خربشات
(1)
جلس “كركاب” في مقعده بالدرجة الرابعة وقطار نيالا قد توقف لنصف ساعة بسنار التقاطع.. وضع حقيبة كبيرة رسمت عليها صورة طائرة تحلق في الفضاء.. اشترى ثوباً لزوجته “كلتوم” وفستاناً.. وأحذية لبناته.. وعطوراً.. ولم ينس نصيب “كلتوم” من الصندلية والروائح النسائية.. وقليل من المحلب.. ووضع بالقرب من مقعده جوالاً ثقيل الوزن.. شرموط، سمك، كجيك، سكر، ودقيق فيني، وعدس.. كل احتياجات الأسرة وضعها في جوال كبير ونظر إليه.. بضعة آلاف من الجنيهات هي حصيلة الشهور من فبراير حتى منتصف مايو.. نظر عبر النافذة إلى قصب السكر.. وعيدان القطن.. والقطار يتحرك ببطء شديد ويطلق صافرة التوجه نحو المحطة القادمة.. أخذ “كركاب” يحصي المسافات بين سنار التقاطع، جبل موية، جبل بيوت، ربك، كوستي، الوساع، أبو كويكة، طافت بخاطره.. محطة سليمة والمياه المُرة التي يتفاداها ركاب القطار المتجه لنيالا، وتندلتي، وعشانا، والغبشة حتى أم روابة السميح، وتذكر محطة الضروس، والبجة، والفولة.. طيف من الأحلام.. وقد هبت رياح الجنوب الباردة.. بالقرب منه جلس رجل كبير في سنه من الجنوب حينما أخرج من جيبه (حُقة التمباك) فاحت رائحته شعر “كركاب” بهدوء أعصابه.. ونزلت قطرة ماء من فمه.. نظر للجنوبي وهو يضع سفة كبيرة جداً بين شفتيه بعد أن استنشق بأنفه رائحة (التمباك) حتى عطس.. مد “جيمس ألوك”، هكذا عرّف عن نفسه، إليه (التمباك)، وضع “كركاب” سفة صغيرة بين شفتيه.. شعر بالراحة والرغبة في الابتعاد عن ازدحام مقاعد عربة القطار حتى تخرج الريح منه.. وقف بالقرب من باب القطار الذي اختاره ثلاثة من الشباب مقاعد لهم هروباً من الكمساري.. زجرته امرأة كانت تستلقي على أرضية العربة: أمشي مني بعيد، رجال ما تخجلوا.. نظر إليها.. ولكنه صمت وهو الذي اعتاد مد لسانه لأي شخص.. بصق بين فتحات العربة.. تناثرت من فمه حبات تمباك.. وسقطت مرة أخرى في ثياب المرأة التي كانت تستلقي على الأرض: معليش يا أختي أنا غلطان.
_ تاني ما تجي هنا.. ما شايف الشباك داك.. أمشي غادي أنا جني وجن التمباك.
_ ربنا يهدينا يا أختي!
نظرت إليه.. بدت امرأة في العقد الرابع من العمر ترتدي فستاناً واسعاً وثوباً قطنياً أسود اللون يسمى ثوب الزراق.. سألها “كركاب”: إن شاء الله معانا لكردفان؟؟
_ لا أنا ماشة أنجمينا.
_ أنجمينا ذاتها؟؟
_ نعم أهلي هناك؟؟
(2)
نهضت من الأرض وجلست على قدميها.. وأطرقت قليلاً.. وبدأت تتحدث عن أهلها محافظة أم التيمان بدولة تشاد.. وصعوبة الوصول إلى هناك بسبب كثرة عصابات النهب.. والوحوش البشرية والحيوانات المفترسة.. غشت وجهها سحابة حزن.. مات (أبو الأولاد) في مروي.. غرق في مركب كان يعبر النيل في طريقه لتناقسي السوق.. ما عندي ولد ولا بنت سبع سنوات لم أنجب.. أطلق سراحي وأقسم بأن أبحث عن رجل آخر لأجد قسمتي.. الولادة قسمة ونصيب.. لكني رفضت مفارقة “الدومة” الذي جاء إلى منطقة أم التيمان وكان شاباً جميلاً قادماً من شمال نيجيريا طرده والده لخلافات في إدارة أمواله.. عمل في قريتنا في صناعة العناقريب وسروج الحمير.. وتزوجنا.. وبعد سنة واحدة.. هجم علينا المعارضون.. قتلوا الرجال.. واتخذوا النساء زوجات لهم.. أخذني ضابط زوجة له ليوم واحد و”الدومة” مكبل بالحديد.. ولم يبدِ مقاومة.. سأله أحد الجنود هل تترك زوجتك للقائد لتصبح زوجة له، تظاهر بالقبول والإذعان بشرط أن يطلق سراحه ليعمل في خدمة القائد.. وافق العسكري على ذلك.. لكنه في الساعات الأولى من الصباح زحف على بطنه حتى دخل القطية، لم أغمض عيني حتى ذلك الوقت بينما استغرق المتمردون في نوم عميق بعد شرب الخمره.. وأكل اللحوم.. ومعاشرة النساء المرغمات على ذلك.. هرولنا مسرعين.. خارج القرية.. ولمدة يوم كامل كان “الدومة” يجري وأنا خلفه حتى وصلنا دار السلامات.. تمت استضافتنا، ومنحنا حماراً.. كان “الدومة” يحمل عصاه ويقود الحمار وأنا على ظهره وبعد خمسة أيام وصلنا أدري.
