رئيس الدائرة الاقتصادية بحزب الأمة القومي "صديق الصادق المهدي" في حوار مع (المجهر) (1-2)
ارتفاع الأسعار سببه السياسات الاقتصادية الخاطئة
اختلاف الأسعار وزيادتها يومياً مرتبط بسعر الصرف
ضبط السوق لا يحتاج إلى معالجات (ترقيعية) للاقتصاد
البرنامج الثلاثي فشل في تخفيض الإنفاق الحكومي
شهدت البلاد خلال الأيام الماضية ومع إجازة الموازنة العامة في الحادي والثلاثين من شهر ديسمبر المنصرم ارتفاعاً مبالغاً فيه بأسعار السلع الأساسية، مع أن وزير المالية بشر المواطنين بعدم زيادة أسعار الأرز والقمح والفول في الميزانية الجديدة، بيد أنه تم تحرير سلعة القمح فارتفع سعر الجوال من (167) جنيهاً إلى (430) جنيهاً وأصبح سعر الرغيفة واحد جنيه. ووجِهت الموازنة باعتراض من بعض نواب البرلمان، بل تقدم أحدهم باستقالته احتجاجاً.. وترافق ذلك مع احتجاجات طلابية شهدتها جامعة الخرطوم، وأخرى شعبية شهدتها بعض مدن الولايات، ومع ذلك ظل ارتفاع الأسعار مستمراً.. وتوقع عدد من الخبراء الاقتصاديين زيادتها مع بداية تطبيق السعر الجديد للدولار الجمركي، لا سيما أنه سيترتب عليه ارتفاع في كل السلع. (المجهر) استنطقت رئيس الدائرة الاقتصادية بحزب الأمة القومي “الصديق الصادق المهدي” الذي عزا ارتفاع الأسعار إلى السياسات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة منذ عدة سنوات، عقب فقدان البلاد لأكبر مورد للميزانية، وهو البترول، ودعا إلى ضرورة إيجاد حلول جذرية لمعالجتها. وتحدث “الصديق المهدي” عن العديد من القضايا ذات الصلة بالوضع الاقتصادي وتطوراته، في الحوار التالي..
حوار- وليد النور
{ ما هي قراءتك لارتفاع أسعار السلع خلال الشهرين الماضيين؟
_ ارتفاع الأسعار مرتبط بمشاكل الموازنة وهي الحلقة الأخيرة من نتاج تراكم سياسات اقتصادية خاطئة ارتكبتها الحكومة، وانعكست سلباً على معيشة المواطن وتؤدي إلى غلاء وزيادة في الأسعار، فمثلاً توجد بلدان يمكن أوضاعها الاقتصادية سيئة، ولديها مشاكل اقتصادية شبيهة، لكن مواطنيها يتحملونها.. لكن ما يعيشه الشعب السوداني من مأساة ومعاناة وغلاء الأسعار هو بفعل المسؤولين القائمين على الأمر، والسياسات الخاطئة بيدهم وقراراتهم.
{ ماذا تقصد تحديداً.. أن السياسات الحكومية هي السبب المباشر؟
_ الحكومة ارتكبت سلسلة من الأخطاء عبر سياسات خاطئة ألقت بأعباء ثقيلة على المنتج وعلى المتعاملين مع السلعة الذين يوصلونها للمواطن، لذلك هذا الغلاء والزيادات المتوالية والسلعة أصبحت في اليوم لديها أكثر من سعر وفي اليوم الثاني لها سعر مختلف.
{ هل تذبذب أسعار الدولار له علاقة بذلك؟
_ حقيقة المسألة مرتبطة بارتفاع سعر الدولار مقابل العملة المحلية، لأن لدينا استيراداً ضخماً، والدولار ينعكس على كثير من السلع. لذلك فإن الزيادات المتتالية للأسعار مربوطة بالأسعار المتتالية للدولار، فضلاً عن السياسات الخاطئة، كلها تؤدي لارتفاع معدل التضخم والتضخم بدوره يؤدي لزيادة الأسعار، ويقع العبء على المواطن في تكلفة المعيشة.
{ التجار.. ألم يكونوا جزءاً من ارتفاع الأسعار؟
زيادات الدولار الجمركي إلى (300%) والزيادات في الموازنة ساهمت في رفع أسعار الخبز لـ(100%) هذه زيادات مباشرة من الموازنة، ومربوطة بالسببين الاثنين، المشار إليهما: الدولار والتضخم. لذلك أصبحت مسألة الأسعار في متوالية وفي تصاعد مستمر من اليوم أو أثناء اليوم، بالنسبة لنقطة التجارة.. طبعاً حقيقة السوق ليس فيه ضوابط كافية، وتجد لدى كثير من التجار أن التسعيرة ليست ثابتة بين تاجر وآخر.. هذه مشكلة في مسألة الإدارة والمتابعة.. هذا جانب، لكن الجانب الأكبر أن التاجر والمنتج أيضاً لديه مشكلة، فهو عندما تكون لديه بضاعة في ظل عدم استقرار الأسعار والمدخلات التي يوفر بها المنتج يفكر في أنه سيحتاج لتعبئة الرف، بعد أن يفرغه، لذلك يكون في حالة سباق مع تزايد المدخلات، ويقوم برفع الأسعار.
