خواطر مهاجر
من باريس إلى دار مالي..!! (1)
دكتور غانم عثمان – كندا
في ذلك اليوم من العام 1988 حلقت بنا الطائرة الفرنسية في سماء نيويورك قادمين من “باريس”.. ولما كانت الشمس ساطعة استطعت أن أتأمل المدينة وكأنني في حلم.. إنه عالم غريب بالنسبة لي أنا “ابن دارمالي”.. في عمر الخامسة بدأت أحلامي بالطواف حول المدن العالمية، ومنها نيويورك.. يا له من حلم يتحقق الآن.. حطت الطائرة في مطار “جون كيندي” الضخم.. الإحصائيات تقول عن المطار إنه، وفي خلال كل ثانية تنزل طائرة وتقلع أخرى.. اندهشت لكثرة ما به من طائرات من مختلف الدول.. البرازيلية.. الماليزية.. سابينا الأسبانية.. التايلندية.. طيران كوستاريكا والفلبين.. وكثير.. كثير… أرهبني منظر عمال المطار وهم يغطون وجوههم بقطع ثقيلة من الجلد للوقاية من البرد.
عندما بدأنا الخروج من الطائرة كنت أستعد لمواجهة الرعب الذي سيصيبني وأنا في نيويورك.. إن مدناً كثيرة لم تدهشني.. حتى باريس وأثينا وإسطنبول.. تابعت العلامات التي ترشد المسافرين في صالات المطار، وعندما خرجنا بدت لي نيويورك عادية.. فقط، عربات “الليموزين” الطويلة جداً أدهشتني..
إن معلوماتي عن نيويورك أنها بلد الإجرام والمجرمين، لذلك كنت أمسك بأمتعتي بقوة، وكنت في حالة حذر شديد.. تبعت الناس وركبت أحد البصات الطويلة التي تربط بين المطار والقطار الذي يسير تحت الأرض. لا أدري إلى أين أنا ذاهب أخذت أول قطار يقف في المحطة، وفي تفكيري أن أي شخص في نيويورك مجرم أو لص.. انطلق القطار، تحت الأرض، بسرعة قصوى وتوالت المحطات.. أناس يركبون وآخرون ينزلون، وأنا ممسك بمتاعي وقابع في مقعدي وكأنني في واحد من أحلامي الليلية المزعجة.. لفت نظري وجود زنوج أمريكان كثيرين وبعضهم يحلق شعره على طريقة “الهدندوة” في “دارمالي” وهم يحلقون أجزاء من شعر الرأس مع ترك شعر منتصف الرأس ينمو.. بدأت العربة التي أركب فيها تفرغ تماماً إلا من فتاتين كانتا تنظران لي بإشفاق.. أخيراً توقف القطار تماماً وأشارت لي إحدى الفتيات أن هذه آخر محطة في سير القطار.. لقد ظللت طيلة فترة ركوبي في القطار تحت الأرض ولم أتمكن من رؤية معالم نيويورك.. أخذت أمتعتي، بحذر شديد، واستعنت بسلم أوتوماتيكي طويل جداً، رأيت مثله في فرنسا، يقود الركاب إلى السطح.. يا لدهشتي.. إنها نيويورك.. عمارات زجاجية عالية لم أر لها مثيلاً في ماضي حياتي.. قلت في نفسي، وأنا شاخص البصر، إن هذه العمارات تناطح السماء لا السحاب. لم تدهشني أي مدينة في العالم.. حتى القاهرة لم تدهثشني كما أدهشتني نيويورك.. قصدت إحدى سيارات الأجرة المصطفة على الطريق.. لقد كان السائق زنجياً أمريكياً.. في التاكسي يوجد حاجز من زجاج سميك بيني وبين السائق. علمت مؤخراً أنه زجاج ضد الرصاص.. سألني عن وجهتي.. أخرجت كثيراً من العناوين التي كنت أحملها معي عندما كنت أعد العدة لزيارة أمريكا. حشرتها في فتحة تسمح بمرور الدولارات فقط.. قلت له: (إلى أي من هذه العناوين).. لاحظ سائق التاكسي اضطرابي.. سألني إن كانت هذه أول زيارة لي لنيويورك.. أجبته بنعم، محاولاً استدرار عطفه، وذلك حتى لا يؤذيني. فقد سمعت أن معظم الجرائم في أمريكا تأتي من الزنوج الأمريكان.. إنني الآن تحت رحمة هذا الزنجي الأمريكي.. استسلمت لقدري، وبدأت أدعو الله في سري، وعربة التاكسي تسير بسرعة جنونية وسط العمارات العملاقة والكباري المتقاطعة المتشابكة والأنفاق الطويلة… أخيراً أوصلني إلى فندق “الشيراتون” المطل على “تايمز سكوير”. إنه ميدان يعدّ مركز ناطحات السحاب في نيويورك.. وهو أحد المراكز السياحية حيث تنطلق منه كل المعارض والفعاليات وحفلات رأس السنة.. الغرفة من الداخل تحفة من فخامة وجمال ونظافة.. كل شيء أبيض، الأغطية، البشاكير، الصابون، حتى التلفاز والمناضد.. لم أر في ماضي حياتي أفخر من هذا الفندق.. لما نظرت إلى الخارج، عبر النافذة المطلة على الميدان، استطعت أن أرى ناطحات السحاب على مد البصر وهي تتلألأ بشتى الألوان. حمدت الله أن أنقذني من ذلك الزنجي الأمريكي وقررت أن لا أعيد التجربة مرة أخرى.
خرجت في الصباح الباكر، وفي جو ممطر، إلى مباني الأمم المتحدة المطلة على “النهر الشرقي” بنيويورك.. كان دليلي في هذه الزيارة أمريكية شقراء ساعدتني في استخراج بطاقة دخول مباني الأمم المتحدة.. عندما أتيت إلى البوابة الرئيسية، وقفت للحظات متأملاً.. هذا المبنى دخله المشاهير من حكام الدول.. “كاسترو”، رئيس كوبا، خطب فيه لمدة أربع ساعات وتسع وعشرين دقيقة، في موقف يخالف الأعراف والتقاليد. و”خروتشوف”، رئيس الاتحاد السوفيتي، رفع حذاءه أمام الجميع ودق به الطاولة التي أمامه وسط دهشة الرؤساء. و”القذافي، رئيس ليبيا، الذي قام بتمزيق ميثاق الأمم المتحدة ورماه على الأرض غير مبالٍ برؤساء الدول.. أين أنا من هؤلاء الحكام المشاهير!! بالطبع، صفر على الشمال.. سرحت بخيالي إلى الماضي البعيد وأنا طفل في العاشرة من العمر.. كنا نتجمع أمام دكان “الشيلاوي” منتهزين فرصة غياب “عم حسن الشيلاوي”.. وبمعية “رمضان يس” و”مبارك النجومي” و”معتصم البشاري” كان “عبد القادر” لا يمنعنا من أخذ الحلوى والبسكويت، ونقضي طيلة النهار هناك متصفحين الصحف الأجنبية القديمة التي كان يستعملها أصحاب الدكاكين بلفها في شكل قرطاس لوضع السكر والدقيق والبقوليات خدمة للزبائن.. كانت تلك الصحف تشتمل على صور ملونة لشخصيات كنا نعرفها دون سابق معرفة لنا باللغة الإنجليزية.. “ريتشارد نكسون” رئيس أمريكا آنذاك، وهو مصور على هيئة “حمار”، و”قولدا مايير” رئيسة إسرائيل، وهي مصورة على هيئة “كلب”.. كنا نتبارى في معرفة الرؤساء وعواصم الدول.. هأنذا الآن في البوابة الرئيسية للأمم المتحدة بنيويورك.. نفس البوابة التي مر بها هؤلاء المشاهير.. إنني لا أساوي شيئاً مقارنة بهم.. لكنني أشعر، وفي دواخلي، بأنني دولة داخل نفسي.. لولا مخافة أن أوصف بالجنون لصحت هنا بأعلى صوتي، في هذه البوابة الرئيسية للأمم المتحدة، مردداً عبارة وردت في رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” (لقد أتيتكم غازياً في عقر داركم) أنا الذي نشأت في شارع “حسن الشيلاوي” بدارمالي.. أنا الذي، ولقلة المدارس، دخلت المدرسة في سن الثامنة، وكنت أقرأ وأكتب قبل دخولي المدرسة.. أنا الذي رأيت جهاز “التلفاز” لأول مرة عندما كنت في سن الرابعة عشرة.. أنا الذي كنت أجوب “شوارع” دارمالي حافياً، لباسي قميص “دمورية” قصير. لو كنتم ولدتم وفي أفواهكم ملاعق من ذهب، فإنني قد نشأت في بلد وفي فمي ملاعق من حب وعطف وحنان.. وفجأة أتت إلى مخيلتي ذكريات الماضي البعيد.. كنا أطفالاً نلعب قرب “قطاطي” محطة “دارمالي”، عندما رأينا “حاج أحمد” ومعه ابنيه “عبد الرحمن” و”بكيرة” قادمون نحونا.. أشاروا إلينا أن نتبعهم وكان “حاج أحمد” يمازحنا.. وعندما وصلنا تفاجأنا بصينية ضخمة مليئة بالثريد والخضروات.. فأكلنا ولعبنا حتى تفرق جمعنا.. هذه هي البلد التي نشأت فيها.. لم تمنعني وقفتي في البوابة الرئيسية للأمم المتحدة من تذكار زمن الطفولة الزاهي.
في الاجتماع، ولأثبت وجودي وسط كل ممثلي الدول، حيث إن معظمهم وزراء وسفراء أكبر مني في العمر، تعمدت أن افتعل المثير من الكلام.. تماماً كما فعل هؤلاء المشاهير.. وقد لاحظت انتباهاً واضحاً من الوفود لكل حديث اتحدثه.. لقد كانت أكثر من المواقف المثيرة عندما هاجمت الدول الرأسمالية متهماً إياهاً بسرقة خيرات الدول الفقيرة. وضربت لهم المثل الآتي: (في عام 1960 كنا نشتري رافعة المياه من دول الغرب بأربع “بالات” من القطن.. الآن نشتري نفس الرافعة بمائة “بالة”).. وهذا يعني أنه قد تمت سرقة أربع وتسعين “بالة”.. من الذي سرقها؟! وهنا تعج القاعة بالضحك.
انقضت أيام المؤتمر ونظم لي أصدقائي من السودانيين في نيويورك برنامجاً زرت من خلاله المعالم الرئيسية في نيويورك، مثل تمثال الحرية، والبرجان التوأم، وحديقة الحيوان، وبعض المتاحف وختمت زياراتي بسنترال بارك، التي لولا أن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لقلت إن هذه هي الجنة.
بعد ذلك طرت عن طريق الخطوط الجوية الألمانية إلى “فرانكفورت” التي قضيت فيها يومين.. لطالما سمعت بألمانيا وتقدمها، وبما أنني آتٍ إلى المانيا من “نيويورك” أو التفاحة الكبيرة، كما يسميها أهلها، فلم أر في فرانكفورت معماراً ولا حضارة.. كل ما رأيته شوارع متسخة وحركة غير منظمة.. فالفارق شاسع بين “نيويورك” والمدن الأوروبية التي زرتها.. بعد ذلك طرت إلى “القاهرة” ونزلت ليومين في فندق ” الهلتون”. لقد كانت القاهرة في نظري في غاية الفوضى والاتساخ والتخلف، وسخرية الأقدار جمعتني بالممثل المصري الشهير “أحمد زكي” والذي كان يقيم إقامة دائمة بفندق “الهيلتون” كما علمت.
نزلت مطار الخرطوم وفي دواخلي تموج فكرة حتمية فراقي الأبدي للسودان بعد ثلاثة أشهر من العام 1988، وذلك لأنني سأغادر إلى دورة دراسية بالمعهد الملكي البريطاني ببريطانيا العظمى.. أخبرني سائق التاكسي أن غباراً قد ضرب العاصمة بالأمس. كنت أشاهد صفوف “البنزين” على محطات الوقود، حيث يمكث الناس ليوم أو يومين للظفر ببعض الجالونات.. ولما وصلت بيت أخي “غالب” بالثورة استقبلوني بفرح دافق، وقد كان التيار الكهربائي منقطعاً تماماً، إضافة إلى أن أخي “غالب” كان يتجهز للذهاب إلى صف “الرغيف” وسيستمر واقفاً هناك حتى الصباح الباكر.
في تلك الفترة نجح أخي “عبد الشافع” نجاحاً باهراً في امتحان الشهادة الثانوية. ولو زادت الدرجات التي أحرزها قليلاً لكان في العشر الأوائل، وهذا ما سيؤهله لدخول كلية الطب بجدارة.. في تلك الفترة من حكومة الأحزاب كان “بكري عديل”، من حزب الأمة، وزيراً للتربية والتعليم.. أصدر قراراً حطم بموجبه آمال الكثير من المتفوقين، ومن ضمنهم أخي “عبد الشافع”.. فبدلاً عن أن يتم القبول للكليات العلمية، مثل الطب والهندسة، بالمجموع، سيُقبَل الطلاب بكلية العلوم، السنة أولى، وسيدخلون بعد ذلك في منافسة أخرى للدخول لتلك الكليات.. لا أدري ما الذي دعا حكومة الأحزاب لاتخاذ ذلك القرار المعيب. كنا نؤمل أن يكون في أسرتنا طبيب، لكن هذا القرار زاد من إحباطنا جميعاً، وما علينا إلا أن نشجع “عبد الشافع” على الصبر وذلك حتى يستطيع أن ينجح في هذا التحدي الجديد.. كان من ضمن من نجحوا في امتحان الشهادة في ذلك العام “عبد اللطيف بارد النسمة” وقد كان نصيبه كلية القانون.
في تلك الفترة من عام 1988 ضربت العاصمة “الخرطوم” سيول وأمطار غزيرة في فترة كان صراع الأحزاب فيها على أوجّه، عندما شاركت الجبهة القومية الإسلامية في حكومة “الصادق المهدي”، بعد أن كانت في المعارضة.. في تلك الفترة قويت شوكة التمرد في الجنوب بقيادة “قرنق” وبدأت تتساقط كثير من المدن الجنوبية في أيدي التمرد.. إن كل هذا لا يعنيني في شيء، فقد رسمت لطريقي في الحياة خطاً مستقيماً.. سأسافر بعد شهور إلى بعثتي الدراسية ببريطانيا العظمي ومن هناك إلى أمريكا، والتي لي بها تأشيرة متعددة لعامين، وسأخوض مغامرات جديدة لا أدري إن كانت أصعب من مغامرات العيش في السودان.
بعد أن هدأت مشاكل السيول والأمطار قليلاً قررت السفر إلى “دارمالي” فقد غبت عنها زمناً ليس بالقصير.. في الماضي كنت أقوى على السفر “باللواري” والقاطرات المزدحمة.. الذي تغير الآن أنني أصبحت إنساناً عابراً للقارات والدول، ولا أظنني أقوى على ذلك السفر القاسي، وهذا ما دعاني للسفر بطائرة الخطوط الجوية السودانية إلى عطبرة، ومن ثم إلى “دارمالي”.