خواطر مهاجر
“دار مالي” وجنينة الخواجات
د. عثمان غانم عثمان
مرت الأيام وأنا أقضي عطلتي بـ”دار مالي” ونسيت تماماً أنني أعيش في كندا.. مدينة تورنتو.. أنظف مدينة في شمال أمريكا.. حتى الأمريكيين من نيويورك ولوس أنجلس يدهشهم رونق ونظافة تورنتو.. نسيت كل ذلك.. نسيت تماماً نسق الحياة في الغرب.. نصيحة الطبيب اليهودي في كندا، التي شدد فيها على ألا أتجول في حرارة الشمس ضربت بها عرض الحائط.. فحرارة الشمس أصبحت لا تعنيني في شيء.. إنني لم أخلق في بلا الغرب.. بل خلقت بـ”دار مالي” وسأظل ابن “دار مالي”.. وأكرر مرة أخرى.. إنني كالصخرة الصلدة.. لا تغيرني الظروف ولا أتغير بها.
في صباح يوم جميل قررت أن أمتطي حمار أبي للتجول في الأنحاء البعيدة من “دار مالي”.. لقد كان “عبد الشافع” مشفقاً عليّ وهو يراني أسرج الحمار وأحاول الركوب على السرج.. إنني لا أحاول فعل شيء خارق للعادة.. ففي ماضي الأيام كنت أمتطي أشرس الحمير في “دار مالي”.. كنا أطفالاً لا نتعدى السادسة من العمر.. أنا و”عبد القادر الشيلاوي” و”رمضان يس”.. كنا نطوف بالحمير ونذهب إلى أنحاء واسعة حتى السلمة وبانت والسدر والسعدابية… لا نخشى شيئاً.. نعم نحن أطفال.. لكن البلد أمن وأمان.. ..”دار مالي” أرض السلم والسلام.. لا يخشى أهلنا علينا ولا نخشى على أنفسنا.
سلكت الطريق الذي تعودنا أن نسلكه عندما كنا أطفالاً.. طريق “الشيلاوي” ثم ننحرف قليلاً للمرور ببيوت المرحوم “شيخ البلد”.. ثم بدكان “فضل المولى”.. ثم المحكمة.. إن لي ذكريات عميقة في هذه المنطقة حول المحكمة.. قبل أن أدخل المدرسة.. وفي هذا المكان قرب المحكمة توجد “مزيرة” في الجهة الأخرى من الشارع.. كنا نلعب بداخلها ونكتب على حيطانها.. في هذا المكان بالذات تذكرت فجأة عندما مات السيد “علي الميرغني”.. هذا المكان كان مليئاً بالنساء والرجال.. ما زلت أذكر ضرب النقارة.. وهي عبارة عن طشت مليء بالماء وبه ثلاث أو أربع قرعات يابسات يطفحن فوق الماء ثم تقوم إحدى النساء بضرب القرعات بعصي طويلة ويحدث هذا الضرب صوتاً حزيناً وتولول النساء بالنواح.. هذه الصورة ماثلة أمامي حتى هذه اللحظة.. عندما أذكر هذا الحدث لأمي كانت لا تصدق أنني أتذكر أحداثاً مثل هذه وأنا في هذه السن المبكرة.. ولكني كنت أفاجئها بأنني أتذكر عندما تجمع الناس من كل القرى المجاورة في محطة “دار مالي” عندما نقل جثمان أحد أبناء “الميرغني” من حلفا إلى حلفا الجديدة.. أذكر حتى هذه اللحظة الطبول والدفوف والدراويش وأهل الطرق الصوفية بثيابهم الخضراء.. والذبائح والفتة.. و”الحيقلو”.. ولعل هذا الحدث كان قبل عدة أعوام من وفاة السيد “علي الميرغني”.
