حوارات

د. "صابر محمد حسن" في حوار صريح) حول قضايا الراهن الاقتصادي (2- 3)

* لا نملك مقوّمات وشروط تعويم سعر الصرف وسياسة التعويم ليست مزحة
* علي الحكومة  تحجيم الطلب على النقد الأجنبي ، ولكن هذا الأمر غائب، هذا التنظيم مفقود.
* لهذه الأسباب نجح الدكتور “عبد الوهاب عثمان” في تحقيق برنامج الإصلاح الاقتصادي في عهده
* البنك يعوّض خسائره بطباعة العملة ومنافسوه يعوضونها بتخفيض قيمة العملة
أجرى الحوار- خالد التيجاني النور
لا تزال الحيرة تلف الأوساط السودانية عامةً، والاقتصادية على وجه الخصوص، بسبب الصدمة التي تراكمت تدريجياً حتى تفجّرت في نوفمبر الأسود بانفلات غير مسبوق وتدهور مريع في سعر صرف العملة الوطنية، ولم تفلح الإجراءات الحكومية حتى الآن في الخروج من المأزق الذي خلّفته، وللمفارقة جاء هذا الانفجار في وقت كان الناس يستبشرون فيه بتحسن الأحوال الاقتصادية بعد الرفع الجزئي للعقوبات الأمريكية.
جلست (إيلاف) إلى الدكتور “صابر محمد حسن”، رجل الدولة الاقتصادي والمصرفي المرموق، في حوار عميق، في محاولة للحصول على تفسيرات وفهم أعمق لما يحدث في عالم الاقتصاد السوداني، من واقع خبرته وتجربته العلمية والعملية، وما كان انفجار سعر الصرف حسب وصفه إلا انعكاساً لحقائق الوضع الاقتصادي في ظل الهروب من دفع تكلفة الإصلاح الاقتصادي الحقيقي.
كان الدكتور “صابر” صريحاً في طرح تصوراته في قراءة الأوضاع الراهنة وسبل الخروج منها، مع حرصه الشديد على أن يكون الحوار موضوعياً ومنطقياً بصورة لا تدع مجالاً لأي ظلال وتأويلات تنشغل بالأشخاص وتترك قراءة وعبرة ما حدث وما يجب أن يحدث للخروج من هذه الحلقة الجنهمية على حد تعبيره.
وإلى الحلقة الثانية من هذا الحوار المهم الذي ننشره مواصلة لما اطلع عليه القراء الكرام في الحلقة.
{ قبل أسابيع نشرت صحيفة (إيلاف) تحقيقاً حول ما وصفته بـ(إمبراطورية البنك المركزي الموازي) لتجارة العملة التي أصبحت تتحكم في تحديد قيمة العملة الوطنية في إشارة إلى أن بنك السودان المركزي لم يعد من يملك التحكم في إدارة السياسة النقدية في البلاد.. ولكن للمسألة جانباً آخر وهو أن تجار العملة هم وجه لعملة وجهها الآخر هو الطلب الحكومي الذي يغذي المضاربة في سعر الصرف بشكل رئيسي….
_ (مقاطعاً).. نعم صحيح..
{ خرج وزير المالية بعد أول اجتماع رئاسي في أعقاب انفجار الأزمة الأخيرة ليعلن حزمة إجراءات في مقدمتها إيقاف شراء الشركات الحكومية للنقد الأجنبي من السوق الموازي وهذا اعتراف رسمي خطير بأن مؤسسات الحكومة نفسها تشكل سبباً رئيسياً في اندلاع الأزمة.. وأضاف الوزير أن تنظم المشتروات من العملات الحرة مستقبلاً بواسطة البنك المركزي.. السؤال: كيف يحدث هذا؟ أن تتسبب مؤسسات الحكومة نفسها في المضاربة بالعملة الوطنية ثم الحديث عن شركات حكومية تتاجر في السوق في وقت تعلن السلطات أن سياستها هي التحرير الاقتصادي؟
– نعم، ولكن الحكومة لديها طلب للنقد الأجنبي، وهو طلب حقيقي ليس لأنهم يريدون تهريب الدولار أو تخزينه، هناك طلب لشراء احتياجات في الظروف العادية هي حاجات حقيقية، ولكن من المفترض إذا كانت هناك سياسة مالية وسياسة نقدية راشدة أن يتم تنظيم هذا الطلب الحكومي، وتمويل الطلب الحكومي من أين يأتي؟ بالطبع يأتي من الميزانية، وعندما نتكلم عن الميزانية نتكلم عن الدولة وليس المالية فحسب، نعني ميزانية الحكومة ومؤسساتها المختلفة مجمعة في الموازنة العامة، مهمة السياسة المالية هي ترشيد الصرف في هذه الموازنة العامة، وأن تحدد حجم الطلب الذي يفترض أن يذهب إلى السوق، وذلك حسب الاعتمادات المرصودة، ويفترض أن يتم التنسيق بين السياسة المالية والسياسة النقدية، أي بين وزارة المالية والبنك المركزي، والمفترض أن لدى البنك المركزي رؤية يحدد من خلالها موارده المتوقعة خلال كل فترة معينة، يُقدّر من خلالها أنه ستكون لديه موارد متوقعة، لنقل مثلاً في حدود (400) مليون دولار تتوفر له من عائدات الصادرات، أو القروض، أو المنح المتوقعة. ومن خلال هذه الموارد المتوفرة فعلاً يحدد للحكومة ما يستطيع توفيره لها من نقد أجنبي لتحدد في ضوئه أولويات الصرف على أساسها، ويحدد كذلك للبنوك التجارية كمية النقد الأجنبي التي يمكنه توفيرها لها لتمويل أنشطة عملائها، هذه هي السياسات الراشدة المفترض توفرها لضمان إدارة سياسات مالية ونقدية فعّالة تحقق الأهداف الاقتصادية المرجوة.
{ حسناً.. إذن أين تكمن المشكلة وما الذي يمنع من تنفيذ هذه السياسات الراشدة؟
– هذه هي مهمة الحكومة ودورها في أن تنظم طلبها لاحتياجاتها ولشركاتها، حسب المتوفر فعلياً لها من النقد الأجنبي وفق أولوياتها، وعليها أن تحجّم الطلب وألا تسمح لنفسها ولا لأجهزتها، ولا لمؤسساتها أن تنافس في سوق النقد الأجنبي مما يتسبّب في ضغوط أكثر على السوق بزيادة الطلب.. عليها تحجيم الطلب، ولكن هذا الأمر غائب، هذا التنظيم مفقود.
{ يُفترض أن وزارة المالية هي صاحبة الولاية على المال العام والسياسة المالية كما أن للبنك المركزي الولاية على السياسة النقدية.. ولكن من الواضح أن الاثنين يفتقران للسيطرة على الولاية المنوطة بهما.. فكيف إذن يقومان بالمهام الموكلة إليهما في ظل هذا القصور؟
– صحيح، هذا هو نفسه ما أعنيه، لا أقوله بالوضوح الذي أشرت إليه، حتى لا يُفهم حديثي بتأويلات تجعله وكأنه يستهدف أشخاصاً بعينهم، وشهادتنا مجروحة في الحالتين سواء تحدثنا إيجاباً أو تصويباً للسياسات بحكم تولينا المسؤولية في وقت سابق.
وهذا تحديداً ما يجعلني أقول إننا في حاجة ماسة للإصلاح الاقتصادي، وهذا يعني أن يكون للبنك المركزي رؤيته وسياساته ومسؤولياته والقيام بدوره، وكذلك الحال بالنسبة لوزارة المالية، لكن للأسف الشديد هذا ما لا يحدث في الممارسة الفعلية، وهذا ما نريده أن يحدث، وتحقيقه يعني تطبيق الإصلاح الاقتصادي الذي نطالب به، وهذا ما يجب أن يحدث، وإلا فسوف يستمر الخلل.
وكما هو معلوم لديك فالمشكلة الاقتصادية تحل بطريقة منظمة وعقلانية، وإذا لم يحدث ذلك، فستحل الأزمة نفسها ولكن بالطريقة التي تختارها هي، وأما ما يترتب على ذلك من عواقب فهذا شأن آخر، وفي كلا الحالتين ستكون مضطراً لدفع الثمن سواء في حالة الإصلاح الراشد أو المنظم، وستدفع الثمن كذلك في حالة حصول الانفجار الإصلاحي قسراً، ولكن في حالة الإصلاح الراشد والمنظم سيكون الثمن الذي ستدفعه أقل من التكلفة التي تدفعها حينما تحل المشكلة الاقتصادية نفسها بنفسها.
وتأجيل عملية الإصلاح ناجم عن الخوف من العواقب، يتم التأجيل المستمر لمتطلبات الإصلاح، يقولون لنترك اتخاذ الإجراءات هذه المرة، لأن الأمور ماشية، وهي في الحقيقة لا تمشي، لكنها تسير ببقية الروح أو بفعل الدفع الذاتي الذي سيأتي وقت يتوقف فيه تماماً، لذلك علينا إدراك العلاج عندما لا تزال هناك بقية للروح، لأنه لن تكون هناك فائدة من العلاج إذا أسلم المريض الروح، يجب تنفيذ ما يمكن فعله قبل فوات الأوان، ولذلك نحن بحاجة إلى إرادة سياسية واقتصادية قوية تتحمل المسؤولية وتدفع الأمور إلى الأمام.
{ ولكن لماذا يمنع الخوف من دفع الثمن إلى تأجيل الإصلاح؟
– لأن الجزء الأكبر من هذا الثمن يدفعه المواطنون، الحكومة لا تدفع إلا الجزء الأصغر، في الإصلاح الاقتصادي للأسف الشديد الناس هم الجهة الأضعف، لأن عامة الناس هم الذيم يدفعون ثمناً أكثر، فالتضخم يضرب الجميع، ولكن هناك أطراف قوية تستطيع أن تمتص ضرباته، والأطراف الضعيفة في المجتمع لا تستطيع تحمل ضرباته، لذلك يجب من البداية أن تكون هناك سياسات حماية اجتماعية فعّالة، وإجراء معالجات بتوفير شبكات حماية وضمان اجتماعي للفئات الأضعف في المجتمع، بالطبع لا تستطيع أن تحقق لهم حماية كاملة، ولكن تساعد في تخفيف وقع الإصلاح عليهم بحيث لا تتسبب تبعات الإصلاح في القضاء عليهم، بل تحاصر لتقتصر على وجع يمكن تحمل آثاره.
{ وأين موقف الحكومة من دفع فاتورة الإصلاح؟
– من الجانب الآخر على الحكومة أن تُري الناس أنها تدفع أيضاً ثمن الإصلاح، فالتجربتان اللتان شهدتهما وأنا خارج موقع المسؤولية أن أية عملية إصلاحية يضعها الاقتصاديون هي عبارة عن حزمة جزء منها يدفع ثمنه المواطنون، وهناك جزء متعلق بالحكومة، والمنطق يفترض أن تبدأ الحكومة بنفسها في دفع ثمن الإصلاح، وأن يراها الناس تفعل ذلك تقشفاً وضبطاً في إنفاقها، ومن ثم تقوم بتطبيق ما يلي الناس من حزمة التطبيق، وحينها يمكن أن يكون هنالك قبول نسبي لهذه الإجراءات، لكن ما حدث في المرتين أن الحكومة تبدأ بالإجراءات التي يدفع ثمنها المواطنون، في حين لا تدفع ما يليها من ثمن الإصلاح فحسب، بل يراها الناس تزداد ترهلاً في وقت تفرض فيه التقشف على المواطنين، وبالتالي من الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى ردة فعل قوية.
{ هذا ما حدث بالضبط في 2013 حين أعلنت الحكومة إجراءات قاسية أدت لأحداث دامية تعهدت الحكومة حينها بأنها ستفرض على نفسها تقشفاً وتخفض الإنفاق الحكومي بنسبة (25%) وجاء تقرير المراجع العام لاحقاً ليكشف مفارقة كبرى أن الإنفاق الحكومي ازداد في الواقع بنسبة (40%) بدلاً عن أن ينخفض.. والسؤال: لماذا تعجز الحكومة وتجد صعوبة في الالتزام بما تتعهد به وتعلنه من سياسة تقشفية لدفع نصيبها في ثمن الإصلاح؟
– لأن المسألة ليست سهلة، وتحتاج لإرادة سياسية قوية، لأن التقشف يعني تخفيض الإنفاق الحكومي، وهذا يعني تقليص نفقات بعض الجهات الحكومية، وهذه الجهات لديها قوة (عندها عضلات)، لذلك ترفض عدم المساس بنفقاتها أو تخفيضها لمقابلة متطلبات التقشف، وحتى تستطيع الجهة المسؤولة من الولاية على المال العام أن تفرض تنفيذ سياسة التقشف يجب أن تحظى بدعم إرادة سياسية أقوى منها، ولكن ذلك لا يحدث لأن تلك المؤسسات الحكومية ذات نفوذ أقوى لا تسمح بتنفيذ هذه الإجراءات عليها، ولذلك هذا هو السبب في أن الحكومة تعلن سياسات إصلاح وتقشّف، وعندما تأتي لتنفيذها على نفسها لا تستطيع بفعل هذه المعادلة، وهذه هي المشكلة لأن التقشف وتخفيض الإنفاق ليس سهلاً، وسياسة الإصلاح صعبة جداً.
{ ولكن هذه لعبة خطرة على النظام نفسه.. فالمنطق يفترض أن يكون هناك حد أدنى من الإصلاح على الأقل ليحافظ على وجوده؟
– هذا هو الواقع، لأن بعض الجهات التي يمكن أن تتأثر بالتقشف لديها نفوذ قوي، وترفض الامتثال لسياسة الإصلاح ودفع تكلفته، طبعاً لن يقولوا لك لن نتقشف، لكنها لديها طرقها الخاصة في قول ذلك وفي رفض الخضوع لهذه السياسة، والنتيجة العملية هي أنها تستطيع أن تمنع تقليص حجم إنفاقها وفق ما يقتضيه برنامج الإصلاح وتطبيق التقشف بتحجيم الإنفاق الحكومي.
{ هل ترفض هذه الجهات المتنفذة التقشف لأن ذلك يتسبب في عرقلة عملها والقيام بواجبها أم لأن ذلك يمس الامتيازات التي تحظى بها؟
– دائماً في الأوضاع مثل أوضاعنا، الجهات الحكومية المستأثرة بالصرف لديها (شحم كثير) أي لديها موارد أكثر من ما هو مطلوب لمقابلة احتياجاتها، وعندما يُطلب منها ترشيد النفقات فإن تأثير ذلك لا يصل إلى (العظم) أي واجباتها الأساسية، بل يظل في حدود منطقة (الشحم)، أقصد مواردها الزائدة.
فالوزير المختص عند تنفيذ سياسة الإصلاح لا يحدد لأية جهة تفاصيل أولويات صرفها، أو ما يجب أن يطاله التقشف، بل يرسم لها الملامح العامة لحدود سياسة الإنفاق، ويترك لها تحديد تقليص ما تراه مناسباً في إطار ما هو مرصود لها من موارد مالية في إطار برنامج الإصلاح، وبالتالي متروك للجهات المعنية إعادة هيكلة صرفها وفق هذه المرجعية، وبوسعهم الحفاظ في الصرف على جوهر واجباتهم وفق الأولوية التي يحددونها. ولكن في الواقع كما أشرت ترفض هذه الجهات مجرد تحمل أقل ألم في سبيل الإصلاح، وتصر على بقاء صرفها كما هو، وهذا غير صحيح لأنه لا يوجد إصلاح من غير تحمل تبعاته ودفع ثمنه، ولذلك العملية صعبة جداً وليست بسهولة الحديث عنها.
{ يا دكتور أنت شخصياً كنت جزءاً من فريق الدكتور “عبد الوهاب عثمان”- رحمه الله- الذي يُذكر له أنه استطاع خلال فترة ولايته كوزير للمالية بين عامي 1996 – 2000 فرض برنامج إصلاح اقتصادي ناجح ولا يزال الناس يُقدرون المهمة التي قام بها.. ما هي أسباب نجاح تلك التجربة في رأيك؟
– هذا سؤال جيد، نعم حدث ذلك لأنه أولاً كانت هناك إرادة سياسية تضافرت مع عوامل أخرى في تحقيق أهداف الإصلاح، هذه العوامل هي أولاً: الفهم، فقد كانت الإدارة الاقتصادية حينها فاهمة وواعية بطبيعة المشكلة الاقتصادية، ومدركة لما هو مطلوب منها القيام به. وكان السبب الثاني: وجود الرغبة والحرص الشديد على إنفاذ العملية الإصلاحية، والسبب الثالث: توفر العزيمة والإصرار على تنفيذ برنامج الإصلاح، ليس كواجب وظيفي فحسب، بل كذلك كتحدٍ ومسؤولية شخصية من أجل الحفاظ على المصلحة العامة. والسبب الرابع: قوة الشخصية والاستقامة والقدرة التي تمتع بها الدكتور “عبد الوهاب” في تنفيذ برنامج الإصلاح بكل حسم بدون مجاملات ولا تردد دون أي اعتبارات غير تحقيق المصالحة العامة.
لقد عملت قريباً من الدكتور “عبد الوهاب” كوزير دولة بالمالية ثم محافظاً للبنك المركزي، وهو من طلب مني الانتقال من وزارة المالية بعد استقرار الوضع إلى البنك المركزي من أجل العمل على إحكام السياسات والتنسيق بين السياستين المالية والنقدية، ولقد عايشت عن كثب الكثير من المواقف التي لا تحصى ولا تعد، بدون ذكر تفاصيل، التي تؤكد ما ذهبت إليه أعلاه من أسباب نجاح تنفيذ برنامج الإصلاح في تلك الحقبة تحديداً، فقد كان لا يسمح بترك أي خطأ مهما كان صغيراً أن يمر هكذا دون حسمه ومعالجته مهما كان مرتكبه سواء أكان وزيراً أو حتى صديقاً مقرباً.. إضافة إلى ذلك، فقد حظي بالدعم السياسي الذي وجده من السيد الرئيس. هذه المعادلة التي حققت ذلك النجاح المشهود في تلك الفترة لم تتوفر عناصرها فيما تلاها من تجارب.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية