بُعد ومسافة
مجلس أعلى لمكافحة الفقر.
. مصطفى أبو العزائم
أو بالأحرى هو مجلس أعلى لتنسيق جهود مكافحة الفقر، مثلما جاء في المقترح الذي تقدم به وزير ديوان الحُكم الاتحادي لمجلس الوزراء قبل يومين، وقد أجيز المقترح ليكون المجلس برئاسة السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية، رئيس مجلس الوزراء القومي، الفريق أول “بكري حسن صالح”.
الفكرة قطعاً جيدة لكننا نخشى عليها من الوقوع في براثن المؤسسات القديمة التي لم تقدم طرحاً جديداً أو فكرة متقدمة لمحاربة الفقر الذي بلغت نسبته بيننا نحو (46%) ونرى أنها في زيادة مع تدهور قيمة العُملة الوطنية، وارتفاع الأسعار غير الطبيعي شبه اليومي، والذي ينعكس بدوره على الخدمات العامة التي تعتمد في تسييرها على عائد المحليات من الرسوم المحلية التي أنهكت الناس غير الضرائب الرسمية المباشرة وأخرى غير مباشرة يضطر المواطن مجبراً على سدادها، وإلا فلا خدمة، وهي كثيرة (ومزعجة).
مكافحة الفقر هو مسؤولية الحكومة كلها، لا مسؤولية مجلس أعلى يعمل للتنسيق مع مؤسسات قائمة أصلاً لم ترَ ثمراً لغرسها إلا في حالات قليلة نادرة، لأن هناك عقليات (حكومية) و(بيروقراطية) لا تريد دخول المجتمع شريكاً في هذا المشروع العظيم.. ونحن أن عدنا إلى الوراء قليلاً لوجدنا أن مساهمات المجتمع قد سبقت الحكومة في كثير من المشروعات، بدءاً من التعليم و(معهد وطني العزيز) والمدارس الأهلية التي وقفت في مواجهة (مدرسة المبشر).. وقد نهض بالمشروع تجار وكبار موظفين ومعلمين تطوعوا بالعمل دون مقابل بدايات المشروع، ثم كانت بعد ذلك مشروعات المستشفيات والمراكز الصحية التي لا زالت حتى يومنا هذا تحمل أسماء منشئيها من أمثال رجال البر والإحسان “سعد أبو العلا” و”عبد المنعم محمد” و”أبو زيد البلك” وغيرهم وغيرهم..
حتى الجامعات الأهلية كانت ثمرة بذرة الخير في نفوس أبناء هذا الوطن.. بل إنها تعاملت برسم خاص مع أصحاب الحالات التي تستدعي التخفيض، وبإعفاء تام من الرسوم للمتفوقين من الفقراء.
نحن مجتمع غني بالقيم، ونحن دولة غنية بالموارد (الخاملة) أو تلك التي لا نعرف لها استغلالاً حتى أننا أصبحنا شعباً فقيراً على أرض غنية، مثل الذي ينام على صندوق الكنز ولا يملك ثمن وجبة.
أكثر مشاكلنا الاجتماعية أسبابها الفقر، عزوف الشباب عن الزواج بسبب الفقر والتقاليد المجتمعية القديمة البالية التي أحالت الفتاة إلى سلعة لا تمنح إلا لمن يدفع أكثر، فكانت النتيجة أن أكثر من أربعين في المائة من بناتنا تجاوزت أعمارهن الثلاثين دون زواج، وأكثر من نصف شبابنا تجاوزت أعمارهم الخامسة والثلاثين دون زواج.
الفقر دفع بأبنائنا إلى الخارج، فخرجت القوة المنتجة، وغادرت الخبرات وأوشك مجتمع الداخل على الشيخوخة السابقة لأوانها، وغير ذلك نجد أن ارتفاع نسب الطلاب لا تكون إلا بسبب الفقر، وإن الانحرافات بين الشباب أسبابها الفقر مع تأخر سن الزواج.
نحن في حاجة إلى مشروعات حقيقية وجادة تخرج بمجتمعنا من الفقر، مشروعات تجعل الأحلام المستحيلة حقوقاً سهلة المنال ويتداول البعض طرفة مؤلمة تقول إن إحدى مقدمات البرامج في واحدة من الفضائيات الأجنبية سألت شاباً سودانياً عن أحلامه في العام الجديد وما بعده، فأجاب الشاب أنه يحلم بوظيفة بعد التخرج ثم زوجة لتكمل معه مشوار الحياة ومنزل يضمه معها وأطفالهما الذين يجيئون نتيجة ذلك الزواج.. هنا فغرت المذيعة فاهها وقالت له يبدو أنك لم تفهم سؤالي.. أنا أسألك عن أحلامك لا عن حقوقك.
ترى هل هناك صورة بائسة أكثر من هذي؟
الفقر لا يحارب هكذا، الفقر يحارب بالجدية والمسؤولية والتخطيط السليم ونحن نريد مجتمعاً ثرياً وغنياً تتوفر فيه الحاجات والخدمات لكل مواطن، نريد مجتمعاً لا يشكو النقص في إمدادات المياه ولا النقص في المدارس ولا الخدمات الصحية.. يقدمها للجميع بلا مقابل، وبعد ذلك لن نشكو الفقر.