجلس الأمن والسلم الأفريقي، واللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة ورئاسة قوات حفظ السلام الأفريقية ومجلس الأمن والسلم الأفريقي، تستفيد من عائدات هذه المنظمات الأممية والإقليمية وتحصد خزانة المال الإثيوبية أوراق البنكنوت الخضراء.. بينما الفرقاء السودانيون في فنادق إثيوبيا يبحثون عن شفاء لجراحهم العميقة.
أسبوع ما بين المنطقتين.. واتفاق خارطة الطريق الموقعة بين الحكومة وثلاث حركات كانت اثنتان منها ترفعان السلاح في وجه الحكومة قبل أن تترجلا من عربات اللاندكروزر بفضل قوات الدعم السريع في دارفور، ولا تزال الحركة الثالثة (الشعبية) بيدها بندقية رغم تصدعها لـ(حركتين) وانقسامها لـ(فصيلين)، والثالث حزب الأمة الواقف بين اللافتات الثلاث.. ثم قضية الحدود بين جنوب السودان والسودان.
} ورقة أولى
{ الاتفاق السياسي
وقعت الحكومة والحركة الشعبية الجديدة على اتفاقية إعلان مبادئ حل جديدة في وقت متأخر من ليلة (الأحد) الماضي بعد جدل عميق، وحوار مباشر بين وفد الحكومة ووفد الحركة الشعبية، وما تم توقيعه وثيقة مهمة قلل الإعلام من شأنها، ولم تجد حظها من القراءة العميقة ما بين السطور وما تحتها.. وقد ذهب بعض المتفائلين قبل بدء المفاوضات إلى أن الوفد الحكومي سيوقع اتفاقاً نهائياً للسلام مع الحركة الشعبية في أول لقاء يجمعهما بعد أربع عشرة جولة سابقة، منذ أن وقع اتفاق (نافع – عقار) بعد أسبوع فقط من اندلاع الحرب في 28 يونيو 2011م.. والتفاؤل مطلوب، لكنه كان تفاؤلاً غير واقعي ولا يسنده منطق.. وواقع الحال يقول إن الآلية الأفريقية رفيعة المستوى برئاسة الرئيس “ثامبو أمبيكي” وجهت الدعوة إلى الحكومة والحركة الشعبية للالتقاء في أديس أبابا في الفترة من أول فبراير وحتى الثاني منه (يومان)، لمناقشة إمكانية التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار يمهد لاتفاق سياسي يخاطب جذور النزاع في المنطقتين.. وبذلك يصبح من حيث المبدأ الحديث عن التوقيع على اتفاقية سلام تنهي النزاع في المنطقتين في الجولة الماضية ضرباً من التفاؤل وقفزاً فوق الأجندة المتفق عليها.. ومجرد أمنيات (عاطفية) فقط.
ونسبة لتداخل الشأن الإنساني والتدابير والإجراءات الأمنية طغى على تكوين الوفد المكون الأمني والعسكري فنياً وسياسياً.. وتم استبعاد بعض أعضاء الوفد القديم مثل د. “حسين حمدي” والعميد “محمد مركزو كوكو” والعقيد “الشفيع الفكي علي المأمون” و”باكو تالي” والفريق “دانيال كودي” والمك “الفاتح حسن عدلان” والنائبة البرلمانية “ليلى أبو العلا جمعة”.. وفي آخر لحظة تم استبعاد اللواء “حسين إبراهيم كرشوم” ولم يفصح حتى الآن عن ملابسات استبعاده، لكن الأستاذ “إبراهيم عربي” الخبير في ملف الحرب والسلام بجنوب كردفان أثار جدلاً في الساحة عن وجود مؤامرة أبعدت د.”حسين كرشوم” من الوفد دون الإشارة إلى أن آخرين تم استبعادهم من الوفد الحكومي بما في ذلك الأجهزة العسكرية، حيث استبعد أو استبدل جهاز الأمن اللواء “العبيد ود بدر” والفريق “دخري الزمان عمر” بالعميد المثقف “مازن أحمد إسماعيل”.. وطالت وفد الحركة الشعبية تعديلات جوهرية قضت بتغييب كامل للوفد السابق بسبب التصدعات الكبيرة في صفوف الحركة وصعود نجوم جدد ومفاوضين آخرين لم يسبق لهم لقاء أعضاء الحكومة، بل حتى لا يعرف بعضهم أبناء جدلتهم من ممثلي المنطقتين باستثناء الدكتور “أحمد عبد الرحمن سعيد” وهو العضو الوحيد من وفد الحركة السابق الذي حافظ على مقعده.
