بكل الوضوح
(بصات الرفاهية) الزمان الأخضر!!
عامر باشاب
{ العبارة أعلاه (بصات الرفاهية والزمان الأخضر)، ليست عنواناً لرواية أو قصة من نسج الخيال، بل إن تلك (البصات) وتلك (الرفاهية) كانت جزءاً من واقع جميل وزمن راقٍ عشناه بكل تفاصيله المدهشة بمنطقة (سكة حديد الجزيرة) (ود الشافعي)، تلك المنطقة الساحرة بخضرتها ونضرتها، التي تقع تحديداً غرب مدينة ود مدني وشمال غرب ضاحية بركات التي ظلت تحتضن رئاسة مشروع الجزيرة.
{ (بصات الرفاهية) الحكاية الواقعية امتدت حتى أواخر الثمانينيات وخواتيم زمن التميز وعهد الازدهار بمشروع الجزيرة، وحينها كانت الدنيا ماهلة والعيشة ساهلة و(القشية معدن) و(القطن دهب) والحياة حلوة واللحظات ممتعة، عندما كانت الرعاية الصحية مجانية وكذلك التعليم الذي كان يسير في خط متوازٍ مع التربية، والتعاونيات كانت توفر كل صغيرة وكبيرة يحتاجها المواطن.
{ (بصات الرفاهية) كانت في ذلك الزمان الأخضر تأتي وتقف في ساحات عدد من التجمعات السكنية عصر كل (خميس)، تنتظر موظفي وعمال مشروع الجزيرة وأسرهم كي تقلهم بالمجان إلى حاضرة الإقليم الأوسط مدينة (مدني)، لأجل الفسحة والترفيه والتسوق.
{ وإذا كانت كلمة رفاهية في أيامنا هذه تشير إلى النتائج السلوكية لتوفير وإيجاد الحلول للتخلص من الفقر، فإنها في ذلك الزمن الجميل الخالي من (الفقر) كانت تعني توفير المناخ الملائم للعاملين في مشروع الجزيرة وأسرهم للتخلص من رهق العمل المتواصل عبر تنظيم العديد من الأنشطة الترفيهية والترويحية مثل الحفلات الشهرية والمسرحيات والكرنفالات الموسمية، ولهذا ولكثير غيره من المحفزات (كانوا يعملون بتفانٍ وإخلاص)، لم يكن هناك تسيب ولا (زوغانات) ولا استهتار بالعمل كما يحدث الآن.
{ ما زالت شاشة ذاكرتي تحتفظ بصورة والدي مهندس الكهرباء “حسن عبد الماجد” عليه رحمة الله، الذي عاش حياته مسكوناً بالهندسة والترتيب ويتنفس الانضباط حيث كان يخرج للعمل مرتدياً (الأبرول الأزرق) يدفعه النشاط وتحيط به الهمة حتى من قبل أن تنطلق (صافرة) النداء للعمل بوقت كافٍ، ويعود بعد صافرة انتهاء الدوام ليأخذ قسطاً من الراحة ثم يعاود العمل في وردية الطوارئ التي تستمر حتى وقت متأخر من الليل.
{ وما زلت أتذكر العم “صلاح الدين حسن الجمال” (الباشكاتب)، والذي ظل بهيئته الأنيقة مثالاً للموظف (نظيف القلب وعفيف اليد واللسان)، الموظف والأفندي المهندم والملتزم، المحب لوظيفته والمرتب في كل تفاصيل حياته، وما زلت وفي خيالي صورة مهندس الري القدير الحريص على العمل في كل الأوقات العم “محمد عباس كرنديس” وهو يتجول صباحاً ومساءً بالعربة (اللاندروفر) يتفقد أحوال قناطر ومحطات الري بدءاً بكيلو (99) الذي كان يسكن فيه بعض مهندسي وموظفي وعمال الري.
{ وما زلت كذلك أذكر العم “جبريل” (رئيس السواقين) الذي تعلمنا منه ونحن صغار أن قيادة السيارة فن وذوق واحترام للآخر وتقدير للطريق، وتعلمنا منه بعد أن كبرنا أن الحفاظ على (عربية الحكومة)، يعني الحفاظ على المال العام (مال الوطن والشعب).
{ بل إن صور غيرهم من (النادرين) ما زالت في خيالي تحوم جميعها تؤكد أن كل شيء في ذلك الزمان الأخضر كان يمشي بترتيب عجيب، وبالضبط والربط مع إيقاع الساعة وحركة التميز.
{ نعم، لقد كان ذلك الزمان الأخضر بالفعل، زمناً مختلفاً لم تنبت في أراضيه الخصبة بـ(الجودة والجدية) مثل أمراض هذا الزمان، زمان (الفوضى والعشوائية والتخبط والفساد والتحلل والانحلال) وغيرها من الأمراض الفتاكة التي انتشرت في جسد هذا الوطن وأصابته وأصابتنا في مقتل.
{ حقاً يا حليل زمان وسنين زمان وشخوص زمان.