إنني إنسان أعيش على الذكرى.. استلهمها في كل لحظة وحين.. سلكت طريق العربات حتى أمر على “البسطة” القابعة في بيت العجمي.. وأسير وسط المزارع حتى أوازي الترعة المتفرعة من النيل.. وانطلق من هناك عبر طريق زقزاقي قاصداً جنينة كركور.. على الرغم من أنه مضى عليّ زمن طويل لم أمتطِ حماراً.. وعلى الرغم من الآلام التي بدأت أحس بها في أعلى فخذي، إلا أنني كنت مستمتعاً برحلتي هذه أيما متعة.. لقد كان من فرط مهاراتنا مع الحمير أننا كنا نخلف ساقاً على الساق الأخرى ونهش الحمار حتى يسرع في السير.. كنا نتبارى في اختلاق بعض الحركات البهلوانية أثناء سير الحمار.. وكنا نتفنن بحيث نقف على أقدامنا مرة وننزل ونركب مرة أخرى.. وفي بعض الأحيان نمتطي الحمار بالعكس، أي (بالقلبة) كما نسميها.
لا أستطيع أن أفعل كل ذلك الآن.. في تلك اللحظة نسيت آلام الفخذين، وبدأت في استلهام الذكريات البعيدة.. كل شبر من هذه الأرض يذكرني بالماضي البعيد.. أرى أمامي نفس المكان الذي كان يقف فيه تراكتور “عبد الماجد الأحمدي”. أذكر أننا كنا جمعاً من الأطفال.. كنا نلعب حول التراكتور.. أذكر فيمن أذكر “محمد حامد الصادق” و”أحمد محمدين” و”محمد عبد الماجد الأحمدي” و”الزين أحمد كرم الله” و”عبد اللطيف فضل المولى”.. عندما وجدنا الجو خالياً، اشتد حماسنا وبدأنا نتسلق التراكوتر.. أمسك “محمد عبد الماجد” بعجلة القيادة، وأخذ “أحمد محمدين” يحرك الآلات المختلفة حتى تحرك التراكتور من مكانه مسافة ليست بالقصيرة.. في هذه اللحظة أصابنا الذعر وفررنا من المكان.. أخيراً علمت أن “أبو القاسم مر الجواب” الذي على ما أظن كان بالقرب من موقع الحدث، نقل إلى “عبد الماجد الأحمدي” هذه الحادثة.. لا أظن أن عقاباً قد وقع.. فشيمة أهلنا في “دار مالي” التسامح واللين وتوجيه النصح فقط.
عندما لاحت لي جنية “كركور” من على البعد ازداد سيل الذكريات المتدفق.. في هذه الأثناء تذكرت عهد الطفولة الباكرة.. أخبرني “عبد القادر” بأن هناك حفلاً كبيراً في “جنينة الخواجات” كما نسميها.. ولكي يشجعني أكثر لاصطحابه أخرج مجلة “الإذاعة والتلفزيون” الشهيرة في ذلك الزمان وأراني صورة الفنان “حسن خليفة العطبراوي”.. امتطينا الحمير وسلكنا نفس الطريق الذي أسلكه الآن، حتى دخلنا الجنينة على الرغم من شراسة الخفير العامل هناك.. الخفير من أبناء الهدندوة ويسمى “عيسى”، ونسبة لمعاملته القاسية لنا كنا نستثيرة ونناديه “بعيسى الوليد”.. كنا نرددها في شكل أنشودة “عيسى الوليد.. عيسى الوليد.. عيسى الوليد”، ونولي هاربين حيث لا يستطيع أن يلحق بنا.
في داخل الجنينة رأينا حشداً كبيراً من الناس، كلهم بملابس المدن الغريبة علينا.. وفعلاً رأينا بأم أعيننا “العطبراوي” وهو ممسك بالعود ويغني.. هو نفسه تماماً كما يبدو في صورة المجلة.. وقبل أن نتابع أغانيه أغار علينا “عيسى الوليد” وفررنا هاربين منه سالكين طريق الترعة المتفرعة من النيل راجعين إلى بيوتنا.. في ذلك اليوم غرق “الفكي فضل المولى” في البحر.. إنه يصغرنا في العمر وهو طفل ربما يكون في الثامنة من عمره.. اسأل الله أن يجعل الجنة مثواه.. لقد كان حدثاً محزناً جعلني أهاب البحر لزمن طويل.
