رأي

من باريس إلى دار مالي!! (3)

د/ عثمان غانم
بعد رجوعي من نيويورك مكثت قليلاً بالخرطوم وواصلت عملي بوزارة التخطيط وسط اهتمام كبير من الجنس الآخر. سافرت بعد ذلك إلى “دارمالي”. كما ذكرت مراراً فإن زياراتي “لدارمالي”، على الرغم من شحها، إلا أنها كانت تعطيني شحنات من القوة بعد ضعف، ومن السعة بعد ضيق. كنت أرى دائماً أن حياتي في “دارمالي” هي الأصل، وفيما عداها فهو الفرع. فالإنسان وليد بيئته.. عندما وصلت إلى البيت وجدت أبي مع أصدقاء عمره “البشير عبد الماجد” و”مصطفى شيخ البلد”.. استمتعت بمعية أهلي وأصدقائي القدامى، وطفت كل شوارعها ولم أنس أن أزور “جنينة علي المهدي” مهد صبانا ومرتع طفولتنا، وجنينة الخواجات وما تحمله من ذكريات عميقة في الوجدان، وصليت في جامع “الأحمدية” و”جامع جابر” وقضيت بقية الأمسيات في “مسجد الإمام السيد” ونادي “دارمالي”. وختمت ذلك بزيارة “حسن الشيلاوي” الذي يرى بنور الله، كما ذكرت سابقاً، فقد عرفني بمجرد حضوري بجانبه دون أن أعرّفه بنفسي. وطمأنني على صديق طفولتي “عبد القادر” المغترب في “قطر”.. بعد ذلك ودعت أهلي وأخبرتهم بأنني مسافر إلى بريطانيا العظمى ومن ثم إلى أمريكا.. أنا أعلم أنها رحلة إلى المجهول، ولا سبيل لي إلا التوكل على الواحد الأحد، الذي لا يلد ولم يولد.
اكتملت إجراءات سفري إلى لندن تماماً، وقد كان معي في نفس الكورس أحد موظفي الحكومة القدامى، ممن أقاموا في بريطانيا لزمن طويل، وهذا ما جعلني أكثر اطمئناناً من سفرياتي السابقة، التي كنت فيها وحيداً.. عندما ذهبنا إلى المطار كان اليوم ممطراً وكانت هناك مباراة بين الهلال السوداني والزمالك المصري في البطولة العربية. أحرز الهلال فيها هدفاً عن طريق اللاعب “صبحي”، وافتعل الزمالك المصري مشكلة وأُنهيت المباراة دون انتهاء وقتها. وأخيراً عُدّ الهلال منتصراً.
على متن الخطوط الجوية الهولندية الفاخرة طرنا إلى القاهرة ومن ثم إلى أمستردام ومن هناك إلى لندن، عاصمة الضباب.. مطار “هيثرو” يعج بالركاب من مختلف الجنسيات مع حضور كثيف للهنود.. ركبنا بصاً من المطار إلى داخل لندن، وقد اندهشت جداً عندما رأيت السائق رجلاً أبيض، فما عهدت في سفرياتي الكثيرة أن (يشتغل) أحد الخواجات سائقاً.. وبدأت الدهشة تزول عندما رأيت الرجل الأبيض عامل النظافة والمتسول، والمجرم وهلم جرا.. الإعلام الغربي استطاع أن يصور لنا ويحفر في أذهاننا أن الرجل الأبيض فوق الكل، وهو الأكثر ذكاء من أي جنس آخر. وتحضرني هنا مقولة  “روبرت موغابي” عندما ذهب إلى لندن لأول مرة، قال إنه كان يندهش عندما يرى الرجل الأبيض (يشتغل) نادلاً في المطاعم أو ماسحاً للأحذية أو سائقاً للبصات. بدت لي لندن بلدة ملوثة ومتخلفة ومبانيها على الطراز القديم جداً، وذلك عندما أقارنها في مخيلتي بنيويورك الضخمة، والتي تفوقها في العمران وناطحات السحاب.
بما أننا سنمكث زمناً طويلاً في لندن، وقبل أن نؤجر شقة، نزلنا في أحد الفنادق المتواضعة جداً في منطقة “بيز ووتر”، وهي منطقة في قلب لندن تعج بالعرب.. شتان ما بين “الشيراتون” و”الهيلتون” اللذين أقمت فيهما من قبل وهذا الفندق الرديء الذي نعيش فيه.. لقد أخذ الجوع منا مأخذاً، وذهبنا إلى أحد المطاعم الشعبية التي يملكها العرب.. إن هذا المطعم شبيه بمطاعم القاهرة الشعبية، وقد عجبت لمدينة كلندن، ذات شهرة تملأ الآفاق، وبها مطاعم بهذا المستوى.
في الصباح الباكر ذهبنا إلى “الكلية الملكية للعلوم الإدارية” بالقرب من “ريجنت بارك” وهي حديقة ضخمة في وسط لندن. في ذلك اليوم كان لنا شرف أخذ أول قطار تحت الأرض، ويسمى “تيوب”. وجدنا أنه لزاماً علينا أن نبدأ دراسة خطوط “التيوب” المتشابكة عبر خريطة ملونة متاحة في كل محطات القطار، وتعطي لكل خط من الخطوط لوناً مميزاً. وفي هذا الخصوص أذكر اللون الأصفر الذي يرمز إلى خط “السيركل” وهو خط في شكل دائرة مغلقة.
استعنا بقسم خاص بالكلية يساعد الطلاب الأجانب على إيجاد سكن مناسب.. أخيراً استأجرنا شقة متواضعة في شارع متواضع شهير يسمى “بورتوبيللو روود”.. إنه أحد الشوارع الشعبية وبه  سوق يفتح كل (سبت) وتوجد فيه مختلف السلع ويقصده الفقراء من الإنجليز، وعلمنا مؤخراً أن موكباً ضخماً لشعوب البحر الكاريبي يقام كل عام يصل تعداد من يشاركون فيه إلى مليون. وهذا ما جعل الشارع مشهوراً.
انتظمنا في الدراسة وحان شهر رمضان العظيم.. إنه أول شهر رمضان أصومه خارج السودان. إن الفرق بين الصيام في لندن والصيام في السودان كالفرق بين السماء والأرض. تغيب الشمس في لندن في التاسعة والنصف مساءً.. ويحين السحور في الثانية والنصف صباحاً مما يجعل الصيام تسع عشرة ساعة في اليوم. وقد خفف الوضع اعتدال الجو المائل إلى البرودة.. إن للصيام في لندن طعماً خاصاً.. كنا نأتي من الكلية في الساعة الخامسة مساء وننام حتى الثامنة والنصف، ونصحو لنتجه لتناول الإفطار، مجاناً، بالمسجد المركزي بالقرب من “ريجنت بارك” حيث يؤم الإفطار الآلاف من المسلمين من مختلف أنحاء الدنيا.. تذكرت في هذا الخصوص الحديث النبوي الشريف والذي فيما معناه “طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي الثمانية”.. صدق رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، فقد رأيت تفسير هذا الحديث رأي العين.. يتحلق آلاف الناس حول موائد الطعام في المسجد ونأكل حتى نشبع، علماً بأننا صائمون لمدة تسع عشرة ساعة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية