أخبار

تقليب في صحفات العمر (1)

{ بدءاً من هذا المقال سأحاول تقليب صفحات طواها الزمان، وأخاف عليها من النسيان.. بل أخاف أن أدخل بقصد في قبيلة المُشافهين.. وهي قبيلة يتسع منتسبوها يوماً بعد يوم.. يتحدثون عن الذكريات ولا يكتبون وقائع هذه الذكريات.. لهذا عزمت وبحول الله أن أضع في مقالي أسبوعياً شيئاً من تلك الصفحات.. ومقال اليوم فرضته عليَّ كلية القانون بجامعة الخرطوم التي اعتز بانتمائي إليها.. وهو مقال نشرته في نشرة الكلية قبل شهور تعدت العام، ثم هي أغرتني أن أنشره في إحدى الصحف.. وهم يعنون (المجهر)، وها أنا أفعل.
{ أكتوبريات .. (محاولة أن لا تنسى)
كان اليوم الدراسي عادياً.. بدأ صباحاً في الثامنة (قانون روماني)، الأستاذ المحاضر كان من سرينلكا.. يدعي “مارسينق”.. للهنود وهم يتحدثون الإنجليزية نبرة لها مذاق توابلهم الحراقة.. تختلط الحروف وتلتصق ببعضها البعض، وأحياناً تتقاطع فلا تسمع الجملة التي قيلت من التي تأتي بعدها.. زد على ذلك القانون الروماني ومفرداته الآتينية.. ولسان “مارسينق”.. وضعف حيلتنا ونحن في الشهور الأولى من السنة الأولى 21/10/1964م.
ثم بعدها (تيوتوريال) للقانون الجنائي! الأستاذ شاب أنيق ذو لحية سوداء تكاد تغطي صفحة الوجه، قمحي اللون، عليه وضاءة الشباب وفتوة العلم.. يرتدي بدلة باريسية الحياكة وربطة عنق منسجمة مع القميص أنيق اللياقة.. رشيق الخطى ولسانه بالإنجليزية يحبب إليك الاستماع، وربما يعوضنا عن بعض لكنة “مارسينق”.. نظراته حادة يكلمك بها دون أن ينطق لسانه، يتبعها بابتسامة ساخرة تعض كبد من يقصده باسماً وناظراً.. اسمه “حسن عبد الله الترابي”.
(التيوتوريال).. هي مسلخ في العصب الحي.. يسأل فنجيب، فإما نظرة وشبه ابتسامة أو هزة بالرأس لا تعرف إلى أين تؤشر، والمرجع “قلانفيل وليم” كتاب في جسمه سعة للورق المكتوب والسوابق المعجونة بخبرة قضاة.. اللورد “ديننق” وقبيلته اللوردات وبعض من علماء هنود.
وبعد محاضرة الشريعة تقسم المواريث بحصافة شيخنا الضرير الذي تسأله، فيقول لك من قال؟ تقول: “عبد الله بن مسعود” فيقول: طب مالو، وينتهي السؤال، ويبدأ سؤال منه عن (الكلالة).
خرجنا من الجامعة ميممين وجوهنا شطر (الصُفرة) قاعة الطعام في (البركس).. وهي متعة نفتقد صحونها الطازجة في بيوتنا إلا في يوم فرح (تخين).
الساعة الخامسة نذهب جميعاً للمكتبة لمراجعة ما طلب منا الدكتور “الترابي”.. ود. “عبد العظيم شرف الدين” عن الوكالة والولي في عقد النكاح (وتحرير العبيد) في القانون الروماني.. خرجنا باكراً من المكتبة؛ لأن ندوة على وشك الانعقاد في البركس عن (قضية الجنوب) ولم يدر بخلدنا ما سيقع من أحداث جسام بعدها.
قبل بداية الندوة لم (نفوِّت) العشاء واللبن الذي امتلأت به (الجُكوك) والباسطة الرائعة، الباسطة السمن والسكر.
