تقارير

حق تقرير المصير يثير مخاوف الأغلبية في جبال النوبة

علامات استفهام حول مؤتمر كادوقلي اليوم
(المجهر) تكشف خفايا وجذور مطالب حق تقرير في أجندة الحركة الشعبية
حديث السبت
يوسف عبد المنان

أطروحة حق تقرير المصير لجبال النوبة التي دفعت بها الحركة الشعبية (فصيل كاودة) أثارت مخاوف قطاعات واسعة من أهل الشأن في الإقليم المنكوب بالحرب، بينما عدّتها الحكومة سقفاً تفاوضياً رفعته مجموعة “الحلو” من أجل تحقيق مكاسب في طاولة المفاوضات التي بدأ مخاضها بزيارة مساعد وزير الخارجية الأمريكي للخرطوم الأسبوع الماضي ومطالبته للحركة الشعبية بالموافقة على المقترح الأمريكي الخاص بتوصيل المساعدات الإنسانية للمتضررين.. في الوقت الذي اتخذت فيه الحكومة موقفاً عاطفياً من “عبد العزيز الحلو” وغازلته سراً وعلانية، وأوصدت في ذات الوقت باب التفاوض مع الحركة الشعبية (فصيل عقار) حتى بعد انضمام أحد حلفائها الجنرال “خميس جلاب” إلى “عقار”!! الذين يدعون إلى حكم ذاتي للمنطقتين، ويرفضون من حيث المبدأ أطروحة حق تقرير المصير والتقارب الوجداني والغزل مع الحركة الشعبية فصيل كاودة، هذا يعيد للأذهان تجربة التحالف بين الخرطوم والانفصاليين الجنوبيين وسد الأبواب وإغلاق منافذ الحوار مع الحركة الشعبية (الأم) التي تطرح رؤية وحدوية في إطار سودان جديد.. وقد فتحت الحكومة في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي نافذة حوار معلن مع فصيل د.”رياك مشار” الذي سمى نفسه بحركة استقلال جنوب السودان.. ومعه د.”لام أكول أجاوين” و”كاربينو كوانين” مقابل الحركة الشعبية فصيل توريت الذي رفض مبدأ الانفصال إلا في حال فشل مشروع السودان الجديد.. وأرغم فصيل توريت على قبول حق تقرير المصير الذي طرحته مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجراد الصحراوي (إيقاد) عام 1994م، ووقعت عليه الحكومة.. واليوم يعيد التاريخ نفسه وتنقسم الحركة الشعبية إلى فصيلين أحدهما انفصالي بقيادة “عبد العزيز الحلو” وآخر وحدوي بقيادة “مالك عقار”، وتقف الحكومة في ذات المنطقة التي وقفت عندها في عام 1992م، وتغازل الفصيل الانفصالي وتشيح بوجهها عن الفصيل الذي طرح الحكم الذاتي في إطار الدولة الموحدة، ونعني بذلك فصيل “عقار” بحسابات خاطئة وتقديرات أمنية أكثر منها قراءة في متون وحواشي الخطاب الذي بثه الجنرال “الحلو” في أعقاب تنصيبه رئيساً للحركة.
{ مخاوف أهل الشأن
يطلق لفظ أهل الشأن وأهل المصلحة وأحياناً الأغلبية الصامتة على المواطنين المغلوبين على أمرهم وهم ينظرون للصراع السياسي تتسع دوائره، وهو صراع، الأصل فيه السلطة، وذلك عن طريق استمالة المواطنين.. وأهل المصلحة أو الشأن هنا هم مواطنو جنوب كردفان في الوطن الجغرافي، أي الرقعة الحالية المسماة بجنوب كردفان أو جبال النوبة، وهي الولاية الوحيدة من بين ولايات البلاد التي لها اسمان شرعيان للولاية وللحاكم، حيث ينص على ذلك دستور البلاد واتفاقية السلام.. وهنا ولاية جنوب كردفان الاجتماعية التي تمتد من أمبدة والحاج يوسف في ولاية الخرطوم إلى حي كوريا وديم عرب في بورتسودان وعطبرة وشندي، حيث فرضت الحرب والنزاعات على ما يربو على الخمسمائة ألف من المواطنين الهجرة القسرية للداخل، وأقل من عشرة ألف لاجئ في بلدان العالم من جنوب السودان حيث حياة البؤس والشقاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا وإسرائيل.. ومن العجائب والغرائب أن دول العالم الثالث حينما تنزل عليها المحن والكوارث يلجأ المواطنون إلى الدول (المستعمرة)، وفي هذه الحالة طبعاً المملكة المتحدة (بريطانيا) يُفترض أن تكون وجهة السودانيين، لكن لسبب أو آخر تعدّ بريطانيا أقل الدول الأوروبية استقبالاً للاجئين من السودان!!
