خربشات
خارج النص
سَرَت أخبار “كلتوم” في القرية وتهامست النساء في قعدات شرب الجبنة عن غيابها من السوق وأسباب ذلك.. وقالت عائشة الشهيرة بـ”كبري” إنها شاهدت رجلاً يمتطي حماراً أسود أمام منزل “كلتوم”.. وسمعت عن شرائها الأسبوع الماضي، عنزة وتيس وثوب جديد.. وقاطعتها “إخلاص”.. “كلتوم” مشت لـ”سعاد” الحنانة.. ورسمت على كرعينها المشققات ذي طين الوادي في الصيف.
وجاءت “حرم” من بعيد.. هوي سلام عليكم.. أهلاً “حرم” وين اليومين دي؟
مشيت على “كلتوم”
الصلى على النبي “كركاب” رسل ليها قروش اشترت غنم وتحننت.. وبكره عندها عزومة لطهار ابنتها فطومة..
يا “حرم” لكن الحكومة ما منعت طهارة البنات؟
الحكومة شغلتها بينا شنو؟ نطهِّر بناتنا.. نخليهن غلف ما شغلتا بينا نشوف ليها (دواس) مع إسرائيل والمتمردين، هي الحكومة دي ما تشوف الناس البسرقو الماعز.. ويشربوا المريسة في بيت “سعدية أم جنقو”؟
الحكومة ما لها عساكرها كتار.. وعندها عربات وقروش.. دايره من طهارة البنات شنو؟
هسه يا جماعة الوزيرة الجات مع الوالي دى معقولة ما بتطهر بناتا؟
يا “حرم” الوزيرة ما متزوجة؟ هي سجمي ما لقت راجل ولا شنو؟ لا طلقوها.
عليكم الله الحكومة دي مرأة راجلها طلقها دايرة منها شنو؟ والله يا أخواتي طهارة البنات دي الناس خلوها قالوا هي سبب الأمراض البتحصل دي.. وقلة الإنجاب.. وهي عادة أهل فرعون..
فرعون دا منو كمان؟ هي أنت ما عارفه “فرعون”؟ دا الراجل الزمان جابوه قاضي للمحكمة؟
“فرعون” دا ورد في القرآن أنت ما قريتي الخلوة ولا شنو؟ وطلبت “حرم” مزيد من القهوة.. والفول.. وارتفع صوت برلمان نساء القرية في ذلك النهار الصيفي الطويل والشمس ترسل أشعتها.. حارقة.. ولاذت الأغنام والأبقار بظلال شجر العرديب والهجليج.. وبدأت السماء صافية.. وخلت القرية من الشباب الذين اتجهوا نحو (البحر)، أي الجزيرة، وبعضهم إلى الجبال لطق صمغ الهشاب وصمغ اللبان.. وآخرين اتجهوا إلى القضارف وهبيلا للعمل في المشاريع الزراعية، إلا “الدقيل” ود “خديجة” يطوف البيوت فرحاً. يزغرد في بعض الأحيان مثل النساء.. و”الدقيل” ود “خديجة” لا يعرف من أين جاء.. ولا تاريخ ميلاد له.. يساعد النساء في نظافة الذرة.. ومن الشوائب.. ويحفر للنساء حفرة الدخان.. ويعد حطب الطعام وحطب الدخان.. ويضرب الدلوكة ببراعة شديدة.. ويتندَّر على الرجال الذين يأتون بقبيح الأفعال.
في إحدى القرى سطا لصاً من شباب القرية على دكان “عبد الحميد” الشهير بـ(الجلابي).. ولكن خفير السوق نهض من سريره وطارد اللص الذي ترك حذاءه وهرب، وقد تعرَّف البعض على الحذاء الذي يسمى (الدبابة)، ولكنهم تكتموا عليه ستراً لوالده أمام المسجد.. وخوفاً من شقيقه كاتب المحكمة، لكن عبقرية “الدقيل” في الغناء الساخر وضرب الدلوكة قد تفتقت لأغنية ظل يردِّدها الصغار والكبار ويرقص على إيقاع الأغنية الشباب في الحفلات الخاصة.. ويقول “الدقيل”
الولد دا كسر الدكان
نسى الدبابة وطلع القيزان
بقى برينسة وسبق النيسان
أي أن الشاب قد تعمَّد كسر الدكان، ولكنه هرب وترك حذاءه – الدبابة.. وأطلق ساقيه للريح وسط الرمال التي تعرف بالقوز مثل السيارة التايوتا الصغيرة التي تسمى في ذلك الزمان بالبرينسة، وهي أسرع من عربة اللوري النيسان.