أكلنا وشربنا وطربنا وذهبنا إلى مكان الندوة.
الكراسي ملأت الساحة، وقد جلس عليها عليّة القوم أماماً، وكذلك الطلاب القدامى، أما نحن (البراليم) الجدد، فقد اكتفينا بالصفوف الخلفية.. جلسواً وجلسنا.. حرصنا نحن أولاد (القانون البراليم) أن نجلس سوياً في صف واحد.
آه تذكرت، ونحن نخرج من المكتبة طلب مني صديقي “بابكر عبد الحفيظ” أن أعيره كراستي في القانون الجنائي.. يريد أن يكتب منها سابقة.. أعطيته إياها محذراً بأن خطي أقرب لخط الفراعنة.. أخذ الكراسة مبتسماً.. ولم يعدها! لأن بعد الندوة والليلة كان الطوفان!
لم نكترث لما كان يقال.. ولم نتابع بكثير اهتمام ما يقولون..
وفجأة دوى صوت انفجارات لئيمة وعمّ المكان (غاز.. العيون والحناجر) وجاط الأمر.. ثم تلى الهرج والمرج والغاز والمباغتة صوت طلق ناري حي.. وكنت لحظة ذلك قد فررت كالسهم نحو مكان آمن من الرصاص والغاز.. وأنا أجري (خبطت) سريراً ووقعت على (قفاي) ونجوت من الرصاص.. الليل دخل ثلثه الأول أو زاد عليه قليلاً.. وفي وسط الظلام صاح صوت معلناً سقوط طلاب صرعى بالرصاص.. “أحمد القرشي”.. جاءني آخر منتحباً: “بابكر” مضروب.. قضينا الليل أمام مشفى الخرطوم.. تأكد لنا استشهاد “أحمد القرشي”.. “بابكر” في غرفة العمليات تُجرى له عملية جراحية بالبطن.
كان الصباح بلون الحمى.. وكذلك ميدان عبد المنعم.. حيث أقيمت الصلاة التي تلاها هتاف لهب وسعير.. بعدها انطلق الموكب نحو (القراصة) موطن الشهيد “القرشي”، التي ترقد على صفحة بحر أبيض.. اشتعل الشارع وسرت في الناس قشعريرة الموت وشرارة الغضب وبدأت ملامح الثورة تنجلي.. قرارات تتبعها قرارات..
كان همي أن لا تغلق الجامعة.. وشاطرني في ذلك كثير من الطلاب، فإغلاق الجامعة كان يعني لنا الكثير.. ومنها إغلاق (قاعة الطعام).
الوعي يغيب أحياناً وسط أمور تافهة!!
أخرج “بابكر عبد الحفيظ” من غرفة العمليات.. وطمأننا عليه الأطباء.. كلنا نأتي كل مساء ونسهر معه في (عنبر) المستشفى.. كلما أنوي أن أطلب كراستي كان يغلبني الحياء.. بعد أسبوعين شهق “بابكر” الشهقة الأخيرة، وكأنه يهتف..
سرنا خلف الجثمان واجمين..
“بابكر” وادع وديع.. في وجهه بعض حزن مكتوم.. مستدير الوجه، له عيون تبرق بوهج غريب، ومازالت صورته عالقة.
ما عرفنا كثير شيء إلا بضع أشهر فقط.. تحديداً تعارفنا في الكلية من يوليو وحتى 21 أكتوبر، لكنها استقرت في صدورنا سنوات طوال.
ويوم ألحدنا أم درمان (البكري) الجثمان الرمز.. دفنا معه في صدورنا غيظاً لاهباً وحزناً شديد الوخز آناء الليل وأطراف النهار..
غير أن الشهيد.. وفقد الصديق شهيداً أمر آخر.. فهل تكون من السبعين الذين تشملهم شفاعته..
نرجو ذلك، وليس ذلك على الله ببعيد.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية