"ذاكرة الأمة" شهادة لذاك الزمان..!
في أمسية من صيف ما.. ملامحه تشبه فترة (الدَّرَتْ) وهي الأيام التي تتقسم بين سبتمبر وأكتوبر حين يكون الخريف قد أفرغ كل ماء السحاب الثقال وينتظر المزارعون (مطر البُخات)، أي أهل الحظ الوافر؛ لأن (البخيت) من تصب بقية الخريف على زرعه الذي فقط يحتاج (لبِلَّة ريق).. و(للدَّرت) سَموم لاسع.. يخترق المسام وينفد لكبد القدم.. وجوف الفؤاد!! لهذا تكون تلك الليالي ذات بصمة خاصة تحتاج لتبريد نفسي ومادي.. وكان بعض الخيار يكمن في أن تُبدد ملل الحر بجزء من تسلية ومشاهدة للتلفاز.. أو استماع للإذاعة.
أذكر تحديداً في ذلك المساء أن التلفاز ساق إلينا سهرة غناء حميد – (بعض الأغاني تعاني من فشل كلوي، وأخرى تصيب بالملاريا كأنها أنثى البعوض تلك.. وبعضها أيضا ينثر ندى من عطر الفل على صفحة الوجوه) – تلك الأمسية كان غناؤها شجياً نظيفاً ومعقماً بالموسيقى الصافية (التون)، غنى فيها ثلاثة.. قمر.. وبدر وشمس.. إلا أن (بِنتي) وكانت في مرحلة الأساس سألتني عن الثلاثة وكأنهم ليسوا من السودان وإنما من “بوركينا فاسو”؟ عجبت بل غضبت كيف لا تعرف “أحمد المصطفى”.. وكيف لا تعرف “حسن عطية”.. وكيف لم تسمع بـ “محمد الأمين”؟!
كتمت غيظي وفقدت القدرة على مواصلة السهرة.. ثم إني لُمتُ نفسي في تقصيري.. أنا لا أعرف كيف يفكر أبناؤنا، وماذا يشاهدون ومن يسمعون؟ ثم عزيت الأمر أنه يخصها هي – أي ابنتي – ولكن.. تبين لي أن هناك فجوة كبيرة في الأجيال، وأن انفصاماً حقيقياً يوشك أن يقع بين الصغار والشباب.. والرجال.. والكهول.. بل بين الأب وابنه البكر وبين البنت الصغرى وشقيقتها البكر..!!
تبين لي أن الفجوة تلك عميقة ومخيفة وتنذر (بتسونامي) يهدم كل حجر في بنيان ثقافة الأمة.. فالأمر لا يقف في عدم معرفة أجيال من أبنائنا برموز الغناء وإنما برموزنا الوطنية بل بالتاريخ والجغرافيا وأنساب وقبائل السودان وحتى بمعرفة عواصم الولايات.. بل حتى عددها.. ناهيك أن يعرفوا ولاتها.. ومعتمديها أو رؤساء أحزابها وزعمائها.
تذكرت كيف كان منهج الجغرافيا يومها – ونحن طلاب في مرحلة (الكُتاب)، (المرحلة الأولية) – وكيف نعرف “صديق عبد الرحيم” في القولد.. و”محمد الفضل” في بابنوسة، و”محمد طاهر” في محمد قول، وكيف في الجفيل وردنا ماء بئر يسوق دلوها عجل ثمين عتيد..
تذكرت أن لنا صديقاً في هولندا اسمه “وِلّم”، وفي سويسرا اسمها “قرتشن” ثم كيف كنا نحفظ أسماء البحيرات في كندا ونتدفأ بصوف خراف أستراليا..
كانت سياسة بسمارك الداخلية والخارجية وِرداً محفوظاً وذخيرة حية لامتحان الشهادة السودانية.. ثم نتحدث بلغة إنجليزية طليقة كأن الملكة فكتوريا جدتنا لأمنا!!
فكرت في رمضان في تسعينيات القرن الماضي أن أقدم عبر التلفاز مسابقة – رغم أني وقتها كنت وزيراً – واخترت أن يكون اسمها (من ذاكرة الوطن)، احتشدت لها تماماً واستعنت بالصديق محمد إبراهيم طاهر – (وهو رجل كنز وهو أول من فكر في تكوين بنك المعلومات) – واخترنا سوياً (150) شخصية سودانية قصدنا أن تشمل الجهات الأربع في أطلس السودان السياسي والثقافي والاجتماعي ورموز الحركة الوطنية.. واخترنا في كل ليلة من ليالي رمضان (5) شخصيات، نقدم صورة لذلك الشخص ونسرد سيرته الذاتية ونسأل من صاحب الصورة؟
استقبل الناس تلك المسابقة بمتابعة لصيقة واستفسارات، وسعد بها كذلك أهل تلك الشخصيات الذين أضاءت المسابقة صور أقربائهم بضوء جديد أحيا – لحدٍّ ما – ذكراهم التي خفت ضوء السلطة أو الشهرة فيهم وحولهم..
كانت فكرة تلك المسابقة هي قرع ناقوس لكل الناس أن ذاكرتهم أصابها بعض (غبش)، وأن ذاكرة الأجيال الجديدة لم تختزن في ذاكرة الوعي والحضور رموزاً كان لهم دور كبير في صناعة تاريخ السودان ورفد شعبه بالثقافة والفكر.
ثم جرت الأيام بماء النسيان واتسعت الفجوة بين الأجيال..
ثم تجدد أمر أن يستمر القرع على نحاس هذا الموضوع لتجسير الهوة وتجديد التواصل وترطيب ذاكرة الأمة – سيما شبابها الذين يحتاجون – وكذلك نحن لردم هوة الجفاء الثقافي وعدم المبالاة المقصود وغير المقصود.. وتجددت في رمضان قبل سنتين أن قامت هيئة الإذاعة السودانية بتطوير برنامج ناجح هو (من مكتبة الإذاعة)، ظل ينقب في الأرشيف الثمين لمكتبة الإذاعة وينتقي منها حسب ما يرى مقدم البرنامج من المدخرات الغالية من الأغاني والأحاديث والبرامج.. قرأت الإدارة – وهي رؤية صالحة وبعيدة النظر – أن تُنشئ إذاعة باسم (ذاكرة الأمة) على موجة قصيرة، على أن تعمل مؤقتاً طوال شهر رمضان ثم تتوقف.. لأن الميزانية لا تسمح بذلك..
عثرتُ على هذه (المحطة) وأنا أتجول بأصابعي في مؤشر الراديو فوقع في أذني صوت رخيم سمعته بعيوني وليس بأذني!! الصوت سمعته زماناً طويلاً يوم كنت صبياً ويافعاً.. كان صوت “محمد صالح فهمي”.. كثيرون سيقولون: ومن هو؟ ولهم أقول إنه كان ملك المايكروفون في الإذاعة السودانية.. فصيح اللغة.. جهوري الصوت.. صارم الوجه.. الذي لا يجامل في خطأ لغوي كما يفعل الشيخ “السراج” عليه رحمة الله..
أعادني الصوت وذلك البرنامج عبر (ذاكرة الأمة) إلى تلك الأيام التي كان الراديو فيها (سمير) ومؤنس الموحشين في ليالي التوق والشوق..
وأدمنتُ طول الشهر الفضيل سماع تلك الإذاعة.. وأصدقكم القول كم تمنيت أن يكون كل شباب السودان يستمعون لها ويغترفون من نبعها الصافي وبرامجها صقيلة الإخراج والإعداد والتقديم!
غير أني تلقيت من أحد الأصدقاء.. وهو أحد الحادبين على رفعة الإذاعات، الأخ “عبد العظيم عوض”، محادثة حزينة أخبرني فيها أن صديقتي إذاعة (ذاكرة الأمة) ستتوقف بعد شهر رمضان مباشرة!!
تلك المحادثة (حفرت) ثقباً في أوزون فؤادي… ولأن ثقب الأوزون يشعل الحمى في كل الدنيا فقد أشعل عندي حريقاً نزاع الشَّوى..
ولأني سبق أن ناقشت مع السيد علي عثمان محمد طه.. بصفته الشخصية خاصة حين أتحدث معه في شأن ثقافي.. وخاصة في ما أعرف فيه من اهتمام خاص بكثير من الشؤون التي لا يعرف الناس أنه يهتم بها بشكل خاص وجاد.. مثل أن يسألني فجأة عن أن مذيعاً (ما) لم يسمعه منذ مدة.. أين هو؟ هل ما زال يعمل؟ أو حين يذاكرني في حدث قديم من أيام الإذاعة في ذلك الزمان.. بالمناسبة هو يتابع الإعلام ويبحث في النصف الآخر من الليل وفي يده (ريموت).. يتحصل على ما فاته من خبر أو حدث أو لقاء لأن معظم الفضائيات تعيد بث المادة المقدمة على صحن المسار الأول!!
استرسلت في شأن الرجل وما عنيت بهذا الاسترسال إلا ما يتبع قولي (ولأني سبق أن ناقشت).. تحدثت له عن قلقي في أن تتوقف إذاعة (ذاكرة الأمة) بعد رمضان!! وصدقوني إنه انفعل وأبدى قلقاً وبادر أن تستمر الإذاعة بصفة دائمة.. وهكذا تم تجديد عقد البث لها (بقسيمة) جديدة.
ولأني في كثير من الأحيان تصرفني بعض حاجيات ومستجدات فقد أخذتني سنة من غفلة عن سماع الراديو لأمد من الزمان.. غير أني اعتدت أن أسترد عافية السمع عندي للإذاعة في رمضان.. فقد عدت أبحث عن رفيقة السهر الحلال إذاعة ذاكرة الأمة، ويا لدهشتي أن وجدتها بكامل دسم سمنها العتيق.. رتبت أمرها تماماً، وأعدَّت برامج وسهرات من ذلك الزمان البكر.. وأصبحت بالنسبة لي وجبة عشاء وسحور في رمضان.
ربما يقول قائل إن حديثي نوع من (النوستالجيا)، التوق إلى ما كان، ومناجاة لصبا وشباب ولى وأدبر وبَسر.. ذلك قول صحيح، ولكنه يحتاج لمزيد من القول الصحيح.. فصحيح أيضاً أننا عشنا تلك الأيام، يوم أشعل اكتشاف (الترانسستر)، الراديو اللاقط لهمس في كوكب المريخ، وترويض الموجة القصيرة وابتداع الـFM اللعبة الذكية القادرة على استراق السمع والقدرة بالجهر في مكمن السر والهمس.. فأصبح إفطارنا صباحاً على نشرة السادسة والنصف.. نعرف ما يجري في وكالة (ناسا) ومن سيُدفن الساعة السابعة في مقابر فاروق!!
ثم كيف كان يتبختر في أمسياتنا عبد الحميد يوسف في (غضبه الجميل) وكيف التقى مع حميدة “أبو عشر” فصنعا معاً هذا الغضب المستحيل الوصف.
صحيح أيضاً أنا انقسمنا فرقاً ونحلاً ننحاز لبنت النيل ترقص على أوتار عود وقور تُحركه أنامل وقورة وصوت بطعم ماء النيل الذي ابترد في جوف (زير) من طين من حمأ مسنون.. وكيف يسُوقنا (عند الأصيل) ذلك الأنيق الهندام والبِشر.. ثم نجيب على “عثمان حسين” مُرددين أنه له كل الحق في سؤاله العريض (كيف لا أعشق جمالك)، وكلنا يعشق ذلك الجمال النضير.. صحيح أيضاً أنَّ لنشرة الأنباء في ذلك الزمان سحراً حين ينتصر (الفياتكونغ) على (اليانكي) الأمريكي.. و”لومببا” و”كيتا” و”نكروما”.. نجوم تغطي أخبارهم كل سماء وفضاء.. يقرأ أبو عاقلة يوسف (حديث الأربعاء) فيغطي الحديث كل أيام الأسبوع.. ويقدم حلمي إبراهيم (من الشرق والغرب) فنعرف معنى شراكة (الرحابنة) مع صوت فيروز الملائكي.. نشرة الساعة العاشرة صباحاً يوم الجمعة هي جُعل كامل لـ “عبد الوهاب أحمد صالح”، و”المبارك إبراهيم” يجعل من “سرور” معهداً للموسيقى والغناء..
و”برعي محمد دفع الله”، “عبد الفتاح الله جابو”، “علاء الدين حمزة” ،”عبد الله عربي”.. “محمدية”.. “حمزة”.. “حرقل”.. أوركسترا من أوتار الطنابير وإيقاعات (الدليب) و(المردوم) وعجن طمبور المحس في أماسي الشتاء المقمرة.
يصول “عمر عثمان” ويفتح صالحة العرض.. ويقدم “أحمد الزبير” أشكالاً من الفن وألواناً من الثقافة.. يجمل ضحى الجمعة بعطر الصندل والمسك.
يلتقي “حسن أبشر الطيب “مع أستاذ الجيل “محمد توم التجاني” في (ظلال).. ويبدع “حمدي بدرالدين” مع الأستاذ “محجوب باشري” في كاتب وكتاب، ويحدثنا الأستاذ التجاني عامر عن ثقافة أهل السودان!!
نذكر ونذوق حتى اليوم طعم صوت “يس معنى”.. “أحمد عبد المجيد” وصولات “صلاح الدين الفاضل” و”معتصم” في دراما الإذاعة، وقد علا صوت “مكي سنادة” يُذكرنا بـ (خطوبة سهير) وقد وضع “حمدنا الله عبد القادر” كل مخزونه من نظيف العامية في حوار الشخوص!! و”عمر الجُزلي” يغسل الفضاء بحديث الدموع..
هل أعادت لنا إذاعة (ذاكرة الأمة) القدرة على استرجاع ذلك الوجع الوخاذ اللذيذ؟ نعم!! وكثير من مفردات الرضا والاستحسان والإحسان.
هل إذا استمع شباب اليوم يُحس ويشعر بتفرد مُفرداتها وبعدها عن السطحية؟ وكيف أن فيها كنوزاً وأمجاداً ومعرفة؟!
وللذين هم من جيلنا.. هل وقعوا على مؤشر الراديو الذي يوصل إلى إذاعة تُحيلهم من المعاش بعقد خدمة جديد مع الرضا والسرور.. إني أفعل ذلك!! فهل من تابع بإحسان؟!