ما بعد "هلال"
انتهت الأحداث في (مستريحة) بالقبض على “موسى هلال”، ونهاية متمرد متوقع أو مرتقب وإحالته للتحقيق، في انتظار ما تسفر عنه التحقيقات لتقديمه للمحاكمة أو إخلاء سبيله، لتبقى العبر والدروس من تجربة (مستريحة) شاخصة في الواقع السياسي والاجتماعي ببلادنا، التي هي بالطبع مقبلة على عهد جديد يختلف كلياً عن السنوات التي خلت ويتمثل ذلك في الآتي:
أولاً على الصعيد العسكري استطاعت القوات المسلحة أن تعود أقوى من أي عهد مضى، بفضل جودة التصنيع الحربي وتوفير احتياجاتها من صنع يدها والاهتمام بالتدريب وتمارين المناورات مع دول صديقة وشقيقة. وبدا واضحاً أن قيادة الجيش الحالية تمضي نحو بناء قوة عسكرية قادرة على ردع التمردات الداخلية وكبح جماح أطماع الجار القريب والطامع البعيد.
ثانياً على الجبهة الاقتصادية كان لتولي الرئيس بنفسه إدارة الأزمة الحالية المتمثلة في إحجام الأشقاء العرب عن دعم السودان باحتياجاته من البترول والارتفاع المضطرد في سعر الدولار والتدني المريع لسعر العُملة الوطنية، وضعف الإنتاج ونضوب البترول وتهريب الذهب، كل هذه الأسباب جعله الرئيس يتولى هذا الملف خاصة ما يتصل منه بالإدارة وحسن توظيف الموارد ووقف المضاربات في الأسواق وقد أثمر ذلك تحسناً نسبياً في انتظار المعالجات الاقتصادية طويلة الأمد بعد أن أدت الإجراءات الأمنية دورها.
ثالثا على الصعيد السياسي تلوح في الأفق مقدمات لتسوية سياسية للنزاع في المنطقتين بعد أن تمت تسوية ملف المعارضة السياسية من خلال مقررات الحوار الوطني، وقد خفت حدة الصراع بين الحكومة والفرقاء المعارضين، وتنفست الساحة قدراً من الحريات قد يدفع المعارضة إلى المشاركة في الانتخابات القادمة بعد أن ظلت تنتهج المقاطعة السلبية
وأخيراً فإن الانعطاف الأخير في العلاقات الخارجية نحو روسيا له أبعاده العميقة على صعيد المنطقة والسودان الذي قدم تنازلات كبيرة، وتولى نيابة عن كل العالم الغربي الحرب على الهجرة نحو أوروبا وصرف من موارده الشحيحة ملايين الدولارات، لم يجنِ من الولايات المتحدة الأمريكية إلا محاولة إرغامه على تقديم مزيد من الضغوط، والخرطوم التي فتحت أبواب التعاون مع واشنطون لمكافحة الإرهاب لم تجد غير تعنت أمريكا ومحاولة إرغامها على تقديم مزيد من التنازل والتدخل السافر في خيارات البلاد الداخلية، من ترشيح لرئاسة الجمهورية وكيف ومتى، والإبقاء على سيف الجنائية مسلطاً على عنق السودان.
وإذا كانت الخرطوم قد أدارت ظهرها لحليفتها السابقة إيران، ودافعت عن السعودية والأراضي المقدسة، وخاضت حرب اليمن على الأرض، فإن أموال التحالف العربي لم تغش السودان، واتجهت إلى حيث تخاذل بعض القادة العرب عن نصرة الرياض في حربها على الشيعة والتشيع، والتنسيق مع السوفيت في الوقت الراهن ضرورة أملتها ظروف قاهرة على الخرطوم.
من هنا فإن السودان سيشهد في النصف الأول من العام الجديد تطورات مهمة جداً على صعيد دارفور، فإن حملة جمع السلاح ستحقق أهدافها وبعد القبض على هلال لن يقوى أحد مواجهة الحكومة بما في ذلك بقايا التمرد التي تلوذ بأعلى قمة في جبل مرة أو المجموعة الخاملة في وادي هور، وفي ذات الوقت لن يقاوم عمليات الجمع القسري حتى حلفاء الحكومة بالأمس بعد الذي حاق “بموسى هلال” وقد سيطرت قوات الدعم السريع عمليا على مناطق ما كانت يد الدولة تبلغها إلا بشق الأنفس وعلى الصعيد السياسي فإن مسألة ترشيح المؤتمر الوطني لرئيسه “البشير” قد أصبحت واقعاً لجملة أسباب نوجزها في الآتي:
لا بديل للحزب في الوقت الراهن إلا “البشير” الذي استطاع إحداث اختراقات كبيرة على الصعيد العسكري والسياسي.
وقد تكشف من خلال الفترة الماضية أن غياب القائد “البشير” عن المشهد السياسي والتنفيذي يعد مغامرة وقفزة في الظلام خاصة وجبهة الحزب تتقاذفها تجاذبات بين التيارات المتعددة ويعد وجود “البشير” بمثابة ضمانة لاستقرار البلاد على الأقل لخمس سنوات قادمة.