ركبنا مع سائق عربة من الجزيرة حتى الأبيض.. وعمل “الدومة” (عتالي) في زريبة المحاصيل، وكنت أغسل الملابس في حي القبة.. وفرضت الحكومة إجراءات صارمة على الوجود الأجنبي بسبب أحداث 1976م، وجهت الاتهامات من قبل الحكومة للمقاتلين القادمين من ليبيا بأنهم تشاديون.. غادرنا الأبيض إلى شمال السودان، اتخذنا طريق الصحراء من بارا إلى حمرة الوز.. ومن هناك إلى كريمة.. عشنا وسط الشايقية،تعلمت الغناء.. وأصبحت أردد مع النساء:
يا ود أمي كيف أمسيت
عليك مثل الطيور غنيت
وبعد وفاة “الدومة” قررت العودة لتشاد.. لا أعرف الطريق لأهلي.. أظلمت الدنيا في وجهي.. هل أذهب إلى نيجيريا لأسرة زوجي السابق؟؟
نظر “كركاب” إلى المرأة الأربعينية.. حدثته نفسه الإمارة بحب النساء بطلب يدها والزواج منها في رحلة القطار: هل تقبلني زوجاً؟؟ امرأة جميلة.. وساحرة.
(3)
وضعت “كلتوم” الملابس المتسخة في عنقريب صغير.. وإناء أسود اللون يغلي على النار لنظافة الملابس.. أعادت غسل ملابس “آدم كركاب” التي وضعتها في شنطة الحديد الكبيرة.. انساب صوت الفنان “عثمان حسين” في ذلك النهار و”كلتوم” تغسل الملابس بهمة بعد أن داومت خلال الأيام الأخيرة على الجلوس طويلاً على دخان عيدان شجر الطلح.. و”عثمان حسين” يردد كلمات “السر دوليب” كأنه يعبر عميقاً عن ما في نفسها من شجن وهيام وحب لشقيق الروح:
أنا عارف حبه إليّ
داري بعطفو عليّ
نساني غرامي البيّ
قاسمني الليالي هنية
ضم الفؤاد ذكراها
أذكى الخيال معناها
لو قلتو حبيبي سلاني
ما بصدقكم
ونظر “كركاب” إلى المرأة التي بدت أجمل نساء الدنيا.. تسربلت خصلات شعرها ذات اللون القرمزي الذي يميل للاصفرار.. مد يده لمصافحتها لكنها سحبت يدها.. ونظرت إليه وابتسمت.. تغلغلت الابتسامة في دواخله. ولكن القطار أخذ يبطئ في سرعته ويطلق صافرة تعني الإيذان بالتوقف في إحدى المحطات..
و”كلتوم” ترد التحية على جارتها..
_ أهلاً قيتلوا طيبين..
_ شنو “كلتوم” أبو العيال جاي ولّا شنو؟
_ ما عارفة لكن قلت نغسل الهدوم ونستعد.. للخريف.. ولّا لطهارة البنات.
_ أنا طهارة البنات خليتها.. الناس كتروا لينا الكلام.. والخريف قالوا المطرة جات في قوز المرفعين.
_ الرجال ديل قاعدين في البحر بسووا شنو؟؟
_ “كلتومة” أختي أحسن إنت، أنا “عثمان” سبعة سنة ما عارفاه ميت ولّا حي!!
_ لا.. لا.. ليبيا الناس خلوها ومشوا العراق.. والله يا “كلتوم” نقول نمشي القاضي نطلق نفسي، لكن رجال غيره مافي؟؟
_ أصبري الراجل بجي إن كان في العمر مدد يا أختي.
_ لكن الصبر ما غلبنا يا “كلتوم” أختي؟؟
{ وحتى الجمعة القادمة بإذن الله.