(2)
جلس “كركاب” تحت ظل شجرة السدر بعد منتصف نهار صيف مايو بأشعة شمسه الحارقة.. ورائحة روث البقر الذي يستخدم كخميرة في إعداد الطين الخاص بصناعة الطوب، وفي حال فشل التاجر في الحصول على روث البقر يستخدم مخلفات قشر الفول السوداني.. نظر “كركاب” لزرقة السماء.. وانحسار مياه النيل الأزرق في المنطقة الواقعة شمال خزان سنار.. وشعر بالرغبة في النوم قليلاً.. لكن جيوش الحشرات التي تسمى (القرَّاص) تهاجم جسده المنهك بالتعب.. طافت أحلام العودة للديار.. وتذكَّر زوجته وأبناءه.. ومزرعته وحمارته التي تسمى (الغبيشة).. فكَّر في ركوب سيارات العابرين لسنار التقاطع ومنها إلى كمبو واحد الذي يجمع عمال مصنع سكر غرب سنار بسائقي الجرارات.. والعابرين والجنوبيين الذين يتأفف “كركاب” من طعامهم، لكنه يلهث وراء شراب “شول” التي تسمى الملكة.
حدَّثته نفسه يشرب كاس من المريسة لكنه تذكَّر نصيحة وخطبة الشيخ “سيد أحمد” يوم (الجمعة) بمسجد ديم المشايخة.. ومخاطر الخمرة على متعاطيها.. أختار الذهاب لدكان “الفاضل” في القرية والجلوس في عنقريب صغير يشعل سيجارته (أبو نخلة) وينتظر تصاعد الدخان والشعور بخدر لذيذ والاسترخاء.. تناول زجاجة كولا.. دلقها في جوفه المثخن بالجراح والشوق.. لقريته.. أشتم رائحة عطر نسوي سرى في جسده.. قبل أن تصل “شادية” بجسدها الناعم ورائحتها التي جعلت كل من في الدكان ينظر لهندامه قبل النظر إليها.. مزيج من عطر الصندل.. ودخان الطلح.. وهمست في أذن “الفاضل” الذي أخرج كراسة من بين عدد من الكراسات وأخذ يدوِّن مطلوبات “شادية” رطلين سكر.. هبهان علبة صلصة بسكويت.. وكيلو عدس.. ورطلين زيت وشمار.. ولم تنسَ أن تضيف (2) ورقة حنة الشمالية.. اختار الأسعار التي تناسب فترة السداد، و”شادية” متزوِّجة من “إسماعيل” سائق شاحنة الوقود، حيث يسافر لأقاصي غرب السودان، وأحياناً لمريدي ويامبيو في جنوب السودان.
سألها “الفاضل” “إسماعيل” أخبارو شنو بعد أن أشاحت بوجهها الوضئ عن الجالسين في الدكان.
والله أخبارو مقطوعة شهرين ما عرفين حاجة.. قالها “إسماعيل” ضاحكاً.. الخريف قرَّب؟
“شادية” الخريف الله يجيبو، لكن الراجل دا الله يحلنا منو؟ الكلمة الأخيرة سرت في نفس “كركاب” وزوجته “كلتوم” تنتظره مثل “شادية”.. فكَّر في السفر بعد أن جمع ما يكفي من المال لشراء ثلاثة جوالات من الدخن.. وجوال سكر ولوبيا.. وأقفل راجعاً إلى (تاية) العمال في كمائن الطوب وهو مزهواً بنفسه.
أنا كركاب مطره بلا سحاب
أنا الجبت الفرح بالليل
وخانوني العواطلية..
سرت في المساء نسمة باردة من الجنوب.. رائحة الدعاش والتراب المبتل بالمطر.. سمع صوت نهيق الحمار وعواء الثيران.. وحدَّق في اتجاه الجنوب حيث سنار المدينة.. والأضواء الباهرة.. والسيارات تغدو وتروح بشارع الأسفلت المتجه لود مدني ثم الخرطوم. لمح “كركاب” البرق الخافت بين السحب في الجنوب والرياح تنساب إيذاناً بهطول الأمطار في قادم الأيام، وأمطار الصيف عادة ما تبدأ في منتصف أبريل ثم في منتصف مايو.. و”كركاب” فكَّر في تلك الليلة في القطار المتجه يوم (الأربعاء) إلى نيالا.. ولم يحدِّث رفاقه الآخرين بأشواق العودة.
(3)
تراجعت “كلتوم” عن ختان ابنتها بعد النصائح التي وجدتها من معلمة المدرسة “فاطمة”.. ومن الممرِّضة.. ولكن “حليمة” الداية بدأت غير مقتنعة لشيء في نفسها، وقالت لـ”كلتوم” شوفي مصلحة بناتك ما تسمعي كلام ناس الحكومة دا.. بكره الحكومة دي بتسقط وبجي رئيس جديد ويلغي قرار منع طهارة البنات وطهارة الرجال كمان!
“كلتوم” دا كلام شنو يا “حليمة” الحكومة تسقط كيف؟ “حليمة”.. عديل كده.. وأي بت ما مطهَّرة أنا عارفاها.. إلا تشوف راجل الأغراب..
“كلتوم” الرجال قالوا ما دايرين طهارة البنات.. “حليمة”.. ديل رجال ديل.. شوفي مصلحتك وطهِّري بناتك.؟
“كتلوم” لا.. لا.. أنا مع أخواتي.. وحتى (الجمعة) القادمة.