"حسبو" : سنقف إلى جانب المواطنين والشمالية لها تاريخ وحضارة
مشاهد من زيارة نائب رئيس الجمهورية إلى الولاية الشمالية
افتتاح عدد من المشاريع التنموية في دلقو وعبري وحلفا ومروي
الولاية الشمالية : صلاح حبيب
عندما اتصل بي مكتب نائب رئيس الجمهورية لمرافقته إلى الولاية الشمالية لم أتبيَّن ما هي المناطق التي استهدفها الأستاذ “حسبو محمد عبد الرحمن” بتلك الزيارة، فجاءت موافقتي بالإيجاب، وكنت أظن أن الزيارة مقصود بها مهرجان البركل السياحي، لأن النشاط الوحيد بالمنطقة الشمالية كان مهرجان البركل في السابعة من صباح (السبت)، الثالث والعشرين من ديسمبر الجاري. أقلعت بنا الطائرة الرئاسية في اتجاه الولاية الشمالية وبعد الإقلاع هبطت بنا بمطار دنقلا، وإلى تلك اللحظة كنت، أيضاً، أظن أن المقصودة بالزيارة دنقلا، فتم استقبال للسيد النائب بالمطار من قبل الوالي المهندس “على العوض محمد” وتفقَّد السيد النائب طابور الشرف، ومن ثم طلب مسؤول المراسم المرافق لنا “هشام” الاتجاه مرة أخرى إلى المطار للصعود إلى الطائرة (الهيلكوبتر) المتجهة إلى مدينة دلقو، بنفس الولاية، استغرقت – تقريباً – الرحلة إليها ما يقارب الساعة وجرت مراسيم استقبال أخرى للسيد النائب بالمطار، ومن ثم بدأ البرنامج لافتتاح المشاريع التنموية التي كانت الهدف الأساسي من تلك الزيارة فدشَّن السيد النائب كهرباء المشاريع الزراعية، وهي تعد من أهم ما ينتظره سكان المحلية، إذ أن المشاريع كانت تستخدم في ريها الوابورات عن طريق الجازولين وهو من المواد المكلفة في عمليات الري فارتسمت الفرحة على شفاه المواطنين بعد أن تدفقت المياه بكميات كبيرة ما أن ضغط السيد النائب على زر التشغيل، وبذلك بدأ الموسم الزراعي الشتوي، سألت أحد المسؤولين عن الأراضي الزراعية التي كانت تزرع عبر الطلمبات قبل دخول الكهرباء، فقال لي كانت المساحات التي تزرع بالطلمبات لا تتجاوز الألف وخمسمائة فدان، وقلت له: كم المساحة التي ستزرع بعد دخول الكهرباء، فقال لي: الآن يمكن أن تزرع كل الأراضي الزراعية التي كان من المفترض زراعتها، وتقدَّر بستة وعشرين ألف فدان، وأولها القمح والبقوليات، ما يمد المنطقة وبقية مناطق السودان بمحصولات زراعية متنوِّعة.
تحرَّك السيد النائب ووفده المكوَّن من بعض وزراء الدولة الاتحاديين “أحمد الكاروري” وزير الدولة بوزارة الإرشاد، و”أوشيك” وزير الدولة بوزارة الري والكهرباء و”حامد الوكيل” وكيل وزارة الطرق والجسور والسيد “بلة” من ديوان الزكاة و”عبد الرحمن حجاج”، من الكهرباء والسيد “عصام ميرغني” نائب الدائرة والأستاذ “الطيب حسن بدوي”، وزير الثقافة والإعلام الاتحادي والأستاذ “معتصم العجيمي” زعيم الكتلة البرلمانية وعدد آخر ممن رافقوا السيد النائب كانت المحطة الثانية للافتتاحات المركز الخيري ثم قام السيد النائب بافتتاح مبنى محلية دلقو، وهو من الصروح التي شيِّدت بطريقة حديثة ويعد أعلى مبنى في المنطقة، إذ أنه يتكوَّن من عدة طوابق ومهيأ بصورة رائعة. جلس السيد النائب مع عدد من المسؤولين واستمع إلى بعض قضياهم أن كان على مستوى الأمن أو الخدمات، وطرح كل واحد منهم مشكلته بكل شفافية، خاصة وأن منطقة دلقو تعد من المناطق التي اكتشفت فيها كميات كبيرة من الذهب، لذلك توافد عليها عدد من المواطنين قدِّروا بنصف سكان المنطقة البالغ عددهم مائة وخمسين ألف مواطن، ولكن هذا العدد ربما تكون له آثار سالبة على المنطقة وسكانها خاصة وأن الولاية الشمالية تعد معبَّراً لدخول المخدِّرات والاتجار بالبشر والسلاح، فإذا لم تكن هناك قوة أمنية كبيرة قد يؤثر العدد الكبير من المعدِّنين على سلوك السكان، ونحن نعلم كيف تتحوَّل المنطقة إذا المال في الأيدي، وقد حدثت بعض الإشكالات في مناطق التعدين المختلفة من نهب وسرقة وقتل وخمور وغيرها من الآثار السالبة التي تحدث، فالسيد النائب حمَّل الجهات المسؤولة بالعديد من النصائح والمهام التي يجب أن يقوموا بها، أن منطقة المحس تعد من المناطق الراقية كما أهلها الذين استقبلوا النائب خير استقبال، ففي كل منطقة يفتتح بها صرح أو منشط تجد الإقبال الكبير منهم والفرحة مرسومة على الشفاه، وربما قلة زيارة المسؤولين لتلك المناطق أضرت كثيراً بالتفاعل مع مناشط الدولة، ولكن هذه الزيارة رفعت معنويات المواطنين، وكان التفاعل الكبير منهم مع تلك الزيارة خاصة وأن المياه والكهرباء بمثابة الحياة للإنسان، فدخول الكهرباء إلى مناطقهم وإلى منازلهم أعاد لهم الأمل في أن الحكومة ما زالت تقف إلى جانبهم ومن ثم افتتح السيد النائب مستشفى الترعة وهو من المستشفيات التي ينتظرها السكان، إذ أن المستشفى تعني لهم التطبيب السليم ووقف الأنين اليومي للمرضى الذين كانوا يبحثون عن التطبيب وعلى الرغم من تلك المستشفى الحديث ولكن مازالت هنالك مشكلة تواجههم ممثلة في أن الاختصاصيين أبناء المحلية بدول المهجر تكفَّلوا بالعديد من المعدات الطبية، إلا أن الاختصاصيين أصبحوا غير راغبين في الذهاب إلى الولايات، رغم التزام حكومات الولايات بتوفير السكن وتوفير مبلغ مالي محترم لهم، وهذه واحدة من المشاكل التي تواجه حكومات الولايات والمواطنين، فقال أحد المسؤولين بأنه ملتزم بدفع مبلغ عشرين ألف جنيه، للاختصاصي الذي يرغب في العمل بالولاية.