{ هل العلاج يحتاج إلى مزيد من الضوابط والإجراءات الإدارية؟
_ لا.. العلاج ليس مسألة مزيد من الضوابط.. هذا هو الخطأ الكبير الذي تسير فيه الحكومة، مسألة المعالجات الترقيعية.. العلاج هو أولاً تشخيص علل الاقتصاد السوداني جملة وحلها.
{ ما هي علل الاقتصاد؟
_ اقتصاد البلاد يعاني من الإدارة الخاطئة، مع خلل في ترتيب الأولويات لدى تنفيذ البرامج الاقتصادية، والأولوية الآن ليست رفاهية المواطن أو العيش الكريم له، بل الأولوية للحكومة هي حماية كرسي السلطة، لذلك هذه مشكلة تؤدي إلى لخبطة، وكذلك مشكلتي التمكين والفساد مربوطتين مع بعضهما.. وهذه من المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد. مشكلة التخطيط وحتى لا يلقى الكلام جزافاً بدون أسس، قبل الانفصال كنا نعتمد على البترول كمورد رئيسي في إيرادات الدولة، والبترول كان يمثل أكثر من نصف الإيراد الكلي للدولة وثلاثة أرباع عائد الصادر.
{ ماذا حدث بعد الانفصال؟
_ ما حدث هو أن هنالك مشكلة التخطيط، اعتمدنا على إيراد البترول مع أنه مورد غير متجدد، ونحن موقعون على اتفاق ينص على حق تقرير المصير للجنوب. أي هناك احتمال، على الأقل مناصفة أن يحصل الانفصال، مع أن اتفاقية السلام فيها خلل كبير لأنها جاذبة للانفصال، لأنك قلت للجنوب أنت معي تأخذ نصف بترولك.. إذا انفصلت تأخذ كل بترولك. وطبعاً ح ينفصل، مع الأوضاع والمؤشرات الواضحة لم يحدث ترتيب لاستبدال بترول الجنوب مع تأثيره الكبير.
{ لكن الحكومة عقب الانفصال استحدثت البرنامج الثلاثي للفترة 2012- 2014م؟
_ البرنامج الثلاثي قررته الحكومة لاستحداث بدائل لبترول الجنوب، والذي جاء في الفترة من 2012 – 2014 أي بعد وقوع الانفصال وحدوث العجز في الموازنة، ودخلنا في دوامة ما زلنا فيها إلى الآن، لذلك المحاولات والإجراءات المحدودة التي تحاول الحكومة إجراءها هي مجرد حلول ترقيعية محدودة. نحن حصلت لنا مشكلة كبيرة في الاقتصاد وفقدنا مورداً ضخماً جداً كان يرفد الاقتصاد بعائد ضخم راح بجرة قلم، بدون تحضير أو ترتيب منا.
{ إذن هنالك خلل؟
_ الخلل الكبير هو التفكير أن تذهب الدولة واقتصادها بدون عمل تغيير جذري، وللأسف المشكلة الأكبر من هذا البرنامج الثلاثي قُرر فيه أن ينزل الإنفاق سنوياً بنسب السنة الأولى (25%) والثانية (20%) والثالثة (20%)، وفشل تخفيض الإنفاق في السنوات الثلاث، ليس فقط لم ينفذ أصلاً، بل ارتفع الإنفاق في كل سنة واستمر الإنفاق في حالة زيادات فلكية.. هذا مع الوضع الذي كان يدعو لحل جذري بتخفيض الإنفاق.. لذلك هذه مشكلة كبيرة.
{ تعني أن البرنامج الثلاثي فشل؟
_ أتفق مع ما ظل يدعو له المراجع العام بضرورة ولاية وزارة المالية على المال العام، وإيقاف التجنيب.. منذ 2005م وكل سنة المراجع العام يكرر هذا الكلام، لأن وزارة المالية ليست هي الولي على المال العام، والتجنيب مستمر، وهذا أكبر مدخل للفساد لأنه مرتبط بالتمكين.. طبعاً لذلك تخفيض الصرف فشل فشلاً ذريعاً بدون إيجاد موارد حقيقية، لذلك يحدث الخلل الذي نعيشه، وتنعكس السياسات بزيادات في الأسعار، والمزيد من أعباء التكاليف والأخطاء الاقتصادية على المواطن المسكين المغلوب على أمره.
{ هل الاقتصاد يواجه مشكلة تخطيط؟
_ التخطيط هو مشكلة أساسية في الاقتصاد عندنا.. المشاكل الأخرى، بجانب إشكالية التخطيط، نحن في بنود زيادة الصرف عند استخراج البترول في 2000 صرفنا على الولايات صرف من لا يخشى الفقر، والآن بعد ذهاب البترول ما زلنا نزيد الولايات بدل تخفيضها، وهذا أمر غريب جداً، ومن المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد المقاطعة والعزلة الدولية.. نحن مهما يقال نعيش عزلة دولية كبيرة، وعلينا قرارات من مجلس الأمن تحت الفصل السابع، وعلينا عقوبات دولية وأمريكية وهذه مكبلة للاقتصاد. ولا ينصلح حال الاقتصاد وتعود الأمور لطبيعتها إلا بتطبيع العلاقات الدولية، واتفاق وإعادة العلاقات وعودة السودان للأسرة الدولية.
{ إذن ما هي الحلول؟
_ مشكلة الحرب القائمة أنها على حساب الإنتاج، لأنها ترفع الصرف وتخرج مناطقها من الإنتاج، تلك المسألة تحتاج لجدية من الحكومة في تحقيق السلام. يوجد كلام ونوايا ومخرجات حوار، لكن الجدية التامة لتحقيق السلام لا تتوفر لها إرادة الآن، كذلك الاعتماد على الدخل الريعي، وهذا جعلنا نعتمد على البترول. لازم يتم توجه تام لقطاع الإنتاج الحقيقي بدعم الزراعة والصناعة. وهذا للأسف حصل قرار بالتوجه إليه في البرنامج الثلاثي لكن لم توجد موارد لتمويل بياناته. والسياسات الحالية فرضت أشياء ضد الإنتاج والمنتجين، ونحن نسير عكس الحلول في هذه النقطة.
{ كيف؟
_ الحلول تحتاج لإصلاح سياسي يحقق السلام والتوافق بين الفرقاء والعلاقات الدولية وإصلاح اقتصادي يهدم إمبراطوريتي الفساد والتمكين، ويتوجه بكلياته نحو الإنتاج، ويعد برنامجاً متكاملاً لإزالة الفقر، لأن المجتمع السوداني يعيش حالة فقر شديد جداً. وفي دراسات سابقة حدد اقتصاديون على رأسهم “إبراهيم البدوي” نسبة الفقر في 2012 بحوالي (46.5%).. في العام 2009 الدولار كان (2) جنيه، والآن نحن تجاوزنا الـ(30) جنيها وجاءت زيادات في الأسعار والتضخم مرتفع يتراوح بين (20-40%)، وفعلياً يتجاوز هذه الحدود بكثير، بناء على هذه العوامل وصلوا إلى أن نسبة الفقر (80%) في المدن و(90%) في الأرياف. وهذا فقر شديد يحتاج من الدولة والمجتمع السوداني وقواه السياسية ومجتمعه المدني مع المجتمع الدولي أن يتبنوا برنامجاً متكاملاً لمواجهة ومحاربة ومكافحة الفقر. وهذا العمل إذا تم بهذا الشكل هو الشيء الوحيد الذي يجعل السودان يمشي في الطريق الصحيح ويخرج من دائرة العجز الاقتصادي والفقر. والمبشر (في هذه الحتة) هو أن الموارد الكثيرة غير المستغلة لو تم استغلالها وإدارتها بصورة صحيحة، فإنها ستوفر مخرجاً من الأزمة الراهنة.
{ الموازنة جاءت بعجز قدرته وزارة المالية بمبلغ (28) مليار بينما قدره الاقتصاديون بحوالي (55) مليار جنيه.. كيف تنظر لهذه “المغالطة”؟
_ أول شيء، نحن لدينا مشكلة في موازناتنا أساساً، هي في حقيقتها لا تعبر عن واقع الصرف والإيراد في الدولة، هذه الموازنة ورقة مؤشر ولكن واقع الصرف والإيراد بعيد عنها، (وحتى لا يلقى الكلام ساكت)، ما هي الأسس التي بني عليها هذا الكلام؟ لأن باب التجنيب مفتوح ووزارة المالية ليست الولي على المال العام بشهادة المراجع العام، مع وجود وحدات لا تسلم حساباتها للمراجع العام. وهذا الكلام قاله نائب المراجع العام في الصحف، قال: (نحن مناديبنا يطردون من الاستقبال في بعض المؤسسات).. أثناء العام تحدث زيادات تؤثر على الموازنة.. طيب إذا كان يحدث كل هذا ما هو مدلول الموازنة أساساً؟ كل هذه الأشياء تجعل الموازنة ورقة بلا معنى، أو ليس لها دلالة على واقع وحقيقة الصرف والإيراد في الدولة.