113 سودانياً.. رحلة البحث عن المستقبل وقصة (الرغيفتين) والحلاوة..!
حوالي الساعة التاسعة من مساء أمس الأول (الاثنين) حطت الطائرة المصرية التي تقل المفرج عنهم من السودانيين الذين احتجزتهم السلطات المصرية لنحو عشرة أشهر في سجونها بتهمة (تعدي الحدود)، علامات الفرحة يمكن ملاحظتها بسهولة ويسر في وجوه القادمين، ومن (التكبير والتهليل) الذي انطلق من حناجرهم وحناجر من كانوا في استقبالهم والعناق الحار بعضهم لبعض وكأنما هم لا يصدقون أنهم غادروا مصر وسجونها، وعادوا لرحاب الوطن الفسيح، لترتج صالة الحج والعمرة التي كانت في استقبالهم على هتاف (سير.. سير يا البشير.. نحن وراك يا البشير) وغيرها من عبارات الثناء على رأس الدولة رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير”، الذي عاد بهم تماماً، كما عاد الرئيس المصري “أحمد مرسي” منتصف يوليو الماضي بالصحفية المصرية “شيماء عادل” التي اعتقلتها السلطات السودانية في تهم ربما لا علاقة لها بتهمة (تعدي الحدود) المشكوك في روايتها من لدن كثير ممن أطلق سراحهم.
اختلفت الشخوص والأمكنة والأزمنة، ولكن القصة واحدة بكل فصولها ومأساتها لـ(113) سودانياً احتجزتهم السلطات المصرية لنحو عام في سجونها بتهمة ربما ليست ذات فائدة إذا عرف أن من تم القبض عليهم كانوا في صراع مع الحياة ورحلة البحث عن لقمة العيش التي توهموا أنها مقبورة تحت رمال الأجزاء الشمالية من بلادهم.
هرعوا ميممين شطر الشمال زرافات ووحدانا، أعمارهم مختلفة، وإن غلب عليها طابع الشباب، جاءوا من كل ولايات السودان بين أيديهم ما يعرف بـ(جهاز الذهب)، وفي أعينهم وميض أمل بأن القادم أحلى، لكنهم ما دروا ما كان يخبئه لهم القدر.
تباينت تفاصيل رواياتهم، لكنها اتفقت كلها على أن مجموعة من جنود الجيش أو الشرطة المصرية وتحت تهديد السلاح تأمرهم إما بالترجل من على ظهر مركبتهم وإما دهمهم على حين غفلة في مكان يحمل اسم الصحراء على الحدود السودانية المصرية واقتيادهم قسراً إلى مدينة أسوان.
وكما كانت القصة واحدة، فإن الأحكام على (المجرمين) السودانيين الذين تعدوا على الحدود المصرية كانت واحدة، السجن لمدة عام والغرامة 20 ألف جنيه مصري، ولا مجال لسماع أقوال المتهمين أو إفساح المجال للاستئناف الحق القانوني لأي متهم في كل الحقب وعلى مر العصور، في وقت أعجزت حالة الشقاق بين (الخرطوم) و(القاهرة) إبان عهد الرئيس المخلوع “محمد حسني مبارك”، الدبلوماسية السودانية، وفشلت في فعل خطوة تعيد هؤلاء إلى ذويهم ليمكثوا خاضعين في سجن أسوان لقرابة الشهرين لا تصرف لهم غير (رغيفتين) وفي رواية أخرى (رغيفة واحدة)، وقطعة من الجبن أو الحلوى(طحنية) للبقاء أحياء لـ(24) ساعة بعد أن ظل لقاء الطبيب حلم يراود المرضى منهم لأيام قبل أن تتحقق المعجزة.
(عاملونا أسوأ معاملة يا أخي وكأننا أعداء لا أشقاء)، وكأنما كانوا على اتفاق حتى في اختيار الكلمات التي توصف الطريقة التي عاملتهم بها السلطات المصرية من لحظة القبض عليهم وإلى لحظة الإفراج عنهم، بعضهم قال إن شكل المعاملة اختلف نوعاً ما بعد انتخاب الرئيس الجديد “محمد مرسي”، وبعضهم أكد في امتعاض وغبن أنه لا فرق بين “مرسي” و”حسني” في إشارة منهم للرئيس المصري السابق “حسني مبارك”، والذي عرف بعدائه للسودان.
معظمهم أصرّ على أنهم لم يدخلوا الأراضي المصرية (من أساسه) وآخرون تساءلوا: كيف نعرف أننا خارج حدود بلادنا، ولا توجد إشارات أو نقاط تفتيش أو غيرها، كل ما يعرفونه واثقون فيه أنهم كانوا هائمين في (الرحلة الحلم) بحثاً عن المستقبل الذي أضحى كالسراب كلما اقتربوا منه انسرب بعيداً عنهم، ولم يفيقوا من حلمهم هذا إلا وفرقعة السلاح في وجوههم وكلمات مثل الوجوه صارمة وآمرة أن (انبطح أرضاً ولا تحدث حراكاً).
حوالي الشهرين قضوها في سجن “أسوان” قبل أن يتم ترحيلهم إلى سجن “القناطر” داخل مصر لقضاء بقية المدة ينتظرون الفرج والانعتاق من الرغيفين و(الجبنة) أو (حلاوة طحنية) وسبر غور التمنيات بلقاء الطبيب متى ما احتاج احدهم لذلك.
(قبضونا يوم 15 شهر 10 الفات، كنا الـ13 شخصاً على متن عربة بوكس تمت مصادرته مع 8 أجهزة للكشف عن الذهب، اتهمونا بالتعدي على حدودهم ولم يقبلوا كل ما قلناه وما رووه علينا، وكذبوا عدم معرفتنا بالحدود. واستمر “عمار عبدالرحيم فرح” من منطقة “ودالحليو” يسرد لـ(المجهر) ملامح 10 أشهر في دولة مصر، قال: (المعاملة زفت وفي أسوان كعبة مرة واحد، بصرفوا لينا في اليوم عيشتين وبدونا معاه جبنة أو كيس بتاع حلاوة لو جابوه الظهر ما بنشوفوا إلا بكرة الظهر، وإذا حد تعبان ما في زول بشتغل بيهو، ما فيش ضرب ولا تعذيب، العلاجات ما في، ونحن ما عارفين الأراضي السودانية من المصرية، هم قالوا نحن دخلنا الأراضي المصرية، مكثنا حوالي شهر ونصف في أسوان بعداك مشينا القاهرة ودونا حتة اسمها القليوبية القناطر إلى أن تم الإفراج عنا، بعد جاء “مرسي” كان في تحسن لو طلبنا عيادة بنمشي والأكل بقى ما زي الأول قبل مواعيده).
قصة “عمار” بذات التفاصيل حكاها عم “سليمان عبدالرحيم آدم إسماعيل” القادم من مدينة الأبيض ولاية شمال كردفان. وأوضح أنه تم القبض عليهم 10 فبراير 2011م. وقال: هم قالوا نحن خشينا بي عشرة كيلو ونحن ما عارفين خشينا وللا لا، كنا 5 (أنفار) في عربة (بوكس) ومعنا جهاز واحد للبحث عن الذهب). وقال: (من منطقة أبوحمد مشينا (سبتة) وقدام ما عرفنا نفسنا نحن في مصر أو السودان، هناك لستكنا ضرب فضل لينا اسبير ظللنا نبحث عن مكان لإصلاحه شفنة خيمة هناك مشينا عليها لقيناهم مصرييين أرهبونا بالسلاح وضربوا فينا كم طلقة وقفنا واستسلمنا لهم. وأوضحنا لهم أننا ضللنا الطريق، وكنا بحاجة لإسبير أو إصلاح (اللستك الضارب)، اخبرونا أنهم شرطة مصرية ورفضوا إطلاق سراحنا، صادروا عربتنا وأخذونا لأسوان بعد سبعة أيام أدخلونا 10 أشهر، 2 أدخلونا لشخص قالوا إنه وكيل نيابة، يوم 17 حكموا علينا بسنة سجن و20 ألف جنيه مصري غرامة.
