من أراد موعظة فالموت يكفيه
وردت كلمة “مصيبة” عشر مرات في القرآن الكريم ولم ترتبط بصفة محددة إلا في موضع واحد.. الآية (106) من سورة (المائدة) فقال عزَّ مِن قائل: (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ).. إذن فالموت مصيبة ما بعدها مصيبة.. (والموت ما عندو دواء).. كما يقول أهلنا.. وما من حقبة في تاريخ بلادنا قدمت من قياداتها العليا والوسيطة ومن كوادرها بجميع فئاتها مثلما قدمت الإنقاذ حرباً وسلماً.
وأُشهد الله ما مِن مصيبة فجعتني على المستوى الشخصي بعد استشهاد المشير “الزبير” إلاَّ استشهاد الأخ الكريم والصديق العزيز المهندس “غازي الصادق” ورفاقه الأبرار في حادثة عيد الفطر المسماة إعلامياً ورسمياً (طائرة تلودي)، فقد ألفتُ تلقِّي الأخبار المحزنة والمصائب.. (مع إنو الموت ما بيتوالف).. وقد استبد بي الحزن، لأن استشهاد “غازي” جاء وأنا متوقف عن الكتابة لأسباب خاصة، فقد أصابني (القَرَفْ) وأنا أرى الصحيفة التي أكتب فيها (وبلا أي مقابل مادي) تلعق حذاء المعلِنْ وتموء مثل قطة جائعة (قمَّامَة) تنتظر الفتات تحت التربيزة!! فقد رأت الصحيفة التضحية (بأمثالي) اتقاءً لغضبة المعلن الذي لا تقول إعلاناته الكثيرة حقاً ولا صدقاً!! ورأيت أن أمسك عن الكتابة انتصاراً لذاتي (الفانية) ولو أدى ذلك للمجازفة بقرائي الكرام.. وقد كان.. وما أعادني للورقة والقلم إلا استشهاد الأستاذ الجليل مولانا “فتحي خليل” الرجل (القيمة) كما وصفه الأستاذ “علي عثمان” و(القامة) كما يعرفه الكافة.
“فتحي خليل محمَّد خليل”.. ولد بوادي حلفا 1947م، وتخرَّج في كلية القانون جامعة الخرطوم عام 1973م، واختار المحاماة ساحة لعمله المهني والسياسي والاجتماعي.. والتزم بتنظيم الاتجاه الإسلامي التزاماً صارماً لم يحد عنه قيد أُنملة، حتى انتقاله للرفيق الأعلى.. قال لي الأستاذ “علي عثمان” وهو يغبر أقدامه في مقابر الصحافة مشيِّعاً رفيق دربه: (إن فتحي بدأ حياته السياسية مع الحركة الإسلامية.. وكان آخر عمله في الدنيا مؤتمر الحركة الإسلامية في كريمة.. وكأنَّ الله تبارك وتعالى قد أراد له أن يختم حياته بما بدأها به.. “الدعوة في سبيل الله وتحكيم شرع الله”). وقال “الدرديري محمد أحمد”: (إن المحامين من مختلف الانتماءات السياسية والجهوية في دار المحامين بكوا فتحي بحرقة..)، وقد صلى الناس على “فتحي” ثلاث مرات في يوم واحد، في دنقلا مرة، وفي مقابر الصحافة مرتين.. وشهد تشييعه خلق كثير وشهدوا له بالزهد في الحياة.. والبساطة في المظهر.. والعمق في المخبر.. ومجانبة الجفاء في العلاقات.. والغلظة في المعاملات.. مع العفة في اليد.. والطهارة في اللسان.. ومحبة المساكين.. ومحاربة المفسدين.. والاستقامة على الجادة والدين..
وبينما يعيش محبو الدنيا.. يأكلون ويتمتعون كما تأكل وتتمتع الأنعام، يستشهد الصادقون الأخيار ويمضون من هذه الدنيا بلا درهم وراءهم ولا دينار.. ومن أراد موعظة فالموت يكفيه.. وإلاَّ فالنار ستكفيه.. فالجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.. ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.