تابعت سيري وقد لاحظت أن الجنينة ليست بذات الرونق الذي كانت عليه أيام الصبا.. لقد أصاب الجفاف بعض أجزائها.. لقد كان هناك طريق طويل نسميه “الدرب الطويل”.. يشق الجنينة إلى نصفين وقد كان محاطاً بأشجار التمرهندي الوارفة.. كنا نسلكه ونتسابق بحميرنا.. وعندما نتعب نقف لنبدأ في التقاط ثمار التمرهندي اللذيذة.. لسوء حظنا، في بعض الأحيان كان يباغتنا “عيسى الوليد” ويفسد علينا فرحتنا.
في وسط المزرعة كان هناك جدول كبير مليء بالمياه.. الآن أراه جافاً.. من الذكريات المحببة إلى نفسي في هذا المكان أن “عبد القادر” كان يستعرض بعبور الجدول بحماره دون استعمال المعبر المعد خصيصاً للعبور.. كان ينجح مرة ويفشل مرات.. في يوم من الأيام أتانا “عبد القادر” بسمكة كبيرة من ذلك الجدول وأسارير الفرح بادية على وجهه.. ذلك النوع من السمك كنا نسميه “حرويل” وذلك لكبر حجمه.. أخذ “عبد القادر” يمنينا بوجبة شهية عندما التزم بطبخ “الحرويل” عندما نصل البيت.. في البيت هناك أحضر “عبد القادر” كل أدوات الطبخ، وبدأنا في تقطيع “الحرويل”.. لسوء حظنا فإن بطن “الحرويل” كانت مليئة بالحشرات والضفادع الميتة، فقذفنا بها بعيداً ملقين اللوم على “عبد القادر” المسكين.
{ بين “دار مالي” وكندا
هذه الحياة الدنيا نحياها مرة واحدة.. فنحن فيها نمر بتجارب، منها الناجح ومنها القاسي، ومنها المحبب ومنها البائس.. ولو قدر لي أن أبدأ حياة أخرى جديدة، فسيكون اختياري أن أعيش في “دار مالي” من المهد إلى اللحد.. وذلك لأنني سأعيش حياة متوازنة لا تناقض فيها.. فماضي حياتي، عندما خرجت من “دار مالي” إلى بلاد الاغتراب المتعددة، كله متناقضات أحدثت في دواخلي عدم استقرار نفسي ما زلت أعاني منه.. والأمثلة كثيرة.. المثال الأول، أنه وفي مكان العمل في كندا نظم الموظفون مسابقة بحيث يجب ان يحضر كل واحد صورته عندما كان مولوداً جديداً، بعد تجميع كل الصور فيجب على المتسابقين معرفة صورة كل طفل.. وستكون هنالك جوائز قيمة.. جمع منظم المسابقة كل الصور.. وبدأ يتابعني ويلاحقني بأمل أن يحظى بصورة مني عندما كنت مولوداً صغيراً.. ومنظم المسابقة المسكين لم يكن يدري أنه يبحث عن سراب.. هو لا يعلم أن أول صورة لي في حياتي عندما كنت في سن الثانية عشرة، وحدث ذلك عندما رتبنا زيارة إلى عطبرة، انا و”عمر عبد الله محمد أحمد” و”محمد أحمد البحاري”.. بعد أن استمتعنا بالجلوس بقهوة “الزاكي” وشربنا الشاي، اقترح علينا “عمر” أن نأخذ صورة تذكارية بأستوديو “الرشيد” بعمارة “عبد الله الفكي محمود”.. هذه أول صورة في حياتي.. وهؤلاء الخواجات المغفلون يطالبونني بأن أحضر صورة عندما كنت طفلاً حديث الولادة.. تهربت منهم، وغضبوا مني وعدّوني غير راغب في مسابقتهم.. ولم أشأ أن أخبرهم بالسبب.. فأفقهم ضيق بحيث سيصعب عليهم فهم ما سأشرحه لهم.. عندما عرضوا صورهم وهم أطفال حديثي الولادة كانت كلها صور زاهية.. يلبسون قبعات قطنية وجوارب بيضاء وملفوفون بملافح حريرية مزركشة وموضوعون في أسرة صغيرة معدة خصيصاً لحديثي الولادة.. هم لا يعلمون أننا عندما ولدنا كانت ترعانا العناية الربانية وحنان دافق من أبوين وأسرة كبيرة وأهل بلدة كاملة.