تعد مناطق المحس من المناطق الهادئة ويقل فيها عدد السكان، ولكن القلة الموجودة تكن احتراماً كبيراً لأي قادم إليها، وزيارة السيد النائب لابد أن يخاطب الجماهير التي انتظرت تلك اللحظة لسماع صوته ولتوصيل مطالبها إليه، وبالفعل أعد لقاء جماهيري حاشد بأحد ميادين دلقو، ونصبت السرادق للضيوف وتعالت أصوات الجماهير بالهتاف، وشدا المنشدون والمغنون عبر الميكرفون باللغة التي يفهمها أهلنا المحس (الرطانة)، ولكن الإيقاع النوبي أطرب الحضور. تبارى المتحدِّثون في ذاك الصباح فتحدَّث المعتمد “فتح الرحمن تامراب” حديثاً ألهب الجماهير، وقدَّم مطالب محليته في قالب استحسنه السيد النائب والوالي والتي شملها في الطرق والمياه وإكمال بقية الكهرباء، ومن ثم تحدَّث نائب الدائرة “عصام ميرغني” وهو يملك ذخيرة ومفردات عربية رائعة، واستدعى كل العبارات التي تؤكد أنه فعلاً استحق البقاء لسبع سنوات، معتمداً عليها، وتحدَّث الكثيرون، وكلها تصب في مصلحة مواطن المحلية، ومن ثم تحدَّث المهندس “علي العوض” والي الولاية مرحِّباً بمقدم نائب رئيس الجمهورية، وأمَّن على معظم المطالب التي تحدَّث عنها السيد المعتمد المتعلقة بتأهيل المستشفيات وإنشاء الطرق الداخلية وتوصيل الكهرباء إلى الجزر، ومن ثم تحدَّث السيد النائب الذي رحَّب بالجماهير بكلمتين نوبيتين وجدت التصفيق من الجماهير، فالسيد النائب متمكِّن من الخطابة الجماهيرية وبلغة يفهمها الكل ليست ذات المفردات المعقدة ولا العبارات التي يبحث عنها في القاموس، ولذلك وجدت استماعاً مقدَّراً من الكل، والمواطنون في مثل اللقاءات يودون السماع عن استجابة الدولة لمطالبهم البسيطة الممثلة في توفير ماء يسد رمقهم وكهرباء تساعدهم في تحريك دولاب العمل اليومي ومستشفيات يتعالجون فيها تقلل عليهم معاناة الذهاب إلى المدن الأخرى، وكلها أمَّن عليها السيد النائب، خاصة وقد علم بالتبرعات التي قام بها مواطنو المنطقة والمغتربين ووعد بزيادتها، فإن دفعوا واحد الدولة تضع فيها اثنين أو أربعة، فكلها تطمينات للأهالي بأن الدولة معهم في حل مشاكلهم، فالنائب ببساطته لم ينس أن البلاد تستعد للاحتفال بالعيد الثاني والستين، فقال لهم، ونحن نحتفل بتلك الذكرى العطرة لاستقلالنا نؤكد أن الاستقلال من أجل التنمية والاستقلال من أجل النهضة، وقال إن الحوار الوطني الذي تداعى له أبناء السودان وظلوا لما يقارب الثلاث سنوات، يعملون لإخراج توصيات تعيننا على تنفيذها لتكون بديلاً للعنف، وحيَّا السيد النائب الرعيل الأول من الذين ضحوا بدمائهم الطاهرة حتى تحقق هذا الاستقلال، وقال لابد من نبذ العصبية والجهوية والقبلية، وقال إن قرار الاستقلال من داخل البرلمان قدَّم مقترحه “عبد الرحمن دبكة” من دارفور وثنَّاه “مشاوير جمعة سهل” من كردفان، وكان “المحجوب” و”مبارك زروق” والأزهري و”أحمد خير المحامي”، وهذا يعني أن أبناء السودان كانوا يداً واحدة، ولولا هذا الصف لما نال السودان استقلاله، ونادى بالمحافظة على تراث الأمة، وقال إن أهل الولاية الشمالية أهل حضارة وتراثها تراث لكل السودانيين، وقال: إن السودان به (585) قبيلة، ويتحدَّثون لهجات مختلفة وكلهم يمثِّلون السودان، بينما هناك آخرون من أبناء السودان، ولكن لا رائحة ولا لون ولا طعم لهم، ولكن في النهاية هم سودانيون. عقب اللقاء الجماهيري عقد السيد النائب لقاءً مع لجان الكهرباء ومن ثم افتتح كهرباء دلقو، وتفقد المحكمة والمستشفى وتبرَّع بمبلغ مليون جنيه، للمستشفى من مال المعادن ومن ثم صعدنا الطائرة الهيلكوبتر التي أقلتنا إلى محلية عبري، وعبري حاضرة في التاريخ والقصائد الشعرية التي نظَّم الشاعر الراحل “جيلي عبد الرحمن” قصيدته التي قال فيها: (أحن إليك يا عبري حنيناً ماج في صدري) والقصيدة تمجِّد المنطقة وأهلها وهي منطقة زاخرة بالعلماء والأدباء والشعراء والفنانين، ويقال عنها إنها منطقة الألف معلم، فخرَّجت “جيلي عبد الرحمن” و”محي الدين صابر” وغيرهم ممن كان لهم الفضل في رفعة الوطن.
افتتح السيد النائب بعبري مشروع (خير تتود الزراعي)، ومن ثم افتتح معهد التدريب الذي أسس على أحدث طراز، وفي انتظار المتدرِّبين من أبناء الولاية ثم زار مستشفى عبري ومنها غادر إلى مدينة حلفا، تلك المدينة الوديعة التي ضحى أبناؤها من أجل قيام السد العالي فأغرقت معالمها التاريخية.
في المساء شهد السيد النائب الليلة الثقافية على شرف مهرجان البركل في نسخته الرابعة، فامتلأ المكان عن آخره وصعد المسرح معتمد المدينة، مرحِّباً بالسيد النائب ومن ثم شدا الفنان “شنان” الذي تغنى بأغنية الاستقلال، (اليوم نرفع راية استقلالنا ويسطِّر التاريخ مولد شعبنا)، فهذا النوبي يريد أن يقتفي أثر الراحل الفنان “محمد وردي” حتى ضحكة “وردي”، أراد أن تكون على أثره ومن ثم غنى غناءً نوبياً وجد التفاعل والقبول من السيد النائب والجماهير التي تفاعلت معه أكثر، ومعظمهم يفهمون الرطانة ثم تغنى الفنان “السقيد” ووجد هو قبولاً من الكافة رغم أن “جعفر السقيد” شايقي والمنطقة منطقة حلفاويين، ولكن الفن لا وطن له. فكل الشباب كانوا يردِّدون معه بصوت واحد ما يؤكد أنهم يعشقون غناء الشايقية، فالمنطقة تزخر بعدد كبير من الفنانين، ولكن الإعلام ظالمهم ولو وجدوا إعلاماً لوجدنا “وردي” آخر و”بلال” آخرين.
لفت نظري في كل المناطق التي ذهبنا إليها أن المراسيم كانت حريصة على وضع ديباجات بأسماء أعضاء الوفد حتى على مائدة الطعام كانت الأسماء موجودة، وهنا نشيد بابن المراسم الذي رافقنا “هشام” وحرصه على كل هذا الترتيب الدقيق الذي لا يمكن أن يكون بهذا المستوى والدقة. أمضينا تلك الليلة بحلفا والتي كانت إقامتنا بالاستراحة، وفي الصباح افتتح السيد النائب إذاعة وادي حلفا، وخاطب المواطنين عبرها صباحاً، كما خاطبها السيد الوالي ومن ثم افتتح المستشفى والسجل المدني واستمع إلى المواطنين عبر لقاء مفتوح تحدَّثوا فيه بكل شفافية عن معاناتهم في غياب الاختصاصيين بالمستشفيات وغياب القطار والمياه النقية، فتحدَّث الكل دون تجميل للعبارات أو تزييفها وضعوها أمامه وتقبَّلها بروح طيبة، مؤكداً على تنفيذها ومن ثم غادر إلى مروي بالطائرة الرئاسية التي كادت أن تؤدي إلى كارثة لولا عناية الله، فقد هبطت الطائرة، وما أن لامست عجلاتها أرضية المطار، إذا بأحد إطاراتها قد انفجر، ولكن الكابتن وهو روسي الجنسية لم يوقفها فسار بها مسافة طويلة رغم الإطار المنفجر. نزل الوفد في أحد الفنادق الراقية التي أنشأت حديثاً وهو على مستوى راقٍ ولا يقل عن الفنادق الخمسة نجوم، وشهد السيد النائب ختام ملتقى الاستثمار وتسَّلم التوصيات ومن ثم غادر إلى البركل التي شهد فيها مسرحية (ملف سري) التي تتضمَّن العديد من مشاهد النقد الواضح للنظام، ولكن بأسلوب درامي مميَّز، ومن ثم غادر المسرح والمدينة متوجهاً عند العاشرة مساءً إلى الخرطوم التي وصلها خلال خمسين دقيقة، تقريباً، من مطار مروي الحديث.