} ورقة ثانية
{ تغييرات وجوه أم مفاهيم
بدلت الحركة الشعبية كامل وفدها المفاوض تبعاً لإقصاء قياداتها السابقة الفريق “مالك عقار” والفريق “ياسر عرمان” وجاءت لأول مرة بالأمين العام الجديد “عمار أموم”، وجاءت بالدكتور “كوكو جقدول” والأخير مقيم في كندا من أبناء منطقة دايري محلية هبيلا جنوب الدلنج قبيلة الغلفان القبيلة التي ينتمي إليها “أزرق زكريا خريف” القيادي في الحزب القومي السوداني، وكذلك “منير شيخ الدين” و”بثينة جودة” الوزيرة الحالية بصندوق دعم السلام.. ويعدّ “كوكو جقدول” أهم شخصية سياسية في التنظيم السياسي الجديد للحركة الشعبية، وتم وضعه في الظل بالقرب من “عمار أموم” نظراً لبعده في السنوات الماضية عن تفاصيل العمل العسكري والسياسي.. ويدين “عبد العزيز الحلو” بالفضل لـ”كوكو جقدول” الذي جند “عبد العزيز الحلو” في تنظيم الكملو (السري) حينما واجهته مصاعب في الانضمام للتنظيم بذريعة أن “الحلو” لا تسري في شرايينه الدماء النوبية وهو ينحدر من قبيلة المساليت في دارفور، أماً وأباً، لكنه اختار الدفاع عن قضية النوبة والتضحية من أجلهم لذلك هو جدير بالانضمام لتنظيم الكملو على أن يخضع لفترة اختبار للتأكد من ولائه للتنظيم، وجبال النوبة بهذه الحيثيات تم قبول عضوية “الحلو” في التنظيم الذي غذى شرايين الحركة الشعبية بالرجال والنساء، وهو الذي استخدمته مطية حملة النوبة من الحزب القومي إلى الحركة الشعبية بزخمها وشعاراتها في مخاض ميلادها عام 1984م.. ومنذ ذلك الحين ظل “الحلو” وفياً لأستاذه ومعلمه في النضال “كوكو جقدول” الرجل الصامت.
وجاء في وفد الحركة “إدريس النور شالو” المحامي وهو من أبناء منطقة أم حيطان ريفي هبيلا وينتمي إلى قبيلة أم حيطان أباً ووالدته من قبيلة الهدرا.. وعمل “إدريس” في بداية حياته الوظيفية مراجعاً بديوان المراجعة القومية قبل أن يلتحق بجامعة الخرطوم كلية القانون ويتخرج فيها وينخرط في فضاء المحاماة ويؤسس مكتباً في سوق ليبيا بمساعدة “كامل كوة مكي”.. وينضم إلى تنظيم الحركة الشعبية الذي استقطبه من حزب الأمة القومي.. وثالث الوجوه الجديدة هو رئيس الوفد نفسه “عمار أموم” الذي ينتمي إلى مدينة الدلنج وقد نجح في الفوز على الجنرال “إبراهيم نايل إيدام” في آخر انتخابات جرت عام 2011م، وكان عضواً بالبرلمان لكنه خرج بعد 6/6/2011م مقاتلاً إلى صف الحركة الشعبية.. ومثّل النيل الأزرق “عبد الله إبراهيم” الشهير بـ(أوجلان) بديلاً لـ”مالك عقار” و”سيلا استيفن” و”بكري إبراهيم” المدير العام لوزارة الثقافة في ولاية النيل الأزرق والقيادي الشبابي في حزب المؤتمر الوطني قطاع الطلاب.. وغاب إلى جانب “ياسر عرمان” الجنرالات “جقود مكوار” واللواء “أحمد العمدة”.. واحتفظت الحركة فقط بـ”أحمد عبد الرحمن سعيد” الخبير في الشأن الإنساني وأستاذ الاقتصاد السابق بجامعة الخرطوم.. وعاد إلى صفوف الحركة بعد غياب د.”محمد يوسف أحمد المصطفى” إضافة لـ”كامل كوة مكي” شقيق الراحل “يوسف كوة”، ورجل الأعمال المقيم في إثيوبيا والمتزوج من إثيوبية لها وشائج رحم مع الرئيس الأسبق “مانقستو هيلا مريام”.
