هل غطى بريق "الترابي" على تلاميذه في الدوحة؟!
حار المراقب إزاء دولة قطر التي تجمع النقائض وتفتح أبوابها لمن تُصد أبواب حكوماتهم في وجوههم.. وفي الأرض القطرية أكبر قاعدة أمريكية في الخليج (السيلية)، ووجود مشروع لدولة إسرائيل، وأكبر أكاديمية لكرة القدم في آسيا، وأشهر لاعب بل أسطورة أسبانيا “راؤول غونزليس” يلعب من أجل المال القطري في نادٍ صغير بعد أن لعب في ريال مدريد وشالكة الألماني.. ود. “يوسف القرضاوي” حينما تعرض للملاحقة والتضييق رحبت به قطر ضيفاً وخطيباً في مساجدها، ولاذ بدوحة العرب أبناء “صدام حسين” بعد سقوط بغداد تحت أحذية جند الولايات المتحدة الأمريكية المتمركزين في (السيلية).. ولجأ للدوحة “علي بلحاج” زعيم الإسلاميين في الجزائر وأبناء “أسامة بن لادن”.. وتبث قناة الجزيرة بأفق مفتوح ما يثير غضب العالم العربي القديم والعالم العربي ما بعد الربيع الذي اجتاح بعض بلدانه.. وهناك من ينتظر، والجزيرة تغضب الحكام، وتزيح عن الشعوب رهق النضال.
وفي قطر اجتمع الأسبوع الماضي مفكرون وقيادات للتيارات الإسلامية والعلمانية وأنصاف العلمانيين في ندوة عنوانها (الإسلاميون والثورات العربية)، نظمها مركز الجزيرة للدراسات الذي أسندت إدارته للدكتور “صلاح الدين الزين” بعد أن فقد حظه في الوظيفة العامة ببلده السودان بعد انقسام الإسلاميين، فاحتضنته الدوحة التي جاءت بالدكتور “عزمي بشارة” النائب البرلماني العربي الوحيد في الكنيست الإسرائيلي، وجعلت لـ “عزمي بشارة” المثير للجدل في الأوساط العربية والإسلامية مركزاً للدراسات العربية والأبحاث في الدوحة التي تجمع (العلمانيين والإسلاميين)، وتخطط لمشروعات عربية وإسلامية تعجز عنها قوى ودول أغنى منها مالاً، وأكثر منها تعداداً.. حيث تعداد القطريين مليون وتسعمائة وثمانية وسبعون ألف نسمة، منهم مليون ومائتان وأربعة وخمسون ألفاً من الذكور، ويبلغ عدد القطريات أربعمائة ألف ومائتين وأربعين امرأة، ومثل هذا العدد قد تجده في السودان كمحترفات صناعة الشاي في المقاهي والأسواق من السودانيات والوافدات من القرن الأفريقي، ولكن الدول من حيث مظاهر القوة والعنف لا تقاس بعدد السكان.. ولا يعرف لقطر في الماضي السحيق أو القرون الحديثة حضارة مثل بابل في العراق أو الفرعونية في مصر أو المروية في السودان، والتركية في اسطانبول أو الرومانية والفارسية.. لكنها دولة نشأت حديثاً ووهبت من الثروات (بترول وغاز) ما جعلها ثقيلة الوزن إقليمياً ودولياً، ويخشى غضبها الأمريكان، ويطلب ودها الروس، وتسعى لصداقتها حتى ألمانيا التي كانت بفكرها (الهتلري)، تظن نفسها فوق الجميع، ودولة مثل الهند تجاوز سكانها المليار من البشر لا تقوى على أن تفعل ما تقوم به قطر..
وندوة (الإسلاميون والثورات العربية)، التي استضافتها قطر، تعبر عن طموح لقيادة وريادة في المنطقة بالأصالة أو بالوكالة، وتلك قصة أخرى، لكن اختيار (مركز الجزيرة) لعنوان مثير كالذي جاءت تحت سقفه الندوة، والقدرة المدهشة في جمع “الترابي”، و”الغنوشي” و”فهمي هويدي”، و”عبد العالي حامي الدين” من المغرب، ود. “أمين حسن عمر”، والشيخ “حمد بن ثامر آل ثاني”.. فيما غاب السلفيون والتكفيريون عن الندوة لسبب وآخر، ولكن هل شكلت اعترافات الإسلاميين حول الثورات العربية والمستقبل القادم؟!
{ الإسلاميون.. مرجعيات ومدارس
تتعدّد المدارس الإسلامية التي نهضت القرنين الماضيين، ولكل حركة خصائصها الفكرية وظروف الواقع الذي تعيشه من حركة إسلامية في فلسطين من خلال حقبتي ما بعد 1948م، وحركة المقاومة الإسلامية حماس، وما صاحبها من مخاطر، ووجود ومحاولات استئصال من العدو الخارجي، ومن أعداء الحركة في الداخل الفلسطيني الذي تموج في داخله التيارات العلمانية، وما تعرضت له التجربة من (خيانات) ومحن وابتلاءات وضعف وقوة وعسر ويسر وعزة ومسكنة.. وهل حركة إسلامية تعيش في ظرف مواجهة مع عدو كإسرائيل تستطيع بناء نفسها وتحصن وتزكي عضويتها من شرور النفس الأمارة بالسوء وتربيها وفق المشروع الإصلاحي الاجتماعي الذي تدعو إليه الحركات السلفية في دولة مثل السعودية، تعيش الاستقرار ورغد العيش.. وتجعلها تهتم بتدريس الفقه والعقيدة والسيرة النبوية.. بينما تجربة الحركة الإسلامية الباكستانية تواجه مخاطر أخرى، وتعمل في أوساط اجتماعية تختلف عن فلسطين والسعودية، وتلك الفروقات ما يعرف بتأثير الزمان والمكان الذي أشار إليه “خير الدين التونسي” المفكر القادم إلى بلاد العنب والزيتون من أرمينيا كعبد (رقيق)، لكنه ارتقى بالعلم والمعرفة والإسلام الذي لا يفرق بين جنس وهوية، حتى مرتبة كاتب الدولة، وهو المفكر الذي رفد المكتبة الإسلامية بواحد من درر العلم واللغة الرصينة (عجائب الأمصار وغرائب الأسفار)، فهل التجربة التونسية التي تتخلق الآن في رحم حكومة “المرزوقي” و”راشد الغنوشي” تستمد من تاريخ تونس القديم الحكمة والانفتاح أم تحاصرها مشكلات العصر، وتنكفئ على نفسها؟!
وقد تبدى اهتمام “الغنوشي” بالداخل التونسي حتى في استدلالاته بحادثة “بوعزيزي” عامل (الدرداقة) أو (المهمش) باصطلاحات السودانيين، حينما قال في ورقته التي وجدت آذاناً صاغية لفلسفته العميقة النابعة من دراسة “الغنوشي” للفلسفة في مصر: خلافاً لحالات عديدة من إحراق أشخاص لأنفسهم شكل إحراق “البوعزيزي” لنفسه حدثاً كونياً؛ لأنه أطلق شرارة أسقطت دكتاتورية “بن علي”!.. وبدا “الغنوشي” مزهواً بظاهرة “البوعزيزي” دونما سؤال عن مشروعية قتل الإنسان لنفسه من أجل تغيير واقع سياسي، فهل يحق للإنسان المسلم إحراق نفسه تعبيراً عن غضبه في وجه حاكم ظالم؟!
و”الغنوشي” الذي تجاوز مشروعية قتل الإنسان لنفسه لدرء مفسدة أو جلب مصلحة كان يصغى لـ “الترابي” الذي يعبر عن مدرسة أخرى وصلت إلى أهدافها في بلوغ السلطة بانقلاب عسكري في غسق الليل.. حينما وجه “الترابي” سهامه إلى صدر النظام الذي خرج منه أو أخرج عنوة بقوله (جنحت بتجربة السودان فتنة الطمع إلى الحيل حتى أكل الربا تداعى لإباحته متفيقهون متعالمون يتلقون أجراً ليجيزوه بحيلة الضرورة التي تفتح أبواباً على إطلاقها).
والدكتور “الترابي” مثل الشيخ راشد “الغنوشي” طغت على ورقته جاءت – تحت عنوان ابتلاءات مقاربة السلطان – (منكفئة) على جراحات الخلاف السياسي والانشقاق الذي تعرضت له التجربة السودانية، بينما انتظرت النخب والقيادات الإسلامية من “الترابي” إجابات لأسئلة عميقة عن أثر الصوفية على التجربة الإسلامية في السودان، وكيف استوعب الإسلاميون الحركيون الصوفية، فأفادوا التجربة حشداً وكماً، وأفادت الحركة الإسلامية الصوفية في حقبة الحكم سلطة ومالاً. والآن على رأس وزارة الإرشاد والتوجيه والأوقاف الشيخ “الياقوتي”، وهو صوفي لا يُعرف له انتماء سياسي صارم.. وتاريخياً الصوفية كانوا الأقرب لطائفة الختمية في وسط السودان وشماله.. ويجمع طائفة التجانية وحزب الأمة في غرب السودان تحالف غير مكتوب.. وتجربة تحالف الإسلاميين والمؤسسة العسكرية كانت تستحق التأمل والقراءة الموضوعية، لا القراءة الوصفية المتربصة بكل سوءات الحاضر..
و”الترابي” بلغته الرصينة الغنية، التي تجمع بين تجديدات هيجل الفلسفية ولغة الإمام الشاطبي الأصولية رغم مضمونها العملي، كما أشار بهذا الوصف د. “محمد مختار الشنقيطي”، جعلته يتحدث عن التجربة التركية، وينفي وجود تجربة إسلامية في تركيا، بقوله: إن ما يحدث في تركيا أن بلغت الحركة الإسلامية السلطة، ولكنها واجهت واقعاً، وهو مجتمع علماني متطلع نحو أوروبا، ولم تطرح الحركة الإسلامية برنامجاً ورؤية، ولكنها تأثرت بالواقع.
ولكن “راشد الغنوشي” اعتبر التجربة التركية رائدة ومتقدمة وعصرية ينبغي النظر إليها بعمق، ودون أحكام متعسفة تصدر في لحظات نشوة بنصر يراه البعض أو حالة تمنٍ لأشواق في النفس.. وإن كثيراً من العلمانيين في الوطن العربي لم يستوعبوا أنه لا وصاية على الشعب، ولم يهضموا قضية المواطنة والديمقراطية كسبيل لإدارة الحكم ومكاسب الحداثة..
وعدّد “عبد العال حامي الدين”، وهو من القيادات الإسلامية في المغرب، سلبيات الثورات العربية وإيجابياتها، وقال: العنف وسفك الدماء يظل عملاً منبوذاً، وتعف عنه النفس البشرية، ولكن الإسلاميين تعرضوا من قبل لأعنف قمع في التاريخ الحديث، والآن انتقل الإسلاميون من (مهمشين) لفاعلين في بلدانهم، ولذلك يتربص بهم أعداء الإٍسلام في الداخل والخارج.
{ من السجون للقصور!
الندوة التي جمعت لفيفاً من المثقفين والمفكرين اتجهت نحو القراءة التجريدة للواقع بصراحة متناهية، ولكنها أهملت مستقبل التجارب الإسلامية إلى أن وجد الإسلاميون أنفسهم من السجون إلى القصور حكاماً على شعوب ثارت في وجه الفساد الأخلاقي والقيمي، وتاقت لبديل مدني.. وفي مصر التي تمثل تجربتها اختباراً حقيقياً للإسلاميين تواجه حكومة الرئيس “مرسي” مصاعب ومتاعب، وإذا لم تجد السند الإقليمي والدولي، فإن الدولة المصرية نفسها ستتعرض للانهيار، دع الحكومة التي جاءت عبر صناديق الانتخابات.. وتبلغ المعونات الأمريكية التي تغذي الخزانة المصرية (6) مليارات دولار سنوياً، نصفها يذهب للسلاح، والنصف الآخر قمحاً لغذاء الشعب المصري، الذي لن ينتظر “مرسي” لتثمر مشروعاته في الزراعة بالصحراء أو الاتجاه جنوباً للسودان الذي هو الآخر يواجه وضعاً اقتصادياً بالغ التعقيد.. وقد (غشيت) العلاقات السعودية المصرية (توترات).. والسعودية بيدها مفتاح خزائن المال الخليجي.. فهل (تختنق) التجربة المصرية (جوعاً) و(إفقاراً) إذا لم (تستنبط) عقلية مخرجات وتتنفس طبيعياً في غضون شهور من الآن؟ ومرسي يواجه واقعاً دولياً وإقليمياً ليس في مصلحة مصر المتطلعة لدور غاب، وآنت له العودة، وتونس حتى اليوم نجح قادتها في اختيار السلطة، وتوافق “المرزوقي” و”الغنوشي” ولم يغش التجربة تصدع في الجدار الداخلي، ودراسة “الغنوشي” الفلسفية تجعله رجل دولة ينتهج التربية للتعبير الاجتماعي، ولا يستخدم عصا السلطة والقانون لبسط مشروعه.
السؤال هنا لماذا لا يعتبر الإسلاميون القادمون إلى السلطة من المعارضة والسجون تجربة السودان صراطاً يمشون على هديه، ومعلماً منه تؤخذ الدروس ليوم الامتحان؟
تجربة السودان التي تعرضت لتشويه من أبنائها وصناعها والمتربصين بها فقدت الكثير من بريقها، خاصة بعد حصادها انفصالاً لثلث التراب وذهاب (70%) من عائدات النفط وتهديد الحروب التي تستعر الآن في ما تبقى من الأرض.. وفي الدوحة نصبت لتجربة السودان (مشنقة) رغم وجود “أمين حسن عمر” ود. “مصطفى عثمان إسماعيل”، لكن بريق الترابي طغى على تلاميذه..!