بعد.. ومسافة
أزهار جديدة في حديقة الحرية..!
مصطفى أبو العزائم
ماذا يعني صدور صحيفة جديدة في أي مجتمع؟ من المؤكد أنه يعني محاولة جديدة للتعبير أو التغيير مثلما يعني أنه إضافة رئة جديدة يتنفس بها المجتمع، ويعني وجود ناصح (متطوع) للحكومة وللمواطن على حد السواء، لأن الصحافة في أعظم وأفخم تعريفاتها هي التعبير عن حركة المجتمع سواء كانت تلك الحركة سالبة أم في الاتجاه الصحيح.. طبعاً هذا غير تعريفات أخرى بينها أن الصحافة رائدة للتغيير وقائدة له في مجتمعاتها بما تطرحه من آراء تحاكم بها الواقع الراهن، وغير ذلك من تعريفات.
استقبلت الخرطوم خلال عشرة أيام ثلاث صحف جديدة هي (القرار) و(مصادر) و(صوت الجمهور) وهي تستحق أن نشيد بها قبل أن نهنئ لسببين رئيسيين الأول هو حالة الإحباط التي يحاول البعض بثها أمام كل صاحب رغبة في خوض تجربة إصدار الصحف، ثم تخويف الفرد أو المجموعة من أن التجربة ستكون مريرة وقاسية في ظل تراجع عام لقراءة الصحف الورقية.
أما السبب الثاني للإشادة فهي روح التحدي لدى أصحاب الفكرة في الصدور وهم يرون أن بلادنا في حاجة حقيقية لصدور صحف جديدة ليس بالضرورة أن تكون نسخاً مكررة من التجارب السابقة، صحف تعبر عن آراء ناشريها وهم يحملون شعار التجديد مع التجويد، ولعمري إنها تجربة تستحق الاهتمام والمتابعة والدراسة لاستخلاص نتائج آنية أو مستقبلية عن تلك التجارب.
طبعاً هناك سبب آخر ومهم، وهو تشغيل عدد كبير من الصحفيين المحترفين الذين تستقبل الساحة الصحفية كل عام المئات منهم من خريجي كليات الإعلام أو الكليات الأخرى ممن يجتاوزون امتحان نيل السجل الصحفي، وقد سبق لنا ولغيرنا أن كتبنا عدة مرات عن عدم التناسب بين أعداد الخريجين وسوق العمل، حيث لم تعد هناك جامعة لا تضم من بين كلياتها كلية للإعلام أو الصحافة.
موقف الحكومة واضح حول تعدد الصحف، هي تريد الدمج وتكوين شركات مساهمة عامة، والناشرون وأهل الصحافة لا يريدون ذلك، بل يعتقد الكثير منهم أن الحكومة لا تريد صحافة حرة بمعنى الكلمة، بل تريد صحافة تأتمر بأمرها لا تخالف ولا تخرج عن الخط المرسوم لها!
كل ما سبق يمكن أن يتم التداول حوله ويمكن أن تتم مناقشته من خلال ورش العمل حول سياسات الدولة والقوانين المنظمة للمهنة، لكن أن يتمسك البعض أو ينادي بأن الصحافة الورقية إلى تراجع فذلك نصف حقيقي لأن الكثير من دول العالم الثالث– وبلادنا من بينها– ما زالت في حاجة إلى الصحافة الورقية، ولو إلى حين، وهذا الحين يختلف من دولة إلى أخرى.. لكن الذي يستوقف حقاً ويصبح حجة أمام القائلين إن الصحافة الورقية إلى زوال، هو أن كثيراً من الدول المتقدمة ما زالت الصحافة الورقية تمثل جزءاً مهماً من منظومتها الإعلامية، وربما كان التغيير الملحوظ هو اقتران الصحف الورقية التقليدية الذائعة الصيت في الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من دول أوروبا اقترانها بالنسخة الإلكترونية التي تشكل هي نفسها صحيفة حقيقية، ولكن في قالب عصري، ترتبط بكل أنواع الوسائط وتقدم الأخبار والتعليقات والتحقيقات بصورة متجددة، بل إن بعضها اتجه لتقديم خدمة البث المباشر للقاءات والمؤتمرات المصيرية والكبرى.
أما الذي يطمئن ناشري الصحف الجديدة التي صدرت أو تلك التي ستصدر مستقبلاً خلال العشر سنوات القادمة، فهو صدور صحيفة بريطانية جديدة للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً حتى بعد أن اتخذت صحيفة (الإندبندت) قراراً بوأد نسختها الورقية للأبد.. لقد صدرت في (لندن) صحيفة جديدة قبل فترة قصيرة تحمل اسم (اليوم الجديد) – New Day – منذ فبراير الماضي عن مجموعة (ترينتي ميرور) التي تصدر عنها صحيفة (مرآة اليوم) أو (ذي ديلي ميرور) الشعبية والأعلى توزيعاً في المملكة المتحدة، التي إن لم تكن ترى خيراً في إصدار صحيفة ورقية جديدة لما فعلت ذلك وما قامت به.. الصحيفة الجديدة صدرت في (40) صفحة وتوزع من خلال (40) ألف نقطة توزيع وتباع بنصف جنيه إستراليني، وقد أشارت الصحيفة منذ أول يوم من أيام صدورها إلى أنها ستكون مستقلة تماماً عن شقيقتها الكبرى الـ(ديلي ميرور)، وأنها ستغطي الأحداث المهمة بمهنية وحيادية وتوازن، ولا تسعى إلى فرض رأي بعينه على قارئها، أي أنها ستعمل وفق المبدأ الأشهر في دنيا الصحافة (الخبر مقدس والرأي حر)، وهي مقولة مشهورة للمك “محمد الخامس” والد الملك “الحسن الثاني” وجد الملك المغربي الحالي الملك “محمد السادس”.
أما أطرف ما في أمر صدور هذه الصحيفة فهو ما قالت به رئيس تحريرها “أليسون فيليبس” التي عزت تراجع مبيعات الصحف إلى أن تلك الصحف لم تعد تستهوي القراء ولا تلبي تطلعاتهم، لذلك هم الآن في حاجة إلى صحافة جديدة.