الخوف الذي أنتاب المواطنين من أطروحة حق تقرير المصير له مبرراته، فالتجربة السابقة أكدت أن ما ترفضه الحكومة اليوم تذعن له غداً تحت وطأة الضغوط الخارجية والداخلية والحرص على كرسي الحكم بأي ثمن، والشاهد على ذلك رفض مبدأ حق تقرير المصير لسنوات عديدة وفجأة التنازل عن الوحدة والقبول بالانفصال دون الالتفات لتبعات ذلك مستقبلاً.. وحجم الضحايا والتضحيات التي قدمها الشباب من الشمال والجنوب من أجل وحدة البلاد منذ الاستقلال وحتى معركة توريت 2004م، واليوم (السبت) ينعقد في العاصمة الجنوب كردفانية كادوقلي مؤتمر مهم دعت إليه الإدارة الأهلية لقبيلة الرواوقة التي تمثل رأس الرمح في الدفاع عن وحدة البلاد، وبفضل عطائها وعطاء قبائل النوبة المخلصين لتراب هذا البلد تم دحر التمرد وإحباط مخطط فصل جنوب كردفان، ويقدر عدد شهداء قبيلة الرواوقة وحدها (4) آلاف شهيد سقطوا في المعارك الممتدة منذ عام 1984م وحتى معركة دلدكو العام قبل الماضي، وخلفت الحرب أكثر من ألف أرملة وعشرة آلاف يتيم.. لذلك كان مولانا “أحمد هارون” يحرض الحكومة المركزية على إقامة أعياد اليتيم في جنوب كردفان التي تعدّ أكبر حاضن للأيتام في العالم، ودعوة الإدارة الأهلية لأمراء قبيلة الرواوقة وهم أربعة أمراء “محمد أبو زيد” صحافي وإعلامي هجر القرطاس والقلم والكاميرا وأصبح أميراً لعشيرة الرواوقة دار جامع، والأمير “سند الشين” الوالي، والأمير “عثمان بلال حامد” حكيم الحوازمة وأحد أعمدة الجبال الـ(99)، والأمير “محمود المراد” أمير الرواوقة الشواينة.. والرواوقة شأنهم والحوازمة البيت الكبير، تكوين اجتماعي وثقافي فضفاض وليس مجموعة عرقية مغلقة على نفسها.. لذلك يمثل الرواوقة الثوب الذي يجمع النوبة والعرب والقبائل الواحدة من غرب أفريقيا ودارفور.. واليوم يعدّ البرقو والفلاتة مكونات أصيلة في إمارة الرواوقة وكذلك التكارير والجعليون والتجار الوافدون من وسط وشمال السودان، احتضنتهم قبيلة الحوازمة وبطنها الكبير الرواوقة الذي تمازجوا وتصاهروا مع النوبة أكثر من أية مجموعة عرقية أخرى في السودان، حتى أن أحد بطون الرواوقة يطلق عليهم (أولاد نوبة) بدوافع التعبير عن الذات وإعلان موقف سياسي دفعت إليه القبيلة دفعاً من جهة الحركة الشعبية ومن الحكومة التي تغازل الانفصاليين وتمد معهم جسور التواصل سراً وعلانية، أجمعت قيادات الرواوقة في النظام الأهلي وفي الفضاء السياسي الواسع على ضرورة أن يقول أهل الشأن والمصلحة كلمتهم اليوم.. وفي شأن الحرب والسلام تقف الأحزاب في جنوب كردفان على خط الاتفاق السياسي.. وقد قاتل الأنصار والاتحاديون والبعثيون وأنصار السنّة والصوفية التمرد مع منسوبي المؤتمر الوطني كتفاً بكتف.. لذلك يجتمع اليوم تحت سقف الإدارة الأهلية قيادات المؤتمر الوطني “الشفيع الفكي علي” و”عمر سومي” و”يوسف الغائب” والوزير السابق “علي محمود موسى” وهو آخر دستوري يمثل هذه القبيلة ذات العطاء للسودان مع “حمدان علي البولاد” الأنصاري المقاتل و”عبد الرحمن أبو البشر” آخر الأوفياء للإمام “الصادق المهدي” في كردفان بعد أن تخلى عنه “عبد الجليل الباشا” الناشط اليوم في مؤتمر كادوقلي متجرداً من الثياب الحزبية، والمثقف “إبراهيم بخيت” أحد منسوبي التيار العروبي في السودان، وهو ثمرة لغرس المهندس “سعيد المهدي” الأمين العام السابق لسر حزب البعث العربي الاشتراكي في كردفان، وهو اليوم من المقربين جداً لـ”أحمد هارون” كمهندس مياه لا كسياسي يهتف لا لدنيا قد عملنا.. ومؤتمر كادوقلي يغيب عنه المركز ممثلاً في رئيس فريق التفاوض المهندس “إبراهيم محمود حامد”، ويغيب عنه القطاع السياسي في مجلس الوزراء ويغيب السفراء الذين كان ضرورياً أن يسمعوا لصوت الأغلبية وصرخات الموجوعين من أهل الداخل بعد أن ملأت الحرب الشعبية الفضاء الإسفيري بأطروحات  حق تقرير المصير الذي تم إقراره في مؤتمر هيبان الأخير الذي لم يتعد حضوره الـ(400) شخص.. فكيف لهذا العدد من المتمردين أن يقرروا في مصير (2) مليون نسمة هم سكان جنوب كردفان الجغرافية وجنوب كردفان الاجتماعية؟؟
{ جذور الأطروحات الانفصالية
لم تطرح قضية حق تقرير المصير لجبال النوبة في مؤتمر هيبان الأخير لأول مرة.. بل لهذه الأطروحة جذور عميقة في تربة الصراع السياسي في المنطقة، فالأب “فيليب عباس غبوش” وهو الأب الروحي للتمرد في المنطقة، ونعني التمرد بأبعاده الثقافية والسياسية ولا نعني بالطبع حمل السلاح في وجه الدولة، كان أول من مد جسور التواصل مع الانفصاليين الجنوبيين من خلال الأب “لاهور” بعد ثورة أكتوبر.. وقد عُقد مؤتمر للكنائس في السودان عام 1967م، وتحديداً في 22 يونيو حضره من جبال النوبة الأب “بطرس شوكاي” والد الوزيرة الحالية “تابيتا بطرس” من كنيسة “كاتشا” والمطران حينذاك “فيليب عباس غبوش” من كنيسة أم درمان والمطران “بيتر البرش” رحمة الله عليه.. وفي ذلك المؤتمر تم الاتفاق على أن مصير جبال النوبة يحدده أهلها.. وأن مطالبة الجنوب بالانفصال تفرض على جبال النوبة البحث عن مصيرها ما بين ثلاثة خيارات البقاء في دولة الشمال أو الذهاب مع الجنوب أو تكوين الدولة المستقلة.. ولكن الأب “فيليب عباس غبوش” اختلف بعد ذلك مع الانفصاليين الجنوبيين وعاد لممارسة نشاطه السياسي في الداخل.. وفي أثناء المفاوضات بين اللجنة التي بعث بها تنظيم (الكملو) السري للحركة الشعبية ولقاء د.”جون قرنق” في عام 1984م، واللجنة تتكون من “تلفون كوكو” و”منزول أبو صدور” و”يوسف كوة مكي”.. عرض “جون قرنق” على أبناء النوبة الانضمام للحركة الشعبية والذوبان فيها وربط مصير الجبال بجنوب السودان.. وقد رفض البعض تلك الفكرة، وكان مصيرهم القتل، بينما تنصل “تلفون كوكو” في آخر لحظة عن رفاقه بعد أن رأى بعينيه كيف تم إعدام الرفاق.. وحينما انقسمت الحركة إلى فصلين (الناصر) بقيادة “رياك مشار” وفصيل (توريت) برئاسة د.”جون قرنق” اختار معظم أبناء النوبة الوقوف إلى صف “جون قرنق دي مبيور” والقتال معه في الوقت الذي انشق فيه “محمد هارون كافي” و”يونس دومي كالو” وتم تأسيس الحركة الشعبية قطاع جبال النوبة، الذي قدم ورقة أولى تضمنت استفتاء بشأن جبال النوبة بعد فترة انتقالية.. ودخلت المملكة المتحدة في خط جبال النوبة، ورعى السفير البريطاني “ألن قولتي” في كمبالا ورشة شاركت فيها قيادات حكومية من أبناء المنطقة وافقت على أطروحة الحكم الذاتي، الشيء الذي دفع المرحوم “مجذوب يوسف بابكر”، وحينها كان والياً على جنوب كردفان بعد المفاصلة الشهيرة، إلى شن حملة واسعة على القيادات التي وقعت على