المثال الثاني أنه وفي بداية عهدنا بكندا، وأثناء الدراسة، تم توزيعنا للتدرب في أحد البنوك.. بعد مضي عدة أسابيع قامت رئيستنا بفصلي من العمل بحجة أنني لا أسمع الكلام ولا أتبع الإرشادات.. حزنت حزناً شديداً في ذلك اليوم وكرهت اليوم الذي أتى بي إلى كندا.. وكنت أتذكر المثل السوداني فيما معناه (من ترك داره قل مقداره).. من تناقضات القدر أنني صرت رئيساً لهذه الموظفة بعد أن أنهيت دراستي.. لم أشأ أن أذكر لها واقعة فصلي وهي بدورها لم تكن تعلم أنها فصلتني من قبل.
أيام عطلتي بـ”دار مالي” تمضي كما خططت تماماً.. أنام مبكراً وأصحو مبكراً بلا منبه.. لا هموم ولا صداع ولا عسر هضم.. ولا زحمة.. أمضي النهار بالقراءة في أمهات الكتب.. وعندما يحين موعد غروب الشمس أذهب إلى جامع الإمام السيد قرب النادي.. في مسجد السيد استوقفتني ذكريات الماضي البعيد.. كنا في عطلة المدارس أيام المدرسة المتوسطة.. وقد بدأ للتو تشييد مسجد الإمام السيد.. دعاني “موسى”، وهو أحد أبناء غرب السودان وكان يقيم مع أقاربه بقطاطي محطة “دار مالي” للعمل في المسجد.. كان معنا “محمد عبد الله زروق” و”محمد القصين” وآخرون.. لقد كان هناك عدد من العمال معظمهم من خارج “دار مالي”.. ووافق رئيس العمال، وهو ليس من أبناء “دار مالي”، نسيت اسمه، على أن نعمل هناك.. وبدأنا العمل.. لقد كان من سوء حظي أن وضعني رئيس العمال مع أحد أبناء النوبة.. إنه عمل شاق بقدر ما تحمل هذه الكلمة من معانٍ.. لقد كان ذلك العامل يشتغل بهمة عالية.. وكان يحمل (الجردل) الكبير وكأنه يحمل كباية صغيرة.. لقد أوكل لي أن أحمل الطوب وأضعه في برميل مليء بالماء.. وبعد مدة ليست بالقصيرة يجب عليّ أن أفرغ البرميل من الطوب وأنقله إلى مكان آخر.. لاحظت أن بقية العمال كانوا يحملون اثنتي عشرة طوبة دفعة واحدة.. وكنا نسمي تلك الكمية من الطوب “مكنة الطوب”.. تهامسنا أنا وصاحبي وذكرته له أنه يمكنني أن أحمل نصف ذلك العدد من الطوب. لكن ليس كل “المكنة”.. وبما أن صاحبي قد أُعطي عملاً أسهل من عملي فقد شجعني على أن أصبر.. واجهت صعوبة في حمل كل “مكنة الطوب”.. وكنت حريصاً ألا الفت نظر بقية العمال لي.. لاحظت أن راحة يدي ليست من الخشونة بمكان عندما قارنتها براحة يد ذلك العامل من أبناء النوبة.. قلت في نفسي إن مصدر قوة هذا العامل يكمن في يده الخشنة.. وكنت أختفي في كل حين لأفرك يدي بالحائط وذلك حتى تخشوشنا.. بعض مضي ساعة تعبت وخارت قواي.. وحدث ما كنت أخشاه.. بدأ رئيس العمال