ويؤكد العم “سليمان” أن كل من يتم القبض عليه يحكم بهذه العقوبة، لافتاً إلى أن كافة محاولات الحكومة السودانية لإطلاق سراحهم باءت بالفشل، وأوضح أن الأكل في سجن القناطر (ما بطال)، لكنه أشار إلى أنه كان سيئاً سجن في أسوان، وأن العلاج كل أسبوع، ونبه إلى أن الأوضاع والمعاملة اختلفت كثيراً بعد مجيء “محمد مرسي”. العم “سليمان” اختتم حديثه بأنه سيعود، وقال بثقة: سنرجع ما في عوجة والمحلات البنعرفها حقتنا بنمشي ليها وما بنمشي مكان ما بنعرفه.
كانت قصته مختلفة بعض الشيء، “محمد سالم محمود” من ولاية نهر النيل منطقة (سيدون) بالقرب من مدينة عطبرة، وهو يؤكد أن القوات المصرية التي ألقت القبض عليهم داهمتهم بأحد الجبال داخل الحدود أثناء عملية تنقيبهم عن الذهب، متهمة إياهم بالاستيلاء على حوالي 3 إلى 4 كيلو ذهب، أشار إلى أنهم استخرجوها من الأراضي السودانية. وقال لـ(المجهر): إنهم كانوا 5 أشخاص صادروا عربتنا بوكس 2002 وأربعة أجهزة سودانية، وكان ذلك قبل نحو 10 أشهر. وقال: عندما جاءوا إلينا اعتبرناهم من القوات السودانية، لكننا تفاجأنا بأنهم مصريون، ونحن شغالين في الجبل ضربوا علينا نار بنشروا العربية، وقالوا لينا (نوموا بس)، في النيابة واحد اسمه أحمد، شالوا ذهبنا ودونا أسوان وشالوا موبايلاتنا، قالوا إنتو دخلتوا الحدود المصرية بـ500 متر، قلنا ليهم نحن ما دخلنا، لا 500 لا كيلو، قال حكمت عليكم المحكمة بسنة سجن وغرامة 20 ألف جنيه مصري ومصادرة العربية، الأكل عيشة وجبنة في اليوم لمدة شهرين في أسوان، ومن ثم تم نقلنا إلى القناطر.
“جودات محمد آدم حامد” من محافظة عديلة شرق دارفور، أشار إلى أنه ألقي القبض عليه يوم 14/6/ 2011م. وقال :الجماعة ديل بقبضو الناس من داخل الحدود السودانية وبستغلوا القوة والسلاح، متهماً السلطات المصرية بمصادرة (لودر) قال إنه اشتراه (جديد لنج)، وأوضح أن شكل المعاملة كان سيئاً. وعلق: في الغردقة كانت المعاملة سيئة جداً تقول ليهو عيان يقول ليك (موت يا عم)، ونبه إلى أن مثل هذا التعامل قد يؤثر في تعامل السودانيين مع المصريين المتواجدين بالسودان.
حالة من الإجماع من قبل المفرج عنهم أشارت إلى أن عدد العربات التي قامت السلطات المصرية بمصادرتها يتجاوز الـ(160) عربة معظمها (بكاسى) موديلات حديثة وأكثر من (180) جهاز كشف عن الذهب، ولم ينسوا وهم يمتدحون رئيس الجمهورية وخطوة إطلاق سراحهم أن يضعوا أمام حكومة الخرطوم حزمة من المطالب في مقدمتها الإسراع في إعادة ممتلكاتهم المصادرة، ووضع علامات لتوضيح الحدود السودانية من المصرية، بجانب نشر نقاط من القوات النظامية على طول الحدود مع مصر بعد تأكيدات معظمهم أنهم لم يروا أي ملمح يشير إلى أن هذه الأراضي سودانية أم مصرية على امتداد تحركهم في رحلة البحث عن المستقبل.