فهل وفد بهذا التمثيل كان مفوضاً ومؤهلاً للتوقيع على اتفاقية سلام نهائية؟؟ بالطبع الإجابة لا.. والشاهد على ذلك أن وفد الحركة عند طرح القضايا والتداول حولها يطلب رفع الجلسات لمدة ساعة لأخذ رأي المرجعية النهائية، ويغادر فندق (رديسون بلو) مباشرة إلى فندق (جوبتر) القريب منه لإجراء مشاورات في الغالب مع القيادة ممثلة في “الحلو”، ويعود مرة أخرى برؤية لا يتزحزح عنها إلا إذا جرت مشاورات أخرى مع قياداته.. إذن ما الفرق بين الحركة الشعبية القديمة والحركة الشعبية الجديدة؟؟
في المفاوضات السابقة كان “ياسر عرمان” هو المرجعية النهائية، وإذا تطلبت قضية ما الخروج لأخذ الرأي يذهب مباشرة لفريق الخبراء الأجانب من دبلوماسيين غربيين ومبعوثين.. وخاصة الفريق الأمريكي والنرويجي ومجموعة سودانيين لهم تأثيرهم على الغربيين، مثل السفير والدبلوماسي “فؤاد” الساعد الأيمن لمبعوث الاتحاد الأوروبي.. و”عابدول” أحد أهم أعضاء فريق الوساطة والقسم السياسي في السفارة الأمريكية بالخرطوم، ولكن أعضاء وفد الحركة الشعبية باستثناء د.”أحمد عبد الرحمن سعيد” كانوا محدودي الحركة واللقاءات بالمبعوثين الغربيين، وهم أكثر حذراً في مصافحة الوفد الحكومي والتواصل مع أجهزة الإعلام باستثناء الأديب والروائي د. “أبكر آدم إسماعيل” الذي قاد الانشقاق الحقيقي في الحركة، وواجه “ياسر عرمان” بجسارة ودون خوف من سطوته ونفوذه، وتعرض للطرد والإقصاء من الحركة حتى تمت إعادته بعد مغادرة “ياسر عرمان”.. وينتمي “أبكر آدم إسماعيل” إلى محلية القوز أقصى شمال الولاية من قرية لابدة ريفي الفرشاية.. والتغييرات في صفوف الحركة الشعبية طالت الشخوص والمفاهيم، وقد تمسك الوفد برفض كل الاتفاقيات التي وقعها “ياسر عرمان” و”مالك عقار” بما في ذلك الاتفاق الموقع في 28 يوليو 2011م، الشهير باتفاق (نافع- عقار)، ورفض الحركة لهذه الاتفاقيات والتفاهمات بواعثها نفسية محضة لإحساسها بأن أية اتفاقيات وقعها “عرمان” تعدّ شيئاً من الماضي ولا تعترف بها.. بل يذهب “أبكر آدم إسماعيل” في حديثه لصحيفة (المجهر) إلى أن كل ما وقعه “ياسر عرمان” لا يعنيهم في شيء لأن واحداً من الأسباب التي دفعتهم لهذه (الثورة)- استخدم تعبير (ثورة) بدلاً عن (انقلاب)- هو ما وقعه “عرمان” و”عقار” من اتفاقيات مع النظام من غير مشورة “عبد العزيز الحلو” وقيادة الحركة.. فهل تريدوننا أن نبصم على اتفاقيات لنا رأي حولها؟؟ وإذا وقعنا وبصمنا على (كلام عرمان) هل لدينا مبرر أخلاقي للحديث عن دكتاتورية الرجل؟؟ لماذا لا ينظر الوفد الحكومي لمشاغلنا الداخلية ويتعنت في مواقفه ويرفض الحوار حول كل القضايا؟؟ ربما نتوصل لذات النتيجة التي توصلوا لها مع “عرمان” ولكن بقناعتنا وإرادتنا.. واختيارنا.
{ السلام قريباً وبعيداً
من واقع ما جرى في الساحة الداخلية والخارجية فإن كثيراً من المتفائلين كانوا يتوقعون أن تبلغ المفاوضات مرحلة التوقيع النهائي على اتفاقية سلام تنهي الحرب، ومن واقع الإعلام الذي بث بكثافة أخباراً وتحليلاً عن مواقف الحركة الشعبية قبل الانفصال وبعده، ونعني هنا الانفصال الذي ضرب صفوف الحركة، بث القوميون النوبة داخل المؤتمر الوطني وفي الأحزاب الأخرى أشجاناً وأمنيات عن قرب تحقيق السلام بعد غروب شمس “ياسر عرمان” داخل الحركة، وأن قيادة أبناء النوبة للحركة الشعبية وامتلاكهم لقرار مصيرهم ومصير الحركة من شأنه أن يدفع بالتسوية سراعاً.. ولم يقرأ هؤلاء جيداً البيان التأسيسي للحركة الشعبية وتشدُّد رئيسها “عبد العزيز الحلو” وتطرفه وعنصرية الذين حوله من القوميين النوبة، وأطروحات حق تقرير المصير الناسفة لكثير من الآمال في السلام القريب.
وفي خطبة رئيس وفد الحركة الشعبية في الجلسة الأولى من التفاوض تكشفت أشياء جعلت كثيراً من أعضاء الوفد الحكومي يضربون كفاً بأخرى، ماذا حدث و”عمار أموم” يتحدث بلهجة عنصرية عن الوضع في البلاد ويُقسم المواطنين إلى مواطنين من أصول عربية مستأثرين بالسلطة والمال والوظائف ومواطنين من أصول أفريقية تم حرمانهم من الحق في الوظيفة والحق في الحياة الكريمة.. وقال بلهجة مقززة: (بالسودان عنصرية وجهوية وتمييز وتحيز وإقصاء على أساس النوع والجنس والقبيلة).. وتحدث عن انتهاك حقوق الأقليات المسيحية.. وقسم المواطنين من حيث نيل الحقوق وحرمانهم في ولاية جنوب كردفان إلى عرب وأفارقة!
هذا قليل من كثير قاله “عمار أموم” في خطابه، ورسم صورة مأسوية عن المجاعة في جبال النوبة.. فهل حقاً هناك مجاعة في جبال النوبة؟؟ أم هي مجرد مزايدات ومحاولة لاستدرار عطف المجتمع الدولي والإقليمي لفتح مسارات الإغاثة من خلال عملية شريان حياة جديدة مثل تلك التي أطالت أمد النزاع في جنوب البلاد وأدت في نهاية الأمر إلى انقسام الجنوب وذهابه لسبيله؟؟ وعبّر الرجل عن خيبة أمله في الواقع الراهن، وقال في استحياء: (إذا لم نتوصل لاتفاقية تخاطب جذور مشاكل التهميش والنعرة والتفرقة وانتهاكات حقوق الأقليات وحقوق الإنسان وإقرار نظام ديمقراطي، فإن الحركة الشعبية لديها خيارات سياسية أخرى ستطرحها).. وتلك فقط إشارة إلى حق تقرير المصير الذي تراجع في المسافة ما بين هيبان وأديس أبابا.. وفي القيد الزمني من يوليو الماضي إلى فبراير، حيث عقدت الحركة الشعبية مؤتمرها التأسيسي في بلدة هيبان ورفعت في ذلك المؤتمر شعارات حق تقرير المصير خفاقة.. ولكنها هنا أشارت إليها مجرد إشارة كخيار بديل (قد) تضطر الحركة للذهاب إليه، فما بين هيبان وأديس أبابا تغير بعض الشعارات.. لماذا تم ذلك؟ وكيف؟ هذا ما نخوض فيه في الحلقة القادمة من هذه القراءة في أوراق مفاوضات السلام.
– نواصل –