يقترب مني.. وأظنه أشفق عليّ، وبدأ يعطيني بعض الإرشادات.. وهذا لفت نظر بقية العمال لي عندما بدأ رئيس العمال يمازحني بأن هذا العمل شاق عليّ، وذلك لأنني لم أستطع حمل “مكنة الطوب” وطلب مني إن كنت أريد أن أتحول إلى مكان آخر.. حفاظاً على كرامتي أصررت على مواصلة الشغل مع ذلك العامل النوبي.. استمر رئيس العمال في ممازحته لي، حيث كنت أبغض ذلك.. وكنت أعدّها مكايدة في غير محلها.. إن قسوة العمل تشجع البقية على اختلاق أشياء مسلية لتمضية الوقت.. عندما لاحظ العمال استمرار رئيس العمال في ممازحتي “بمكنة الطوب” بدأووا يمازحونني أيضاً.. الآن صرت موضوعاً للتسلية.. نعم إن نواياهم حسنة، لكنني لم أحب ذلك النوع من الممازحة.. أظهرت لهم عدم قبولي بمثل هذا النوع من الممازحات.
قضيت ذلك اليوم بصعوبة شديدة.. وعندما رجعت إلى البيت كنت خائر القوة. ونمت نوماً عميقاً.. مرت أيام وكان كل أملي أن يتحسن الوضع وتخف الممازحات قليلاً.. أظهرت للكل بأنني جاد في عملي.. أيقنت بمرور الزمن أن عملي في المسجد لن يستمر طويلا.. لقد كنت أبتغي الأجر والفلاح بعملي في المسجد على الرغم من أنني أتقاضى أجراً دنيوياً.
أتيت في يوم من الأيام مبكراً ووجدت “أبحمد شمس الدين” خارج المسجد وهو يحمل “زلابية” لذيذة أعطاني منها.. وبدأ يمازحني “بمكنة الطوب” تماماً مثل ممازحة رئيس العمال.. وسألته كيف عرفت ذلك؟ فذكر لي أن رئيس العمال حكا قصة عدم قدرتي على حمل “مكنة الطوب” لجمع من الجالسين أمام دكان “سعدي”.. أنا أعلم أن نوايا رئيس العمال حسنة.. وبمرور الزمن صرت لا أغضب من تلك الممازحات.. إذ أن خبرها انتشر خارج نطاق المسجد وصار أمراً عادياً في “دار مالي”.. كان يمازحني بذلك “الكرماخ” و”علي سعدي” و”عبد الرازق رضوان” و”سليقة” و”السر ود القبلة” و”عبيد”.. وآخرون كثيرون.
في يوم من الأيام لقيني في الطريق إلى البيت “محجوب الحاج”، أحد أبناء الخيراب، وأخبرني بأن هناك عملاً في طريق (بربر – العبيدية).. ليشجعني أكثر أخبرني بأن (الشغل) سهل للغاية.. إن مشقة الشغل في المسجد دفعتني لأجرب حظي.. أتيت إلى (شغل) المسجد هذه المرة والتمرد بادٍ على وجهي.. إنني أبحث عن أي سبب يجعلني أترك (الشغل) هناك.. لقد أصاب ملل الممازحة رئيس العمال والعمال.. وما عاد أحد يمازحني.. وكنت أتمنى أن يحدث أي شيء حتى يكون سبباً قوياً لترك العمل هناك.. مرت فترة الصباح كلها وكل شيء عادي.. لم يحدث شيء.. قلت في نفسي (إذا لم يحدث لي شيء فإنني سأكون أنا البادئ).
أذكر أن عدداً من زملائي جاءوا لمعاينة المسجد عند الظهيرة.. في السابق كان رئيس العمال يمنعنا من الجلوس لفترات طويلة مع زملائنا.. أذكر في من أذكر من الزملاء “عصام عبيد الله” و”محمد سر الختم” و”صلاح محمد عمر” و”بابكر طه عمر” و”أبشر العرش” وآخرين.. تعمدت إطالة الجلوس معهم حتى ألفت نظر رئيس العمال.. لقد أيقنت أن ذلك اليوم هو آخر أيام عملي في المسجد.. ناداني رئيس العمال وأخبرني بأن البرميل فارغ ولا طوب فيه ولامني على تضييع زمني في (الونسة).. هذه فرصتي إذن.. قلت له: (ليس لي وقت لذلك.. ولأنك تعاملني معاملة سيئة فإنني لا أرغب في الشغل).. كنت أحمل جردلاً رميته على الأرض بقوة.. وتركته مندهشاً وخرجت من غير رجعة.
ذهبت في الصباح الباكر إلى حيث مكان عمل طريق (عطبرة- بربر- العبيدية) جنوب “دار مالي”.. وجدت هناك أناساً كثيرين وقلابات وجرارات وعربات.. ولدهشتي وجدت زملائي العمال في المسجد.. “محمد زروق” و”موسى” و”محمد القصين”.. حيث علمت أنهم تركوا (الشغل) في المسجد أيضاً.. أعلم أنني قد قصصت هذه القصة في موضع آخر.. بعد ساعة من الوقت جاء رجل عجوز ذو نظارات سميكة وعمامة متسخة.. يثبت نظارته على عينيه بشريط مبروم متسخ.. علمنا أنه الرئيس.. أمرنا أن نصطف.. وبدأ ينتقي العمال.. أخيراً علمنا أنه يختار الأقوياء لعربات القلابات القوية الجديدة وذلك لجلب الرمل والحجارة من أماكن بعيدة.. لقد كان كل منا يمني نفسه بأن يقع الاختيار عليه.. لقد كان نصيبنا أنا وزملائي ممن تركوا العمل بالمسجد أحد القلابات القديمة.. كان السائق من أبناء بربر.. انطلقت بنا عربة القلاب في الصحراء الواقعة شرق “دار مالي”.. الأرض جرداء تماماً إلا من الأشجار الشوكية ذات المنظر البائس ونبات “الضريسة” المؤذي.. حمدت الله في نفسي أنني توقفت عن العمل الشاق في المسجد.. العربة تسير، وتمنيت لو سارت فترة أطول فالنسيم عليل في هذا الوقت من الصباح.. لقد تخطينا (الدمبو) الذي يذكرني بـ”حامد حسن” وهو يلبس لبساً رياضياً أصفر، عندما يمارس رياضة الجري حتى (الدمبو).. وكنا في بعض الأحيان نجري خلفه.. أخيراً وصلنا مكان الرمل الجيد على حد قول السائق.. أنزلنا أدوات الحفر و”الكواريق”.. وأمرنا السائق بالبدء في ملء القلاب بالرمل.. أمسكت “الكوريق” بكلتا يدي وجعلته يغوص في الرمل.. وعندما حاولت تفريغ “الكوريق” في القلاب ارتد الرمل وملأ رأسي ودخل في عيني وأنفي.. حاولت ذلك عدة مرات من غير نجاح.. عندما نظرت إلى بقية العمال وجدتهم ليسوا بأحسن حالاً مني.. قلت في نفسي إن (شغل المسجد يعدّ نزهة إذا ما قورن بهذا الشغل الشاق).. وندمت على تركي العمل في المسجد.. أشفق علينا السائق ولم نملأ حتى ربع القلاب بالرمل.