مسألة الحكم الذاتي، إلا أن الخرطوم كانت ردة فعلها إعفاء الوالي “مجذوب يوسف” وتعيين الجنرال “محمد مركزو كوكو” مكانه.. وخلال مفاوضات السلام التي جرت في مشاكوس طالبت قيادات من جبال النوبة بحق تقرير المصير على قدم المساواة مع جنوب السودان، إلا أن “علي عثمان محمد طه” الذي كان يقود فريق التفاوض رفض ذلك وتمسك بولاية جنوب كردفان الشمالية التي تحكم عن طريق الفيدرالية وتختار واليها بإرادة أهل المنطقة.. وتقدم السيناتور “جون دانفورث” المبعوث الأمريكي بمقترحات لمعالجة الخلاف حول المنطقتين وأبيي، وتفتقت عبقرية الغرب إلى ما يسمى بالمشورة الشعبية التي عدّتها الحركة الشعبية مجرد لفظ محسن لجوهر استفتاء تقرير المصير.. وجرت تعبئة واسعة في الأوساط النوبية لمقابلة استحقاق المشورة الشعبية، وقد كشف نائب رئيس الحركة الشعبية “جيمس واني أيقا” عند زيارته لجبال النوبة عن نوايا الحركة الشعبية الحقيقية، حينما قال وهو يخاطب جماهير منطقة (كاودة) التي تمثل العاصمة السياسية للحركة: تركنا لكم المشورة الشعبية وهي (جنى انفصال صغير)، وأضاف: (مطلوب منكم تربية جنى الانفصال حتى تتحرروا من هيمنة الجلابة والمسلمين)، بهذه التعابير كشفت الحركة الشعبية عن نواياها الحقيقية.. ولكن الحركة قطاع جبال النوبة وقطاع الشمال (صمتت) عن ذلك لأن “ياسر عرمان” و”مالك عقار” يرفضان الانفصال من حيث المبدأ، وكذا حق تقرير المصير، ونجح “عقار” في تعبئة النيل الأزرق لمشروع الحكم الذاتي واستمال إليه حتى بعض قيادات المؤتمر الوطني مثل “فرح عقار”، وبات “باكاش طلحة” القريب جداً من د. “نافع” من دعاة الحكم الذاتي الذي لا يختلف كثيراً عن الحكم الفيدرالي الحقيقي وليس الحكم الفيدرالي المزيف الذي يعين فيه المركز الولاة والوزراء والمعتمدين، ويجعل من الوالي موظفاً كبيراً يوجه ولا ينفذ.. وبعد حدوث الانقسام المدوي في صفوف الحركة الشعبية الخريف الماضي اختار “عبد العزيز الحلو” الإفصاح علناً عن النوايا الانفصالية بدعم من دولة الجنوب واستخباراتها.. وهناك معلومات عن دور دولة عربية في تحريض أبناء النوبة للمطالبة بالانفصال.. ولكن هل القواعد في الداخل مع أطروحة “الحلو” التي دفع بها؟؟
من واقع قراءة اتجاهات الرأي العام فإن الأغلبية سواء أكانت صامتة أو صاخبة ترفض مبدأ حق تقرير المصير.. خاصة بعد أن بدلت الحكومة في خارطة الولاية التي تم الاتفاق على مشورة مواطنيها واستفتائهم هل ما تحقق من تنفيذ لاتفاقية السلام يكفي أم لا؟؟ تلك هي الصيغة التي وردت في نصوص بروتوكول المنطقتين، وقد قسمت الحكومة الولاية الوارد تعريفها في البروتوكول إلى ولايتين جنوب وغرب كردفان.. وأي استفتاء مستقبلي بالضرورة يشمل مواطني ولاية جنوب كردفان الذين جرى تعريفهم في بروتوكول المنطقتين!! وحينما تجتمع اليوم (السبت) في كادوقلي الإدارة الأهلية والقيادات السياسية من أبناء المنطقة ليقولوا كلمتهم، فإن إعلان كادوقلي لا ينبغي النظر إليه كتعبير عن وجهة نظر الحكومة حتى إن كان هناك تطابق ظرفي بشأنه، إلا أن هناك شكوكاً وخوفاً من استجابة الحكومة للضغوط وتنازلها حول ما جعل قادة الرواوقة يجتمعون اليوم في كادوقلي ليقولوا كلمتهم للتاريخ.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية